لما ذكر الله سبحانه النكاح والطلاق ، ذكر الرضاع ؛ لأن الزوجين قد يفترقان ، وبينهما ولد ، ولهذا قيل : إن هذا خاص بالمطلقات . وقيل : هو عام . وقوله : { يُرْضِعْنَ } قيل : هو خبر في معنى الأمر للدلالة على تحقق مضمونه ، وقيل : هو خبر على بابه ليس هو في معنى الأمر على حسب ما سلف في قوله : { يَتَرَبَّصْنَ } وقوله : { كَامِلَيْنِ } تأكيد للدلالة على أن هذا التقدير تحقيقي لا تقريبي . وقوله : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } أي : ذلك لمن أراد أن يتم الرضاعة ، وفيه دليل على أن إرضاع الحولين ليس حتماً ، بل هو التمام ، ويجوز الاقتصار على ما دونه . وقرأ مجاهد ، وابن محيصن : «لمن أراد أن تتم » بفتح التاء ، ورفع الرضاعة على إسناد الفعل إليها . وقرأ أبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، والجارود ابن أبي سَبْرَة بكسر الراء من الرضاعة ، وهي لغة . وروي عن مجاهد أنه قرأ : " الرضعة " ، وقرأ ابن عباس : «لمن أراد أن يكمل الرضاعة » . قال النحاس : لا يعرف البصريون الرضاعة إلا بفتح الراء . وحكى الكوفيون جواز الكسر . والآية تدل على وجوب الرضاع على الأم لولدها ، وقد حُمِل ذلك على ما إذا لم يقبل الرضيع غيرها . قوله : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } أي : على الأب الذي يولد له ، وآثر هذا اللفظ دون قوله : وعلى الوالد للدلالة على أن الأولاد للآباء لا للأمهات ، ولهذا ينسبون إليهم دونهنّ ، كأنهنّ إنما ولدن لهم فقط ، ذكر معناه في الكشاف ، والمراد بالرزق هنا : الطعام الكافي المتعارف به بين الناس ، والمراد بالكسوة : ما يتعارفون به أيضاً ، وفي ذلك دليل على وجوب ذلك على الآباء للأمهات المرضعات . وهذا في المطلقات ، وأما غير المطلقات ، فنفقتهنّ ، وكسوتهنّ واجبة على الأزواج من غير إرضاعهنّ لأولادهنّ . وقوله : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } هو : تقييد لقوله : { بالمعروف } أي : هذه النفقة ، والكسوة الواجبتان على الأب بما يتعارفه الناس لا يكلف منها إلا ما يدخل تحت وسعه وطاقته لا ما يشق عليه ، ويعجز عنه ، وقيل : المراد : لا تكلف المرأة الصبر على التقتير في الأجرة ، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف ، بل يراعي القصد .
قوله : { لاَ تُضَارَّ } قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وجماعة ورواه أبان عن عاصم بالرفع على الخبر . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وعاصم في المشهور عنه : «تضار » بفتح الراء المشدّدة على النهي ، وأصله : لا تضارر ، أو لا تضارر على البناء للفاعل ، أو المفعول : أي : لا تضارر الأب بسبب الولد بأن تطلب منه ما لا يقدر عليه من الرزق ، والكسوة ، أو بأن تفرط في حفظ الولد ، والقيام بما يحتاج إليه ، ولا تضارر من زوجها بأن يقصر عليها في شيء مما يجب عليه ، أو ينتزع ولدها منها بلا سبب ، وهكذا قراءة الرفع تحتمل الوجهين .
وقرأ عمر بن الخطاب : «لا تضارر » على الأصل بفتح الراء الأولى ؛ وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : «لا تضار » بإسكان الراء ، وتخفيفها ، وروى عنه الإسكان ، والتشديد . وقرأ الحسن ، وابن عباس : «لا تضارر » بكسر الراء الأولى ؛ ويجوز أن تكون الباء في قوله : بولده ، صلة لقوله تضارّ على أنه بمعنى تضر . أي : لا تضرّ والدة بولدها ، فتسيء تربيته ، أو تقصر في غذائه ، وأضيف الولد تارة إلى الأب ، وتارة إلى الأم ، لأن كل واحد منهما يستحق أن ينسب إليه مع ما في ذلك من الاستعطاف ، وهذه الجملة تفصيل للجملة التي قبلها وتقريرها . أي : لا يكلف كل واحد منهما الآخر ما لا يطيقه ، فلا تضاره بسبب ولده .
قوله : { وَعَلَى الوارث } هو : معطوف على قوله : { وَعلَى المولود لَهُ } وما بينهما تفسير للمعروف ، أو تعليل له معترض بين المعطوف ، والمعطوف عليه . واختلف أهل العلم في معنى قوله : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } فقيل : هو وارث الصبي : أي : إذا مات المولود له كان على وارث هذا الصبي المولود إرضاعه كما كان يلزم أباه ذلك ، قاله عمر بن الخطاب ، وقتادة ، والسدّي ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو حنيفة ، وابن أبي ليلى على خلاف بينهم ، هل يكون الوجوب على من يأخذ نصيباً من الميراث ، أو على الذكور فقط ، أو على كل ذي رحم له ، وإن لم يكن ، وارثاً منه ، وقيل : المراد بالوارث : وارث الأب تجب عليه نفقة المرضعة ، وكسوتها بالمعروف ، قاله الضحاك . وقال مالك في تفسير هذه الآية بمثل ما قاله الضحاك ، ولكنه قال : إنها منسوخة ، وإنها لا تلزم الرجل نفقة أخ ، ولا ذي قرابة ، ولا ذي رحم منه ، وشرطه الضحاك بأن لا يكون للصبيّ مال ، فإن كان له مال أخذت أجرة رضاعه من ماله . وقيل : المراد : بالوارث المذكور في الآية هو : الصبي نفسه . أي : عليه من ماله إرضاع نفسه إذا مات أبوه ، وورث من ماله ، قاله قبيصة بن ذؤيب ، وبشير بن نصر قاضي عمر بن عبد العزيز . وروي عن الشافعي ، وقيل : هو الباقي من والدي المولود بعد موت الآخر منهما ، فإذا مات الأب كان على الأم كفاية الطفل ، إذا لم يكن له مال ، قاله سفيان الثوري ، وقيل : إن معنى قوله تعالى : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } أي : وارث المرضعة يجب عليه أن يصنع بالمولود كما كانت الأم تصنعه به من الرضاع ، والخدمة ، والتربية . وقيل : إن معنى قوله تعالى : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } أنه يحرم عليه الإضرار بالأم كما يحرم على الأب ، وبه قالت طائفة من أهل العلم ، قالوا : وهذا هو الأصل ، فمن ادّعى أنه يرجع فيه العطف إلى جميع ما تقدم ، فعليه الدليل .
قال القرطبي : وهو الصحيح ، إذ لو أراد الجميع الذي هو : الرضاع ، والإنفاق ، وعدم الضرر يقال : وعلى الوارث مثل هؤلاء ، فدل على أنه معطوف على المنع من المضارّة ، وعلى ذلك تأوّله كافة المفسرين فيما حكى القاضي عبد الوهاب . قال ابن عطية ، وقال مالك ، وجميع أصحابه ، والشعبي ، والزهري ، والضحاك ، وجماعة من العلماء : المراد بقوله : { مثل ذلك } ألاّ تضارّ . وأما الرزق ، والكسوة ، فلا يجب شيء منه . وحكى ابن القاسم ، عن مالك ، مثل ما قدمنا عنه ، في تفسير هذه الآية ، ودعوى النسخ . ولا يخفى عليك ضعف ما ذهبت إليه هذه الطائفة ، فإن ما خصصوا به معنى قوله : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } من ذلك المعنى . أي : عدم الإضرار بالمرضعة قد أفاده قوله : { لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا } لصدق ذلك على كل مضارّة ترد عليها من المولود له ، أو غيره . وأما قول القرطبي : لو أراد الجميع لقال مثل هؤلاء ، فلا يخفى ما فيه من الضعف البيّن ، فإن اسم الإشارة يصلح للمتعدد كما يصلح للواحد بتأويل المذكور ، أو نحوه . وأما ما ذهب إليه أهل القول الأوّل من أن المراد بالوارث : وارث الصبيّ ، فيقال عليه إن لم يكن وارثاً حقيقة مع وجود الصبيّ حياً ، بل هو وارث مجازاً باعتبار ما يئول إليه . وأما ما ذهب إليه أهل القول الثاني ، فهو وإن كان فيه حمل الوارث على معناه الحقيقي ، لكن في إيجاب النفقة عليه مع غنى الصبيّ ما فيه ، ولهذا قيده القائل به بأن يكون الصبي فقيراً ، ووجه الاختلاف في تفسير الوارث ما تقدّم من ذكر الوالدات ، والمولود له والولد ، فاحتمل أن يضاف الوارث إلى كل منهم .
قوله : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً } الضمير للوالدين . والفصال : الفطام عن الرضاع . أي : التفريق بين الصبيّ ، والثدي ، ومنه سمي الفصيل ؛ لأنه مفصول عن أمه . وقوله : { عَن تَرَاضٍ منْهُمَا } أي : صادراً عن تراض من الأبوين إذا كان الفصال قبل الحولين : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } في ذلك الفصال . سبحانه لما بين أن مدّة الرضاع حولين كاملين قيد ذلك بقوله : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } وظاهره أن الأب وحده إذا أراد أن يفصل الصبيّ قبل الحولين كان ذلك جائزاً له ، وهنا اعتبر سبحانه تراضي الأبوين وتشاورهما فلا بدّ من الجمع بين الأمرين : بأن يقال إن الإرادة المذكورة في قوله : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } لا بدّ أن تكون منهما ، أو يقال : إن تلك الإرادة إذا لم يكن الأبوان للصبيّ حيين بأن كان الموجود أحدها ، أو كانت المرضعة للصبي ظئراً غير أمه . والتشاور : استخراج الرأي يقال : شُرْتُ العسل : استخرجته ، وشُرْتُ الدابة : أجريتها لاستخراج جريها ، فلا بدّ لأحد الأبوين إذا أراد فصال الرضيع أن يراضي الآخر ، ويشاوره حتى يحصل الاتفاق بينهما على ذلك .
قوله : { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أولادكم } قال الزجاج : التقدير أن تسترضعوا لأولادكم غير الوالدة . وعن سيبويه أنه حذف اللام ؛ لأنه يتعدّى إلى مفعولين ، والمفعول الأول محذوف ، والمعنى : أن تسترضعوا المراضع أولادكم { إذا سلمتم ما آتيتم } بالمدّ ، أي : أعطيتم ، وهي قراءة الجماعة إلا ابن كثير ، فإنه قرأ بالقصر . أي : فعلتم ، ومنه قول زهير :
وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرِ أتَوْه فَإنَّما *** توارثَه آباءُ آبائهم قَبْلُ
والمعنى أنه لا بأس عليكم أن تسترضعوا أولادكم غير أمهاتهم إذا سلمتم إلى الأمهات أجرهنّ بحساب ما قد أرضعن لكم ، إلى وقت إرادة الاسترضاع ، قاله سفيان الثوري ، ومجاهد . وقال قتادة ، والزهري : إن معنى الآية : إذا سلمتم ما آتيتم من إرادة الاسترضاع أي : سلم كل واحد من الأبوين ورضي ، وكان ذلك عن اتفاق منهما ، وقصد خير وإرادة معروف من الأمر ، وعلى هذا ، فيكون قوله : { سَلَّمْتُم } عاماً للرجال ، والنساء تغليباً ، وعلى القول الأول الخطاب للرجال فقط ، وقيل : المعنى : إذا سلمتم لمن أردتم استرضاعها أجرها ، فيكون المعنى إذا سلمتم ما أردتم إيتاءه . أي : إعطاءه إلى المرضعات بالمعروف ، أي : بما يتعارفه الناس من أجر المرضعات من دون مماطلة لهنّ ، أو حط بعض ما هو لهنّ من ذلك ، فإن عدم توفير أجرهنّ يبعثهنّ على التساهل بأمر الصبيّ ، والتفريط في شأنه .
وقد أخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن مجاهد في قوله : { والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن } قال : المطلقات { حَوْلَيْنِ } قال : سنتين { لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا } يقول : لا تأبى أن ترضعه ضراراً لتشق على أبيه { وَلاَ مَوْلُودٌ لهُ بِوَلَدِهِ } يقول : ولا يضارّ الوالد بولده ، فيمنع أمه أن ترضعه ليحزنها بذلك { وَعَلَى الوارث } قال : يعني الوليّ من كان { مِثْلُ ذلك } قال : النفقة بالمعروف ، وكفالته ، ورضاعه إن لم يكن للمولود مال ، وأن لا تضارّ أمه { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ منْهُمَا وَتَشَاوُرٍ } قال : غير مسيئين في ظلم أنفسهما ، ولا إلى صبيهما ، فلا جناح عليهما { وَإِنْ أَرَدتمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أولادكم } قال : خيفة الضيعة على الصبيّ { فَلاَ جُنَاحَ عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف } قال : حساب ما أرضع به الصبيّ . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في تفسير هذه الآية أنه قال : المراد بقوله : { إذا سلمتم ما آتيتم } هي في الرجل يطلق امرأته ، وله منها ولد . وقال في قوله : { والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن حَوْلَيْنِ } قال : ما أعطيتم الظئر من فضل على أجرها .
وأخرج أبو داود في ناسخه ، عن زيد بن أسلم في قوله : { والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن } قال : إنها المرأة تطلق ، أو يموت عنها زوجها . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس في التي تضع لستة أشهر ؛ أنها ترضع حولين كاملين ، وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهراً لتمام ثلاثين شهراً ، وإذا وضعت لتسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهراً ، ثم تلا : { وَحَمْلُهُ وفصاله ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف } قال : على قدر الميسرة . وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن أبي حاتم ، عن زيد بن أسلم في قوله : { لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لهُ بِوَلَدِهِ } ليس لها أن تلقي ولدها عليه ، ولا يجد من يرضعه ، وليس له أن يضارها ، فينتزع منها ولدها ، وهي تحب أن ترضعه { وَعَلَى الوارث } قال : هو وليّ الميت .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عطاء ، وإبراهيم ، والشعبي في قوله : { وَعَلَى الوارث } قال : هو وارث الصبي ينفق عليه . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، عن قتادة نحوه ، وزاد : إذا كان المولود لا مال له ، مثل الذي على والده من أجر الرضاع . وأخرج عبد بن حميد ، عن الحسن نحوه . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، عن ابن سيرين نحوه أيضاً . وأخرج ابن جرير ، عن قبيصة بن ذؤيب في قوله : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } قال : هو الصبيّ . وأخرج وكيع عن عبد الله بن مُغَفَّل نحوه . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } قال : لا يضارّ . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً } قال : الفطام . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد ؛ قال : التشاور فيما دون الحولين ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى ، وليس له أن يفطمه إلا أن ترضى . وأخرجوا أيضاً عن عطاء في قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أولادكم } قال : أمه أو غيرها { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلمْتُم } قال : إذا سلمت لها أجرها { ما ءاتَيْتُم } ما أعطيتم .