الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{۞وَٱلۡوَٰلِدَٰتُ يُرۡضِعۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ حَوۡلَيۡنِ كَامِلَيۡنِۖ لِمَنۡ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَۚ وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ رِزۡقُهُنَّ وَكِسۡوَتُهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ لَا تُكَلَّفُ نَفۡسٌ إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَا تُضَآرَّ وَٰلِدَةُۢ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوۡلُودٞ لَّهُۥ بِوَلَدِهِۦۚ وَعَلَى ٱلۡوَارِثِ مِثۡلُ ذَٰلِكَۗ فَإِنۡ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٖ مِّنۡهُمَا وَتَشَاوُرٖ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَاۗ وَإِنۡ أَرَدتُّمۡ أَن تَسۡتَرۡضِعُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِذَا سَلَّمۡتُم مَّآ ءَاتَيۡتُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (233)

قوله تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة }[ البقرة :233 ] .

{ يُرْضِعْنَ أولادهن } : خبر معناه الأمرُ على الوجوب ، لبَعْضِ الوالداتِ ، وعلى الندْبِ لبعضهنَّ ، فيجب على الأمِّ الإِرضاع ، إِن كانَتْ تحت أبيه ، أو رجعيَّةً ، ولا مانع من عُلُوِّ قدْرٍ بغير أجر ، وكذلك إِن كان الأبُ عديماً ، أو لم يقبلِ الولَدُ غيرها .

وهذه الآياتُ في المطلَّقات جعَلَها اللَّه حدًّا عند اختلاف الزوجَيْن في مدَّة الرَّضَاع ، فمَنْ دعا منهما إِلى إِكمالِ الحَوْلَيْنِ ، فذلك له .

وقوله تعالى : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } مبنيٌّ على أن الحولَيْن ليسا بفَرْض ، لا يُتَجَاوَزُ ، وانتزع مالِكٌ -رحمه اللَّه- وجماعةٌ من العلماء من هذه الآيةِ ، أنَّ الرضاعةَ المحرِّمة الجاريةَ مَجْرى النَّسَبِ ، إِنما هي ما كان في الحولَيْن ، لأنَّ بانقضاء الحولَيْنِ ، تمَّتِ الرَّضَاعة ، فلا رضَاعَة .

( ت ) فلو كان رضاعُه بعد الحولَيْن بمدَّة قريبة ، وهو مستمرُّ الرضاعِ ، أو بعد يومَيْن من فِصَالِهِ اعتبر ، إِذ ما قارب الشيْءَ فله حكمه ، انتهى .

وقوله تعالى : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ . . . } [ البقرة :233 ]

المولودُ له اسم جنْسٍ ، وصنْفٌ من الرجال ، والرِّزْقُ في هذا الحكم : الطعامُ الكافِي ، وقوله : { بالمَعْرُوفِ } يجمع حُسْن القَدْر في الطعام ، وجَوْدَةَ الأداء له ، وحُسْنَ الاقتضاء من المرأةِ .

ثم بيَّن سبحانه أنَّ الإِنفاق على قدر غِنَى الزوْجِ بقوله : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } ، وقرأ أبو عمرو ، وابن كَثِيرٍ ، وأبانُ عن عاصمٍ : { لاَ تُضَارُّ وَالِدَةٌ } بضم الراء ، وهو خبر معناه الأمر ، ويحتمل أن يكون الأصلُ : لاَ تُضَارِرُ ، بكسر الراءِ الأولى ، فوَالِدَةٌ فاعلةٌ ، ويحتمل بفَتْح الرَّاء الأولى ، فوَالِدَةٌ : مفعولٌ لم يسمَّ فاعله ، ويعطف ( مولود له ) على هذا الحدِّ في الاحتمالين ، وقرأ نافعٌ ، وحمزةُ ، والْكسَائِيُّ ، وعاصمٌ : ( لاَ تُضَارَّ ) بفتح الراء ، وهذا على النهْيِ ، ويحتمل أصله ما ذكرنا في الأولى ، ومعنى الآية في كلِّ قراءة النهْيُ عن الإِضرار ، ووجوهُ الضَّرَرِ لا تنحصرُ ، وكل ما ذُكِرَ منْها في التفاسير ، فهو مثالٌ .

( ت ) وفي الحديثِ : ( لاَ ضَرَرَ ، وَلاَ ضِرَارَ ) ، رواه مالكٌ في «الموطأ » مرسلاً .

قال النوويُّ في «الحِلْية » : ورويناه في «سُنَن الدَّارَقُطْنِيِّ » وغيره من طرقٍ متصلاً وهو حسن ، انتهى .

وقوله تعالى : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك }[ البقرة :233 ] .

قال مالكٌ ، وجميع أصحابه ، والشَّعْبِيُّ ، والزُّهْرِيُّ ، وجماعةٌ من العلماء : المرادُ بقوله { مِثْلُ ذلك } أَن لاَّ يُضَارَّ ، وأمَّا الرزقُ ، والكُسْوة ، فلا شيء علَيْه منه .

قال :( ع ) فالإِجماع من الأُمَّة في أن لاَّ يُضَارَّ الوارثُ ، وإِنَّما الخلافُ هل عليه رزقٌ وكُسْوَة أم لا ؟

وقوله تعالى : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً . . . } [ البقرة :233 ] .

أي : فإِن أراد الوالَدانِ ، و( فِصَالاً ) معناه : فِطَاماً عن الرَّضَاع ،

وتحرير القول في هذا : أن فَصْله قَبْل الحولَيْن لا يصحُّ ، إلا بتراضيهما ، وأن لاَّ يكونَ على المولودِ ضَرَرٌ ، وأمَّا بعد تمامهما فمن دعا إِلى الفَصْل فذلك له ، إِلاَّ أن يكون في ذلك علَى الصبيِّ ضَرَرٌ .

وقوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم }[ البقرة :233 ]

مخاطبة لجميعِ النَّاسِ ، يجمع الآباءَ والأمهاتِ أي : لهم اتخاذُ الظِّئْر ، مع الاتفاقِ على ذلك ، وأما قوله : { إِذَا سَلَّمْتُم } ، فمخاطبةٌ للرجال خاصَّة ، إِلا عَلَى أحد التأويلَيْن في قراءة مَنْ قرأ : { ءاتيتُمْ } ، وقرأ السِّتَّة من السبعةِ : { آتَيْتُمْ } ، بالمدِّ ، بمعنى أَعْطَيْتم ، وقرأ ابن كثير : ( أَتَيْتُمْ ) ، بمعنى : فعلتم ، كما قال زُهَيْرٌ : [ الطويل ]

وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا *** تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبائِهِمْ قَبْلُ

فأحد التأويلين في هذه القراءة كالأول ، والتأويل الثَّاني لقتادَةَ ، وهو ( إِذا سلَّمتم ما آتيتم ) من إِرادة الاِسترضاع ، أيْ : سلم كلُّ واحدٍ من الأبوين ، ورضي ، وكان ذلك عَلَى اتفاقٍ منهما ، وقَصْدِ خَيْرٍ ، وإِرادةِ مَعْروفٍ ، وعلى هذا الاِحتمال يدخلُ النساءُ في الخطاب .

( ت ) وفي هذا التأويل تكلُّف .

وقال سفيانُ : المعنى إِذا سلَّمتم إِلى المستَرْضعة ، وهي الظِّئْر أَجْرَها بالمَعْروف ، وباقي الآية أمْرٌ بالتقْوَى ، وتوقيفٌ على أن اللَّه تعالى بصيرٌ بكلِّ عمل ، وفي هذا وعيدٌ وتحذيرٌ ، أي : فهو مُجازٍ بحَسَبِ عَمَلِكُم .