الرضع : مص الثدي لشرب اللبن ، يقال منه : رضع يرضع رضعاً ورضاعاً ورضاعةً ، وأرضعته أمّه ويقال ، للئيم : راضع وذلك لشدّة بخله لا يحلب الشاة مخافة أن يسمع منه الحلب ، فيطلب منه اللبن ، فيرضع ثدي الشاة حتى لا يفطن به .
الحول : السنة وأحول الشيء صار له حول ؛ قال الشاعر :
من القاصرات الطرف لو دب محول***
من الذرّ بفوق الأتب منها لأثَّرا
ويجمع على أحوال ، والحول الحيلة ، وحال الشيء انقلب وتحوّل انتقل ، ورجل حوّل كثير التقليب والتصرّف ، وقد تقدّم أن حول يكون ظرف مكان ، تقول : زيد حولك وحواليك وحوالك وأحوالك ، أي : فيما قرب منك من المكان .
الكسوة : اللباس يقال منه كسا يكسو ، وفعله يتعدى إلى اثنين تقول : كسوت زيداً ثوباً ، وقد جاء متعدياً إلى واحد ، قال الشاعر :
ضمنه معنى غطاء ، فتعدى إلى واحد ، ويقال : كسى الرجل فهو كاسٍ ، قال الشاعر :
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي***
التكليف : الإلزام وأصله من الكلف ، وهو الأثر على الوجه من السواد ، فلان كلف بكذا أي معرى به ، وقال الشاعر :
الوارث : معروف يقال منه : ورث يرث بكسر الراء ، وقياسها في المضارع الفتح ، ويقال : أرث وورث ، ويقال : الإرث كما يقال ألده في ولده ، والأصل الواو .
الفصال : مصدر فصل فصلاً وفصالاً ، وجمع فصيل ، وهو المفطوم عن ثدي أمه ، وفصل بين الخصمين فرق فانفصلا ، وفصلت العير خرجت ، والمعنى فارقت مكانها ، وفصيلة الرجل أقرب الناس إليه ، والفصيلة قطعة من لحم الفخذ ، والتفصيل بمعنى بالتبيين ،
{ آيات مفصلات } وتفصيل كل شيء تبيينه ، وهو راجع لمعنى تفريق حكم من حكم ، فيحصل به التبيين ، ومدار هذه اللفظة على التفرقة والتبعيد .
التشاور : في اللغة هو استخراج الرأي ، من قولهم : شرت العسل أشوره إذا اجتنيته ، والشورة والمشورة ، وبضم العين وتنقل الحركة ، كالمعونة قال حاتم :
وقال أبو زيد : شرت الدابة وشورتها أجريتها لاستخراج جريها ، وكان مدار الكلمة على الإظهار ، فكأن كل واحد من المشاورين أظهر ما في قلبه للآخر ، ومنه الشوار ، وهو متاع البيت لظهوره للمناظر ، وشارة الرجل هيئته لأنها تظهر من زيه ، وتبتدىء من زينته ، وأورد بعضهم عند ذكر المادة هذه الإشارة فقال : والإشارة هي إخراج ما في نفسك وإظهاره للمخاطب بالنطق وغيره . انتهى .
فإن كان هذا أراد أنهما يتقاربان من حيث المعنى فصحيح ، وإن أراد أنهما مشتركان في المادة فليس بصحيح ، وقد جرت هذه المسألة بين الأمير ابن الأغلب متولي أفريقية وبعض العلماء من أهل بلده ، كيف يقال إذا أشاروا إلى الهلال عند طلوعه ؟ وبنوا من الإشارة تفاعلنا ، فقال ابن الاغلب : تشاورنا ، وقال ذلك العالم تشايرنا ، وسألوا قتيبة صاحب الكسائي ، وكان قد أقدمه ابن الاغلب من العراق إلى افريقية لتعليم أولاده ، فقال له : كيف تبني من الإشارة : تفاعلنا ؟ فقال : تشايرنا .
وأنشد للعرب بيتاً شاهداً على ذلك عجزه .
فدل ذلك على اختلاف المادتين من ذوات الياء ، والمادة الأخرى من ذوات الواو .
وقال تعالى : { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } فوجوب الإرضاع إنما هو على الأب لا على الأم ، وعليه أن يتخذ له ظئراً إلاَّ إذا تطوعت الأم بإرضاعه ، وهي مندوبة إلى ذلك ، ولا تجبر عليه ، فإذا لم يقبل ثديها ، أو لم يوجد له ظئراً ، وعجز الأب عن الاستئجار وجب عليها إرضاعه ، فعلى هذا يكون الأمر للوجوب في بعض الوالدات .
ومذهب الشافعي أن الإرضاع لا يلزم إلاَّ الوالد أو الجد ، وإن علا .
ومذهب مالك : أنه حق على الزوجة لأنه كالشرط ، إلاَّ أن تكون شريفة ذات نسب ، فعُرفها أن لا ترضع .
وعنه خلاف في بعض مسائل الإرضاع { حولين كاملين } وصف الحولين بالكمال دفعاً للمجاز الذي يحتمله حولين ، إذ يقال : أقمت عند فلان حولين ، وإن لم يستكملهما ، وهي صفة توكيد كقوله { عشرة كاملة } وجعل تعالى هذه المدة حداً عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع ، فمن دعا منهما إلى كمال الحولين فذلك له .
وظاهر قوله : أولادهن ، العموم ، فالحولان لكل ولد ، وهو قول الجمهور .
وروي عن ابن عباس أنه قال : هي في الولد يمكث في البطن ستة أشهر ، فإن مكث سبعة فرضاعه ثلاثة وعشرون ، أو : ثمانية ، فإثنان وعشرون ، أو : تسعة ، فأحد وعشرون ، وكان هذا القول انبنى على قوله تعالى : { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } لأن ذلك حكم على الإنسان عموماً .
وفي قوله : يرضعن ، دلالة على أن الأم أحق برضاع الولد ، وقد تكلم بعض المفسرين هنا في مسائل لا تعلق لها بلفظ القرآن ، منها : مدة الرضاع المحرمة ، وقدر الرضاع الذي يتعلق به التحريم ، والحضانة ومن أحق بها بعد الأم ؟ وما الحكم في الولد إذا تزوجت الأم ؟ وهل للذمية حق في الرضاعة ؟ وأطالوا بنقل الخلاف والدلائل ، وموضوع هذا علم الفقه .
{ لمن أراد أن يتم الرضاعة } هذا يدل على أن الإرضاع في الحولين ليس بحد لا يتعدى ، وإنما ذلك لمن أراد الإتمام ، أما من لا يريده فله فطم الولد دون بلوغ ذلك إذا لم يكن فيه ضرر للولد ، وروي عن قتادة أنه قال : تضمنت فرض الإرضاع على الوالدات ، ثم يسر ذلك وخفف ، فنزل : { لمن أراد أن يتم الرضاعة } قال ابن عطية : وهذا قول متداع .
قال الراغب : وفي قوله : { حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } تنبيه على أنه لا يجوز تجاوز ذلك ، وأن لا حكم للرضاع بعد الحولين ، وتقوية لإرضاع بعد الحولين ، والرضاعة من المجاعة ، ويؤكده أن كل حكم في الشرع علق بعدد مخصوص يجوز الإخلال به في أحد الطرفين لم يجز الإخلال به في الطرف الآخر ، كخيار الثلاث ، وعدد حجارة الاستنجاء ، والمسح على الخفين يوماً وليلة وثلاثة أيام ، ولما كان الرضاع يجوز الإخلال في أحد الطرفين ، وهو النقصان ، لم تجز مجاوزته .
وقال غيره : ذكر الحولين ليس على التوقيت الواجب ، وإنما هو لقطع المشاجرة بين الوالدين ، وجمهور الفقهاء على أنه يجوز الزيادة والنقصان إذا رأيا ذلك .
واللام في : لمن ، قيل : متعلقة بيرضعن ، كما تقول : أرضعت فلانة لفلان ولده ، وتكون اللام على هذا للتعليل أي : لاجله ، فتكون : مَنْ واقعة على الأب ، كأنه قيل : لأجل من أراد أن يتم الرضاعة على الآباء ، وقيل : اللام للتبيين ، فيتعلق بمحذوف كهي في قولهم : سقياً لك .
وفي قوله تعالى : { هيت لك } فاللام لتبيين المدعو له بالسقي ، وللمهيت به ، وذلك أنه لما قدم قوله : { يرضعن أولادهن حولين كاملين } بين أن هذا الحكم إنما هو : لمن يريد أن يتم الرضاعة من الوالدات ، فتكون : من ، واقعة على الأم ، كأنه قيل : { لمن أراد أن يتم الرضاعة } من الوالدات .
أو تكون ، مَنْ ، واقعة على الوالدات والمولود له ، كل ذلك يحتمله اللفظ .
وقرأ الجمهور : أن يتم الرضاعة بالياء من : أتم ، ونصب الرضاعة .
وقرأ مجاهد ، والحسن ، وحميد ، وابن محيصن ، وأبو رجاء : تتم ، بالتاء من تم ، ورفع الرضاعة .
وقرأ أبو حنيفة ، وابن أبي عبلة ، والجارود بن أبي سبرة كذلك ، إلاَّ أنهم كسروا الراء من الرضاعة ، وهي لغة : كالحضارة والحضارة ، والبصريون يقولون بفتح الراء مع الهاء وبكسرها دون الهاء ، والكوفيون يعكسون ذلك ، وروي عن مجاهد أنه قرأ : الرضعة ، على وزن القصعة ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ : أن يكمل الرضاعة ، بضم الياء ، وقرئ : أن يتم ، برفع الميم ، ونسبها النحويون إلى مجاهد ، وقد جاز رفع الفعل بعد أن في كلام العرب في الشعر .
أن تقرآن على أسماء ، ويحكما***
مني السلام ، وأن لا تُبْلِغَا أحدا
وهذا عند البصريين هي الناصبة للفعل المضارع ، وترك أعمالها حملاً على : ما ، أختها في كون كل منهما مصدرية ، وأما الكوفيون فهي عندهم المخففة من الثقيلة ، وشذ وقوعها موقع الناصبة ، كما شذ وقوع الناصبة موقع المخففة في قول جرير :
ترضى عن الله أن الناس قد علموا***
والذي يظهر أن إثبات النون في المضارع المذكور مع : أن ، مخصوص بضرورة الشعر ، ولا يحفظ أن غير ناصبة إلاَّ في هذا الشعر ، والقراءة المنسوبة إلى مجاهد ، وما سبيله هذا ، لا تُبنى عليه قاعدة .
{ وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } المولود جنس ، واللام فيه موصولة وصلت باسم المفعول و : أل ، كمن ، و : ما ، يعود الضمير على اللفظ مفرداً مذكراً ، ويجوز أن يعود على المعنى بحسب ما تريده من المعنى من تثنية أو جمع أو تأنيث ، وهنا عاد الضمير على اللفظ ، فجاء له .
ويجوز في العربية أن يعود على المعنى ، فكان يكون : لهم ، إلاَّ أنه لم يقرأ به ، والمفعول الذي لم يسم فاعله هو الجار والمجرور ، وحذف الفاعل ، وهو : الوالدات ، و : المفعول به وهو : الأولاد ، وأقيم الجار والمجرور مقام الفاعل ، وهذا على مذهب البصريين ، أعني : أن يقام الجار مقام الفاعل إذا حذف نحو : مرّ بزيد .
وذهب الكوفيون إلى أن ذلك لا يجوز إلاَّ فيما حرف الجر فيه زائد ، نحو : ما ضرب من أحدٍ ، فإن كان حرف الجر غير زائد لم يجز ذلك عندهم ، ولا يجوز أن يكون الاسم المجرور في موضع رفع باتفاق منهم .
واختلفوا بعد هذا الاتفاق في الذي أقيم مقام الفاعل ، فذهب الفراء إلى أن حرف الجر وحده في موضع رفع ، كما أن : يقوم من ؟ زيد يقوم .
في موضع رفع ، وذهب الكسائي وهشام إلى أن مفعول الفعل ضمير مبهم مستتر في الفعل ، وإبهامه من حيث إنه يحتمل أن يراد به ما يدل عليه الفعل من مصدر ، أو ظرف زمان ، أو ظرف مكان ، ولم يقم الدليل على أن المراد به بعض ذلك دون بعض ، ومنهم من ذهب إلى أن مرفوع الفعل ضمير عائد على المصدر ، والتقدير : سير هو ، يريد : أي سير السير ، والضمير يعود على المصدر المفهوم من الفعل ، وهذا سائغ عند بعض البصريين ، وممنوع عند محققي البصريين ، والنظر في الدلائل هذه المذاهب تصحيحاً وإبطالاً يذكر في عالم النحو .
وقد وهم بعض كبرائنا ، فذكر في كتابه المسمى ب ( الشرح لجمل الزجاجي ) أن النحويين أجمعوا على جواز إقامة المجرور مقام الفاعل إلاَّ السهيلي ، فإنه منع ذلك ، وليس كما ذكر ، إذ قد ذكرنا الخلاف عن الفراء ، والكسائي ، وهشام .
وممن تبع السهيلي على قوله : تلميذه أبو علي الزيدي شارح ( الجمل ) .
و : المولود له ، هو الوالد ، وهو الأب ، ولم يأت بلفظ الوالد ، ولا بلفظ الأب ، بل جاء بلفظ : المولود له ، لما في ذلك من إعلام الأب ما منح الله له وأعطاه ، إذ اللام في : له ، معناها شبه التمليك كقوله تعالى : { وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة } وهو أحد المعاني التي ذكرناها في اللام في أول الفاتحة ، ولذلك يتصرف الوالد في ولده بما يختار ، وتجد الولد في الغالب مطيعاً لأبيه ، ممتثلاً ما أمر به ، منفذاً ما أوصى به ، فالأولاد في الحقيقة هم للآباء ، وينتسبون إليهم لا إلى أمهاتهم ، كما أنشد المأمون بن الرشيد ، وكانت أمه جارية طباخة تدعى مراجل ، قال :
فلما كان لفظ : المولود ، مشعراً بالمنحة وشبه التمليك ، أتى به دون لفظ : الوالد ، ولفظ : الأب ، وحيث لم يرد هذا المعنى أتى بلفظ الوالد ولفظ الاب ، كما قال تعالى :
{ لا يجزى والد عن ولده } وقال : { لا جناح عليهن في آبائهن }
ولطيفة أخرى في قوله : { وعلى المولود له } وهو أنه لما كلف بمؤن المرضعة لولده من الرزق والكسوة ، ناسب أن يسلى بأن ذلك الولد هو وُلِد لك لا لأمه ، وأنك الذي تنتفع به في التناصر وتكثير العشيرة ، وأن لك عليه الطواعية كما كان عليك لأجله كلفة الرزق ، والكسوة لمرضعته .
وفسر ابن عطية هنا ، الرزق ، بأنه الطعام الكافي ، فجعله إسما للمرزوق .
وقال الزمخشري : فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن ، فشرح الرزق : بأن والفعل اللذين ينسَبكُ منهما المصدر ، ويحتمل الرزق الوجهين من إرادة المرزوق ، وإرادة المصدر .
وقد ذكرنا أن : رزقاً بكسر الراء ، حكي مصدراً ، كرزق بفتحها فيما تقدم ، وقد جعله مصدراً أبو علي الفارسي في قوله : { ما لا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض شيئاً } وقد رد ذلك عليه ابن الطراوة ، وسيأتي ذلك في مكانه إن شاء الله تعالى .
ومعنى : بالمعروف ، ما جرى به العرف من نفقة وكسوة لمثلها ، بحيث لا يكون إكثار ولا إقلال ، قاله الضحاك وقال ابن عطية : بالمعروف ، يجمع جنس القدر في الطعام ، وجودة الاقتضاء له ، وحسن الاقتضاء من المرأة .
ولا يدل على حسن الاقتضاء من المرأة ، لأن الآية إنما هي فيما يجب على المولود له من الرزق والكسوة ، فبالمعروف ، يتعلق برزقهن أو بكسوتهن على الإعمال ، إما للأول وإما للثاني إن كانا مصدرين ، وإن عنى بهما المرزوق ، والشأن ، فلا بد من حذف مضاف التقدير : إيصال أو دفع ، أو ما أشبه ذلك مما يصح به المعنى ، ويكون : بالمعروف ، في موضع الحال منهما ، فيتعلق بمحذوف .
وقيل : العامل فيه معنى الاستقرار في : على .
وقرأ طلحة : وكسوتهن ، بضم الكاف ، وهما لغتان يقال : كُسوة وكِسوة ، بضم الكاف وكسرها .
{ لا تُكلف نفس إلاَّ وسعها } التكليف إلزام ما يؤثر في الكلفة ، من : كلف الوجه ، وكلف العشق ، لتأثيرهما وسعها طاقتها وهو ما يحتمله وقد بين تعالى ذلك في قوله لينفق ذو سعة من سعته الآية وظاهر قوله : { لا تكلف نفس إلاَّ وسعها } العموم في سائر التكاليف ، قيل : والمراد من الآية : أن والد الصبي لا يكلف من الإنفاق عليه وعلى أمه ، إلاَّ بما تتسع به قدرته ، وقيل : المعنى لا تكلف المرأة الصبر على التقصير في الأجرة ، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف ، بل يراعى القصد .
وقراءة الجمهور : { لا تُكلف نفسٌ } مبنى للمفعول ، والفاعل هو الله تعالى ، وحذف للعلم به .
وقرأ أبو رجاء : لا تكلف ، بفتح التاء ، أي : لا تتكلف ، وارتفع نفس على الفاعلية ، وحذفت إحدى التاءين على الخلاف الذي بيننا وبين بعض الكوفيين ، و : تكلف تفعل ، مطاوع فعل نحو : كسرته فتكسر ، والمطاوعة أحد المعاني التي جاء لها تفعل .
وروى أبو الأشهب عن أبي رجاء أنه قرأ : لا نكلف نفساً بالنون ، مسنداً الفعل إلى ضمير الله تعالى ، و : نفساً ، بالنصب مفعول .
{ لا تضارّ والدة بولدها ولا مولود له بولده } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وأبان ، عن عاصم : لا تضارّ ، بالرفع أي : برفع الراء المشددة ، وهذه القراءة مناسبة لما قبلها من قوله : { لا تُكلف نفس إلاَّ وسعها } لاشتراك الجملتين في الرفع ، وإن اختلف معناهما ، لأن الأولى خبرية لفظاً ومعنى ، وهذه خبرية لفظاً نهيية في المعنى .
وقرأ باقي السبعة : لا تضار ، بفتح الراء ، جعلوه نهياً ، فسكنت الراء الأخيرة للجزم ، وسكنت الراء الأولى للإدغام ، فالتقى ساكنان فحرك الأخير منهما بالفتح لموافقة الألف التي قبل الراء ، لتجانس الألف والفتحة ، ألا تراهم حين رخموا : أسحارّاً ، وهم اسم نبات ، إذا سمي به حذفوا الراء الأخيرة ، وفتحوا الراء الساكنة التي كانت مدغمة في الراء المحذوفة ، لأجل الألف قبلها ، ولم يكسروها على أصل التقاء الساكنين ، فراعوا الألف وفتحوا ، وعدلوا عن الكسر وإن كان الأصل ؟ وقرأ : لا يضارِّ بكسر الراء المشددة على النهي وقرأ أبو جعفر الصفار : لا تضار ، بالسكون مع التشديد ، أجرى الوصل مجرى الوقف ، وروي عنه : لا تضار ، بإسكان الراء وتخفيفها ، وهي قراءة الأعرج من ضار يضير ، وهو مرفوع أجري الوصل فيه مجرى الوقف .
وقال الزمخشري : اختلس الضمة فظنه الراوي سكوناً . انتهى .
وهذا على عادته في تغليط القراء وتوهيمهم ، ولا نذهب إلى ذلك .
ووجَّه هذه القراءة بعضهم بأن قال : حذف الراء الثانية فراراً من التشديد في الحرف المكرر ، وهو الراء ، وجاز أن يجمع بين الساكنين : إما لأنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، ولأنَ مدة الألف تجري مجرى الحركة . انتهى .
وروي عن ابن عباس : لا تضارر ، بفك الإدغام وكسر الراء الأول وسكون الثانية .
وقرأ ابن مسعود : لا تضارر ، بفك الإدغام أيضاً وفتح الراء الأولى وسكون الثانية ، قيل : ورواها أبان عن عاصم .
والإظهار في نحو هذين المثلين لغة الحجاز ، فأما من قرأ بتشديد الراء ، مرفوعة أو مفتوحة أو مكسورة ، فيحتمل أن يكون الفعل مبنياً للفاعل ، ويحتمل أن يكون مبنياً للمفعول كما جاء في قراءة ابن عباس ، وفي قراءة ابن مسعود ؛ ويكون ارتفاع : والدة ومولود ، على الفاعلية إن قدر الفعل مبنياً للفاعل ، وعلى المفعولية إن قدر الفعل مبنياً للمفعول ، فإذا قدرناه مبنياً للفاعل ، فالمفعول محذوف تقديره : لا تضارر والدةُ زوجَها بأن تطالبه بما لا يقدر عليه من رزق وكسوة وغير ذلك من وجوه الضرر ، ولا يضارر مولودٌ له زوجته بمنعها ما وجب لها من رزق وكسوة ، وأخذ ولدها مع إيثارها إرضاعه ، وغير ذلك من وجوه الضرر .
والباء في : بولدها ، وفي : بولده ، باء السبب .
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون يضار بمعنى : تضر ، وأن تكون الباء من صلته لا تضر والدة بولدها ، فلا تسيء غذاءه وتعهده ، ولا تفرط فيما ينبغي له ، ولا تدفعه إلى الأب بعدما آلفها ، ولا يضر الوالد به بأن ينزعه من يدها ، أو يقصر في حقها ، فتقصر هي في حق الولد .
ويعني بقوله : أن تكون الباء من صلته ، يعنى متعلقة بتضار ، ويكون ضار بمعنى أضر ، فاعل بمعنى أفعل ، نحو : باعدته وأبعدته ، وضاعفته وأضعفته ، وكون فاعل بمعنى أفعل هو من المعاني التي وضع لها فاعل ، تقول : أضرّ بفلان الجوع ، فالجار والمجرور هو المفعول به من حيث المعنى ، فلا يكون المفعول محذوفاً ، بخلاف التوجيه الأول ، وهو أن تكون الباء للسبب ، فيكون المفعول محذوفاً كما قدرناه .
قيل : ويجوز أن يكون الضرار راجعاً إلى الصبي ، أي : لا يضار كل واحد منهما الصبي ، فلا يترك رضاعه حتى يموت ، ولا ينفق عليه الأب أو ينزعه من أمه حتى يضر بالصبي ، وتكون الباء زائدة معناه : لا تضار والدة ولدها ولا مولود له ولده انتهى .
فيكون : ضار ، بمعنى : ضر ، فيكون مما وافق فيه فاعل الفعل المجرد الذي هو : ضر ، نحو قولهم : جاوزت الشيء وجزته ، وواعدته ووعدته ، وهو أحد المعاني التي جاء لها فاعل .
والظاهر أن الباء للسبب ، ويبين ذلك قراءة من قرأ لا تضارَرْ ، براءين ، الأولى مفتوحة ، وهي قراءة عمر بن الخطاب .
وتأويل من تأول في الإدغام أن الفعل مبني للمفعول ، فإذا كان الفعل مبنياً للمفعول تعين كون الباء للسبب ، وامتنع توجيه الزمخشري أن : ضارٌ به في معنى : أضرَّ به ، والتوجيه الآخر أن : ضارٌ به بمعنى : ضره ، وتكون الباء زائدة ، ولا تنقاس زيادتها في المفعول ، مع أن في التوجيهين إخراج فاعل عن المعنى الكثير فيه ، وهو كون الاسمين شريكين في الفاعلية والمفعولية من حيث المعنى ، وإن كان كل واحد منهما مرفوعاً والآخر منصوباً .
وفي هذه الجمل الأربع من بلاغة المعنى ونصاعة اللفظ ما لا يخفى على من تعاطى علم البيان .
فالجملة الأولى : أبرزت في صورة المبتدأ والخبر وجعل الخبر فعلاً لأن الإرضاع مما يتجدد دائماً ، ثم أضيف الأولاد إلى الوالدات تنبيهاً على شفقتهن على الأولاد ، وهزالهن وحثاً على الإرضاع ، وقيد الإرضاع بمدة ، وجعل ذلك لمن أراد الإتمام .
وجاء الوالدات بلفظ العموم ، وأضيف الأولاد لضمير العام ليعم ، وجمع القلة إذا دخلته الألف واللام ، أو أضيف إلى عام ، عم .
وقد تكلمنا على شيء من هذا في كتابنا المسمى ( بالتكميل في شرح التسهيل ) .
والجملة الثانية : أبرزت أيضاً في صورة المبتدأ والخبر ، وجعل الخبر جاراً ومجروراً بلفظ : على ، الدالة على الاستعلاء المجازي والوجوب .
فأكد بذلك مضمون الجملة ، لأن من عادة المرء منع ما في يده من المال ، وإهمال ما يجب عليه من الحقوق ، فأكد ذلك .
وقدم الخبر على سبيل الإعتناء به ، وجاء الرزق مقدماً على الكسوة ، لأنه الأهم في بقاء الحياة ، والمتكرر في كل يوم .
والجملة الثالثة : أبرزت في صورة الفعل ومرفوعه ، وأتى بمرفوعه نكرة لأنه في سياق النفي ، فيعم ، ويتناول أولاً ما سيق لأجله : وهو حكم الوالدات في الإرضاع ، وحكم المولود له في الرزق والكسوة اللذين للوالدات .
والجملة الرابعة : كالثالثة ، لأنها في سياق النفي ، فتعم أيضاً ، وهي كالشرح للجملة قبلها ، لأن النفس إذا لم تكلف إلاَّ طاقتها لا يقع ضرر لا للوالدة ولا للمولود له ، ولذلك جاءت غير معطوفة على الجملة قبلها ، فلا يناسب العطف بخلاف الجملتين الأوليين ، فإن كل جملة منهما مغايرة للأخرى ، ومخصصة بحكم ليس في الأخرى ، ولما كان تكليف النفس فوق الطاقة ، ومضارة أحد الزوجين الآخر مما يتجدد كل وقت ، أتى بالجملتين فعليتين ، أدخل عليهما حرف النفي الذي هو : لا ، الموضوع للاستقبال غالباً ، وفي قراءة من جزم : لا تضار ، أدخل حرف النهي المخلص المضارع للاستقبال ، ونبه على محل الشفقة بقوله : بولدها ، فأضاف الولد إليها ، وبقوله : بولده ، فأضاف الولد إليه ، وذلك لطلب الاستعطاف والإشفاق .
وقدم ذكر عدم مضارة الوالدة على عدم مضارة الوالد مراعاة للجملتين الأوليين ، إذ بدئ فيهما بحكم الوالدات ، وثنى بحكم الوالد في قوله : لا تضار ، دلالة على أنه إذا اجتمع مؤنث ومذكر معطوفان ، فالحكم في الفعل السابق عليهما للسابق منهما ، تقول : قام زيد وهند وقامت هند وزيد ، ويقوم زيد وهند ، وتقوم هند وزيد ، إلاَّ إن كان المؤنث مجازياً بغير علامة تأنيث فيه فيحسن عدم إلحاق العلامة ، كقوله تعالى : { وجُمع الشمس والقمر }
{ وعلى الوارث مثل ذلك } هذا معطوف على قوله : { وعلى المولود له } والجملتان قبل هذا كالتفسير لقوله : بالمعروف ، اعتراض بهما بين المتعاطفين .
وقرأ يحيى بن يعمر : وعلى الورثة مثل ذلك ، بالجمع .
والظاهر في الوارث أنه وارث المولود له لعطفه عليه ، ولأن المولود له وهو الأب هو المحدث عنه في جملة المعطوف عليه ، والمعنى : أنه إذا مات المولود له وجب على وارثه ما وجب عليه من رزق الوالدات ، وكسوتهن بالمعروف ، وتجنب الضرار .
وروي هذا عن عمر ، والحسن ، وقتادة ، والسدي : وخصه بعضهم بمن يرث من الرجال يلزمه الإرضاع كما كان يلزم أبا الصبي .
لو كان حياً ، وقاله مجاهد ، وعطاء .
وقال سفيان : الوارث هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر منهما ، ويرى مع ذلك إن كانت الوالدة هي الباقية أن يشاركها العاصب إرضاع المولود على قدر حظه من الميراث ، كما قال : «واجعله الوارث منا » .
وقال قبيصة بن ذؤيب ، والضحاك ، وبشير بن نصر ، قاضي عمر بن عبد العزيز الوارث هو الصبي نفسه ، أي : عليه في ماله إذا ورث أباه إرضاع نفسه ، وقال بعضهم : الوارث الولد تجب عليه نفقة الوالدين الفقيرين ، ذكره السجاوندي عن قبيصة بن ذؤيب .
فعلى هذه الأقوال تكون : الألف واللام في قوله : { وعلى الوارث } كأنها نابت عن الضمير العائد على : المولود له ، كأنه قيل : وعلى وارث المولود له .
وقال عطاء أيضاً ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل ، وابن أبي ليلى ، والحسن بن صالح في آخرين : الوارث وارث المولود .
واختلفوا ، فقيل : وارث المولود من الرجال والنساء ، قاله زيد بن ثابت ، وقتادة ، وغيرهما ، ويلزمهم إرضاعه على قدر مواريثهم منه .
وقيل : وارثه من عصبته كائناً من كان ، مثل : الجد ، والأخ ، وابن الأخ ، والعم ، وابن العم .
وهذا يروى عن عمر ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وإسحاق ، وأحمد ، وابن أبي ليلى .
وقيل : من كان ذا رحم محرم ، فإن كان ليس بذي رحم محرم لم يلزمه شيء ، وبه قال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، والشافعي قال : الأجداد ثم الأمهات مثل ذلك أي : الأجرة والنفقة وترك المضارة .
وعلى هذه الأقوال تكون الألف واللام كأنها نابت عن ضمير يعود على المولود ، وكأنه قيل : وعلى وارثه أي وارث المولود .
وقيل : الوارث هنا من يرث الولاية على الرضيع ، ينفق من مال الرضيع عليه ، مثل ما كان ينفق أبوه .
فتلخص في الوارث ستة أقوال ، وفي بعضها تفصيل كما ذكرناه ، فيجيء بالتفصيل عشرة أقوال ، والإشارة بقوله : ذلك ، من قوله : مثل ذلك ، إلى ما وجب على الأب من رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، على ما شرح في الأقوال في قوله { وعلى الوارث } وقاله أيضاً ابن عباس ، وابراهيم ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، والشعبي ، والحسن .
وعبر بعضهم عن هذا القول بأن : مثل ذلك ، هو : أجرة المثل والنفقة ، قال : ويروى ذلك عن عمر ، وزيد ، والحسن ، وعطاء ، ومجاهد ، وابراهيم ، وقتادة ، وقبيصة والسدي .
وقال الشعبي أيضاً ، والزهري ، والضحاك ، ومالك وأصحابه ، وغيرهم : المراد بقوله : مثل ذلك ، أن لا يضار ، وأما الرزق والكسوة فلا شيء منهما .
وروى ابن القاسم عن مالك أن الآية تضمنت أن الرزق والكسوة على الوارث ، ثم نسخ ذلك بالإجماع من الأمة أن لا يضار الوارث . انتهى .
وأنّى يكون بالإجماع وقد رأيت أقوال العلماء في وجوب ذلك ؟
وقيل : مثل ذلك ، أجرة المثل والنفقة وترك المضارة ، روي ذلك عن ابن جبير ، ومجاهد ، ومقاتل ، وأبي سليمان الدمشقي ، واختاره القاضي أبو يعلى ، قالوا : ويشهد لهذا القول أنه معطوف على ما قبله ، وقد ثبت أن على : المولود له ، النفقة والكسوة ، وأن لا يضار ، فيكون مثل ذلك ، مشيراً إلى جميع ما على المولود له .
{ فان أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما } الضمير في : أرادا ، عائد على الوالدة والمولود له ، والفصال : الفطام قبل تمام الحولين .
إذا ظهر استغناؤه عن اللبن ، فلا بد من تراضيهما ، فلو رضي أحدهما وأبى الآخر لم يجبر ، قاله مجاهد ، وقتادة والزهري ، والسدي وابن زيد ، وسفيان وغيرهم .
وقيل : الفطام سواء كان في الحولين أو بعد الحولين قاله ابن عباس .
وتحرير هذا القول أنه قبل الحولين لا يكون إلاَّ بتراضيهما ، وأن لا يتضرر المولود ، وأما بعد تمامهما فمن دعا إلى الفصل فله ذلك إلا أن يلحق المولود بذلك ضرر ، وعلى هذين القولين يكون ذلك توسعة بعد التحديد .
وقال ابن بحر : الفصال أن يفصل كل واحد منهما القول مع صاحبه بتسليم الولد إلى أحدهما ، وذلك بعد التراضي والتشاور لئلا يقدم أحد الوالدين على ما يضر بالولد ، فنبه تعالى على أن ما كان متهم العاقبة لا يقدم عليه إلاَّ بعد اجتماع الآراء .
وقرئ : فإن أراد ، ويتعلق عن تراض ، بمحذوف لأنه في موضع الصفة لقوله : فصالاً ، أي : فصالاً كائنا ، وقدّره الزمخشري صادراً .
و : عن ، للمجاوزة مجازاً ، لأن ذلك معنى من المعاني لا جرم ، وتراضٍ وزنه تفاعل ، وعرض فيه ما عرض في أظبٍ جمع : ظبي ، إذ أصله أظبي على : أفعل ، فتنقلب الياء واواً الضمة ما قبلها ، ثم إنه لا يوجد في لسان العرب اسم آخره واو قبلها ضمة لغير الجمع ، وأنه متى أدّى إلى ذلك التصريف قلبت الواو ياءً ، وحوّلت الضمة كسرةً ، وكذلك فعل في تراضٍ .
وتفاعل هنا في تراض ، وتشاور على الأكثر من معانيه من كونه واقعاً من اثنين ، وأخر التشاور لأنه به يظهر صلاح الأمور والآراء وفسادها ، و : منهما ، في موضع الصفة لتراضٍ ، فيتعلق بمحذوف ، وهو مراد بعد قوله : وتشاور ، أي : منهما ، ويحتمل في تشاور أن يكون أحدهما شاور الآخر ، أو يكون أحدهما شاور غير الآخر لتجتمع الآراء على المصلحة في ذلك .
{ فلا جناح عليهما } هذا جواب الشرط ، وقبل هذا الجواب جملة محذوفة بها يصح المعنى ، التقدير : ففصلاه ، أو ففعلا ذلك ، والمعنى : فلا جناح عليهما في الفصال .
{ وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف } الخطاب للآباء والأمهات وفيه التفات ، إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب ، وتلوين في الضمير ، لأن قبله { فإن أرادا فصالاً } بضمير التثنية ، وكأنه رجوع إلى قوله : والوالدات ، وعلى المولود له .
و : استرضع ، فيه خلاف ، هل يتعدى إلى مفعولين بنفسه ، أو إلى مفعولين الثاني بحرف جر ، قولان .
فالأول : قول الزمخشري ، قال : استرضع منقول من أرضع ، يقال : أرضعت المرأة الصبي ، واسترضعها الصبي ، فتعديه إلى مفعولين ، كما تقول : أنجح الحاجة ، واستنجحته الحاجة .
والمعنى : أن تسترضعوا المراضع أولادكم ، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه ، كما تقول : استنجحت الحاجة ، ولا تذكر من استنجحته ، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأول .
وهو نقلٌ من نقلٍ ، الأصل رضع الولد ، ثم تقول : أرضعت المرأة الولد ، ثم تقول استرضعت المرأة الولد ، واستفعل هنا للطلب أي : طلبت من المرأة إرضاع الولد ، كما تقول استسقيت زيداً الماء ، واستطعمت عمراً الخبز ، أي : طلبت منه أن يسقيني وأن يطعمني ، فكما أن الخبز والماء منصوبان وليسا على إسقاط الخافض ، كذلك : أولادكم ، منصوب لا على إسقاط الخافض .
والثاني : قول الجمهور ، وهو أن يتعدى إلى اثنين ، الثاني بحرف جر ، وحذف من قوله : أولادكم ، والتقدير : لأولادكم ، وقد جاء استفعل أيضاً للطلب معدى بحرف الجر في الثاني ، وإن كان في : أفعل ، معدى إلى اثنين .
تقول : أفهمني زيد المسألة ، واستفهمت زيداً عن المسألة ، فلم يجىء : استطعمت ، ويصير نظير : استغفرت الله من الذنب ، ويجوز حذف : من ، فتقول : الذنب ، وليس في قولهم : كان فلان مسترضعاً في بني فلان دليل على أنه مفعول بنفسه ، أو بحرف جر .
{ فلا جناح عليكم } هذا جواب الشرط ، وقبله جملة حذفت لفهم المعنى ، التقدير : فاسترضعتم أو فعلتم ذلك فلا جناح عليكم في الاسترضاع { إذا سلمتم ما آتيتم } ، هذا خطاب للرجال خاصة ، وهو من تلوين الخطاب .
وقيل : هو خطاب للرجال والنساء ، ويتضح ذلك في تفسير قوله : { ما آتيتم } .
{ وإذا سلمتم } شرط ، قالوا : وجوابه ما يدل عليه الشرط الأول وجوابه ، وذلك المعنى هو العامل في : إذا ، وهو متعلق بما تعلق به : عليكم . انتهى .
وظاهر هذا الكلام خطأ لأنه جعل العامل في إذا أولاً المعنى الذي يدل عليه الشرط وجوابه ، ثم قال ثانياً إن إذا تتعلق بما تعلق به : عليكم ، وهذا يناقض ما قبله ، ولعلّ قوله : وهو متعلق ، سقطت منه ألف ، وكان : أو هو متعلق ، فيصح إذ ذاك المعنى ، ولا تكون إذ ذاك شرطاً ، بل تتمحض للظرفية .
وقرأ ابن كثير : ما أتيتم ، بالقصر ، وقرأ باقي السبعة بالمد ؛ وتوجيه قراءة ابن كثير : أن : أتيتم ، بمعنى جئتموه وفعلتموه ، يقال : أتى جميلاً أي : فعله ، وأتى إليه ، إحساناً فعله ، وقال إن وعده كان مأتياً ، أي : مفعولا ، وقال زهير :
وتوجيه المدِّ أن المعنى : ما أعطيتم ، و : ما ، في الوجهين موصولة بمعنى الذي ، والعائد عليها محذوف ، وإذا كانت بمعنى أعطى احتيج إلى تقدير حذف ثان ، لأنها تتعدى لاثنين أحدهما ضمير : ما ، والآخر ، الذي هو فاعل من حيث المعنى ، والمعنى في : ما آتيتم ، أي : ما أردتم إتيانه أو إيتاءه .
ومعنى الآية ، والله أعلم جواز الاسترضاع للولد غير أمه إذا أرادوا ذلك واتفقوا عليه ، وسلموا إلى المراضع أجورهن بالمعروف ، فيكون ما سلمتم هو الأجرة على الاسترضاع ، قاله السدي ، وسفيان .
وليس التسليم شرطاً في جواز الاسترضاع والصحة ، بل ذلك على سبيل الندب ، لأن في ايتائها الأجرة معجلاً هنياً توطين لنفسها واستعطاف منها على الولد ، فتثابر على إصلاح شأنه .
وقيل : سلمتم الأولاد إلى من رضيها الوالدان ، قاله قتادة ، والزهري ، وفيه بعد لإطلاق : ما ، الموضوعة لما لا يعقل على العاقل ، وقيل : سلمتم إلى الامهات أجرهنّ بحساب ما أرضعن إلى وقت إرادة الاسترضاع قاله مجاهد .
وقيل : سلمتم ما آتيتم من إرادة الاسترضاع ، أي : سلم كل واحد من الأبوين ورضي ، وكان عن اتفاق منهما ، وقصد خير وإرادة معروف ، قاله قتادة .
وأجاز أبو علي : في : ما آتيتم ، أن تكون : ما ، مصدرية أي : إذا سلمتم الإتيان ، والمعنى مع القصر ، وكون : ما ، بمعنى الذي ، أن يكون الذي ما آتيتم نقده وإعطاءه ، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه ، فكان التقدير : ما آتيتموه ، ثم حذف الضمير من الصلة ، وإذا كانت مصدرية استغنى الكلام عن هذا التقدير ، وروى شيبان عن عاصم : ما أوتيتم مبيناً للمفعول أي : ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة ، ونحوها ، قال تعالى : { وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } ويتعلق : بالمعروف ، ب : سلمتم ، أي : بالقول الجميل الذي تطيب النفس به ، ويعين على تحسين نشأة الصبي .
قالوا : وفي هذه الآية دليل على أن للآباء أن يستأجروا لأولادهم مراضع إذا اتفقوا مع الأمهات على ذلك ، وهذه كانت سنة جاهلية ، كانوا يتخذون المراضع لأولادهم ويفرغون الأمهات للاستمتاع بهن ، والاستصلاح لأبدانهن ، ولاستعجال الولد بحصول الحمل ، فأقرهم الشرع على ذلك لما في ذلك من المصلحة ورفع المشقة عنهم بقطع ما ألفوه ، وجعل الأجرة على الأب بقوله : { إذا سلمتم } .
{ واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعلمون بصير } لما تقدّم أمر ونهي ، خرج على تقدير أمر بتقوى الله تعالى ، ولما كان كثير من أحكام هذه الآية متعلقاً بأمر الأطفال الذين لا قدرة لهم ولا منعة مما يفعله بهم ، حذر وهدّد بقوله : { واعلموا } وأتى بالصفة التي هي : بصير ، مبالغة في الإحاطة بما يفعلونه معهم والاطلاع عليه ، كما قال تعالى : { ولتصنع على عيني } في حق موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، إذ كان طفلاً .
قالوا : وفي الآية ضروب من البيان والبديع ، منها : تلوين الخطاب ، ومعدوله في : { والوالدات يرضعن } فإنه خبر معناه الأمر على قول الأكثر ، والتأكيد : بكاملين ، والعدل عن رزق الأولاد إلى رزق أمهاتهنّ ، لأنهنّ سبب توصل ذلك .
والإيجاز في : { وعلى الوارث مثل ذلك } وتلوين الخطاب : في { وإن أردتم أن تسترضعوا } فإنه خطاب للآباء والأمهات ثم قال : { إذا سلمتم } وهو خطاب للآباء خاصة ، والحذف في : { أن تسترضعوا } التقدير : مراضع للأولاد ، وفي قوله : { إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف } انتهى .