التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي  
{۞وَٱلۡوَٰلِدَٰتُ يُرۡضِعۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ حَوۡلَيۡنِ كَامِلَيۡنِۖ لِمَنۡ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَۚ وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ رِزۡقُهُنَّ وَكِسۡوَتُهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ لَا تُكَلَّفُ نَفۡسٌ إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَا تُضَآرَّ وَٰلِدَةُۢ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوۡلُودٞ لَّهُۥ بِوَلَدِهِۦۚ وَعَلَى ٱلۡوَارِثِ مِثۡلُ ذَٰلِكَۗ فَإِنۡ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٖ مِّنۡهُمَا وَتَشَاوُرٖ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَاۗ وَإِنۡ أَرَدتُّمۡ أَن تَسۡتَرۡضِعُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِذَا سَلَّمۡتُم مَّآ ءَاتَيۡتُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (233)

{ والوالدات يرضعن أولادهن } خبر بمعنى الأمر وتقتضي الآية حكمين : الحكم الأول من يرضع الولد ، فمذهب مالك أن المرأة يجب عليها إرضاع ولدها ما دامت في عصمة والده ، إلا أن تكون شريفة لا يرضع مثلها ، فلا يلزمها ذلك ، وإن كان والده قد مات وليس للولد مال : لزمها رضاعه في المشهور ، وقيل : أجرة رضاعه على بيت المال ، وإن كانت مطلقة بائن : لم يلزمها رضاعه ، لقوله تعالى :{ فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن }[ الطلاق :6 ] . إلا أن تشاء هي فهي أحق به بأجرة المثل ، فإن لم يقبل غيرها وجب عليها إرضاعه ، ومذهب الشافعي وأبي حنيفة أنها لا يلزمها إرضاعه أصلا ، والأمر في هذه الآية عندهما على الندب ، وقال أبو ثور : يلزمها على الإطلاق لظاهر الآية وحملها على الوجوب ، وأما مالك فحملها في موضع على الوجوب ، وفي موضع على الندب ، وفي موضع على التخيير حسبما ذكر من التقسيم في المذهب الحكم الثاني مدة الرضاع ، وقد ذكرها في قوله :{ حولين كاملين } وإنما وصفهما بكاملين لأنه يجوز أن يقال في حول وبعض آخر : حولين ، فرفع ذلك الاحتمال ، وأباح الفطام قبل تمام الحولين بقوله تعالى :{ لمن أراد أن يتم الرضاعة } واشترط أن يكون الفطام عن تراضي الأبوين بقوله :{ فإن أرادا فصالا } الآية ، فإن لم يكن على الولد ضرر في الفطام فلا جناح عليهما ومن دعا منهما إلى تمام الحولين : فذلك له ، وأما بعد الحولين فمن دعا منهما إلى الفطام فذلك له ، وقال ابن عباس : " إنما يرضع حولين من مكث في البطن ستة أشهر ، فمن مكث سبعة فرضاعه ثلاثة وعشرون شهرا ، وإن مكث تسعة فرضاعه إحدى وعشرون ، لقوله تعالى :{ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا }[ الأحقاف :15 ] " .

{ وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن } في هذه النفقة والكسوة : قولان :

أحدهما : أنها أجرة رضاع الولد ، أوجبها الله للأم على الوالد ، وهو قول الزمخشري وابن العربي .

الثاني : أنها نفقة الزوجات على الإطلاق ، وقال منذر بن سعيد البلوطي : هذه الآية نص في وجوب نفقة الرجل على زوجته ، وعلى هذا حملها ابن الفرس .

{ بالمعروف } أي : على قدر حال الزوج في ماله ، والزوجة في منصبها ، وقد بين ذلك بقوله :{ لا تكلف نفسا إلا وسعها } .

{ لا تضار والدة بولدها } قرئ بفتح الراء لالتقاء الساكنين على النهي ، وبرفعهما على الخبر ، ومعناها النهي ، ويحتمل على كل واحد من الوجهين ، أن يكون الفعل مسندا إلى الفاعل ، فيكون ما قبل الآخر مكسورا قبل الإدغام ، أو يكون مسندا إلى المفعول ، فيكون مفتوحا ، والمعنى على الوجهين : النهي عن إضرار أحد الوالدين بالآخر بسبب الولد ، ويدخل في عموم النهي : وجوه الضرر كلها والباء في قوله :{ بولدها } و{ بولده } : سببية .

والمراد بقوله :{ ولا مولود له } : الوالد ، وإنما ذكره بهذا اللفظ إعلاما بأن الولد ينسب له لا للأم .

{ وعلى الوارث مثل ذلك } اختلف في الوارث فقيل وارث المولود له ، وقيل : وارث الصبي لو مات ، وقيل : هو الصبي نفسه ، وقيل : من بقي من أبويه ، واختلف في المراد بقوله { مثل ذلك } ، فقال مالك وأصحابه : عدم المضارة ، وذلك يجري مع كل قول في الوارث ؛ لأن ترك الضرر واجب على كل أحد ، وقيل : المراد أجرة الرضاع في النفقة والكسوة ، ويختلف هذا القول بحسب الاختلاف في الوارث .

فأما على القول بأن الوارث هو الصبي فلا إشكال : لأن أجرة رضاعه في ماله .

وأما على سائر الأقوال ، فقيل : إن الآية منسوخة فلا تجب أجرة الرضاع على أحد غير الوالد ، وقيل : إنها محكمة فتجب أجرة الرضاع على وارث الصبي لو مات ، أو على وارث الوالد ، وهو قول قتادة والحسن البصري .

{ وإن أردتم أن تسترضعوا } إباحة لاتخاذ الغير { إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف } أي : دفعتم أجرة الرضاع .