{ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما و إن أردتم ان تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما ءاتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعلمون بصير } 233
( والوالدات يرضعن أولادهن ) لما ذكر الله سبحانه النكاح والطلاق ، ذكر الرضاع لأن الزوجين قد يفترقان وبينهما ولد ، ولهذا قيل : إن هذا خاص بالمطلقات وقيل هو عام ، وقوله ( يرضعن ) قيل هو خبر بمعنى الأمر للدلالة على تحقق مضمونه ، وليس أمر إيجاب ، وإنما هو أمر ندب واستحباب ، وقيل هو خبر على بابه ( حولين كاملين ) تأكيد للدلالة على أن هذا التقدير تحقيقي لا تقريبي ، وفيه رد على أبي حنيفة في قوله إن مدة الرضاع ثلاثون شهرا وعلى زفر في قوله ( إنها ثلاث سنين ) ذلك ( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) فيه دليل على أن ارضاع الحولين ليس حتما ، بل هو التمام ويجوز الاقتصار على ما دونه ، وليس له حد محدود ، وإنما هو على مقدار إصلاح الطفل وما يعيش به ، قال النحاس : لا يعرف البصريون الرضاعة إلا بالفتح ، وحكى الكوفيون جواز الكسر ، والآية تدل على وجوب الرضاع على الأم لولدها ، وقد حمل ذلك على ما إذا لم يقبل الرضيع غيرها .
( وعلى المولود له ) أي على الأب الذي يولد له ، وآثر هذا اللفظ دون قوله وعلى الوالد للدلالة على أن الأولاد للآباء لا للأمهات ، ولهذا ينسبون إليهم دونهن كأنهن إنما ولدن لهم فقط ، ذكر معناه في الكشاف ( رزقهن ) المراد بالرزق هنا الطعام الكافي المتعارف بين الناس ، ويطلق الرزق بالكسر على المرزوق وعلى المصدر ( وكسوتهن ) المراد بالكسوة ما يتعارفونه أيضا ( بالمعروف ) أي على قدر الميسرة .
وفي ذلك دليل على وجوب ذلك على الآباء للأمهات المرضعات ، وهذا في المطلقات طلاقا بائنا ، وأما غير المطلقات فنفقتهن وكسوتهن واجبة على الأزواج من غير إرضاعهن لأولادهن .
وقال القرطبي : الأظهر أن الآية في الزوجات في حال بقاء النكاح لأنهن المستحقات للنفقة والكسوة أرضعن أو لم يرضعن ، وهما في مقابلة التمكين لكن إذا اشتغلت الزوجة بالإرضاع لم يكمل التمكين ولا التمتع بها فقد يتوهم ان هذه النفقة تسقط حالة الإرضاع فدفع هذا التوهم بقوله ( وعلى المولود له ) .
ثم قال في محل آخر : وفي هذه الآية دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد لعجزه وضعفه ، ونسبه تعالى للأم لأن الغذاء يصل إليه بواسطتها في الرضاع ، وأجمع العلماء على أنه يجب على الأب نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم انتهى .
( لا تكلف نفس إلا وسعها ) هو تقييد لقوله بالمعروف أي هذه النفقة والكسوة الواجبتان على الأب بما يتعارفه الناس لا يكلف منهما إلا ما يدخل تحت وسعه وطاقته لا ما يشق عليه ويعجز عنه ، وقيل المراد لا تكلف المرأة الصبر على التقتير في الأجرة ولا يكلف الزوج ما هو إسراف بل يراعى القصد .
( لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده ) قرئ بالرفع على الخبر وبفتح الراء المشددة على النهي ، وأصله لا تضارر أو لا تضاررعلى البناء للفاعل أو المفعول أي لا تضارر الأب بسبب الولد بان تطلب منه ما لا يقدر عليه من الرزق والكسوة أو بأن تفرط في حفظ الولد والقيام بما يحتاج إليه أو لا تضارر من زوجها بأن يقصر عليها في شئ مما يجب عليه أو ينتزع ولدها منها بلا سبب ، وهكذا قراءة الرفع تحتمل الوجهين .
ويجوز أن تكون الباء في قوله بولدها صلة لقوله تضار على أنه بمعنى تضرأي لا تضر والدة بولدها فتسئ تربيته أو تقصر في غذائه ، ولا والد بولده ، وقدمها لفرط شفقتها ، وأضيف الولد تارة إلى الأب وتارة إلى الأم للاستعطاف ، لا لبيان النسب ، إذ لو كانت له لم تصح إلا للوالد لأنه هو الذي ينسب إليه الولد .
و هذه الجملة تفصيل للجملة التي قبلها وتقرير لها أي لا يكلف كل واحد منهما الآخر ما لا يطيقه فلا يضاره بسبب ولده .
( وعلى الوارث مثل ذلك ) معطوف على قوله ( وعلى المولود له ) وما بينهما تفسير للمعروف أو تعليل له معترض بين المعطوف والمعطوف عليه .
واختلف أهل العلم في معنى الآية فقيل هو وارث الصبي أي إذا مات المولود له كان على وارث هذا الصبي المولود إرضاعه كما كان يلزم أباه ذلك ، قاله عمر بن الخطاب وقتادة والسدى والحسن ومجاهد وعطاء وأحمد واسحق وأبو حنيفة وابن ليلى على خلاف بينهم هل يكون الوجوب على من يأخذ نصيبا من الميراث أو على الذكور فقط أو على كل ذي رحم له وان لم يكن وارثا منه .
وقيل المراد بالوارث وارث الأب تجب عليه نفقة المرضعة وكسوتها بالمعروف ، قاله الضحاك ، وقال مالك في تفسير هذه الاية : بمثل ما قاله الصحاك ولكنه قال : إنها منسوخة وأنها لا تلزم الرجل نفقة أخ ولا ذي قرابة ولا ذي رحم منه ، وشرطه الضحاك بأن لا يكون للصبي مال فإن كان له مال أخذت أجرة رضاعة من ماله .
وقيل المراد بالوارث المذكور في الآية هو الصبي نفسه أي عليه من ماله إرضاع نفسه إذا مات أبوه وورث من ماله ، قاله قبيصة بن ذؤيب وبشير ابن نصر قاضي عمر بن عبد العزيز ، وروي عن الشافعي وقيل هو الباقي من والدي المولود بعد موت الآخر منهما ، فإذا مات الأب كان على الأم كفاية الطفل إذا لم يكن له مال ، قاله سفيان الثوري .
وقيل وارث المرضعة يجب عليه أن يصنع بالمولود كما كانت الأم تصنعه به من الرضاع والخدمة والتربية .
وقيل : إن معنى الآية أنه يحرم عليه الإضرار بالأم كما يحرم على الأب ، وبه قالت طائفة من أهل العلم قالوا : وهذا هو الأصل فمن ادعى أنه يرجع فيه العطف إلى جميع ما تقدم فعليه الدليل .
قال القرطبي : وهو الصحيح إذ لو أراد الجميع الذي هو الرضاع والإنفاق . وعدم الضرر لقال وعلى الوارث مثل هؤلاء ، فدل على أنه معطوف على المنع من المضارة وعلى ذلك تأوله كافة المفسرين فيما حكى القاضي عبد الوهاب .
قال ابن عطية وقال مالك وجميع أصحابه والشعبي والزهري والضحاك وجماعة من العلماء المراد بقوله ( مثل ذلك ) أن لا يضار ، وأما الرزق والكسوة فلا يجب شئ منهما ، وحكى ابن القاسم عن مالك مثل ما قدمنا عنه في تفسير هذه الآية ودعوى النسخ .
ولا يخفى عليك ضعف ما ذهبت إليه هذه الطائفة فإن ما خصصوا به معنى قوله ( وعلى الوارث مثل ذلك ) من ذلك المعنى أي عدم الإضرار بالمرضعة قد أفاده قوله ( لا تضار والدة بولدها ) لصدق ذلك على كل مضارة ترد عليها من المولود له أو غيره .
وأما قول القرطبي : لو أراد الجميع لقال مثل هؤلاء فلا يخفى ما فيه من الضعف البين ، فإن اسم الإشارة يصلح للمتعدد كما يصلح للواحد بتأويل المذكور أو نحوه .
وأما ما ذهب إليه أهل القول الأول من أن المراد بالوارث وارث الصبي فيقال عليه إنه لم يكن وارثا حقيقة مع وجود الصبي حيا ، بل هو وارث مجازا باعتبار ما يؤول إليه .
وأما ما ذهب إليه أهل القول الثاني فهو وإن كان فيه حمل الوارث على معناه الحقيقي لكن ايجاب النفقة عليه مع غنى الصبي فيه ما فيه ، ولهذا قيده القائل به بأن يكون الصبي فقيرا ، ووجه الاختلاف في تفسير الوارث ما تقدم من ذكر الوالدات والمولود له والولد ، فاحتمل أن يضاف الوارث إلى كل منهم .
( فإن أرادا فصالا ) الضمير للوالدين ، والفصال الفطام عن الرضاع أي التفريق بين الصبي والثدي ، ومنه سمي الفصيل لأنه مفصول عن أمه .
( عن تراض منهما ) أي صادرا عن تراض من الابوين وعلى اتفاق من الوالدين إذا كان الفصال وفطام الولد قبل الحولين ( وتشاور ) أي يشاورون أهل العلم في ذلك حتى يخبروا أن الفطام قبل الحولين لا يضر بالولد ( فلا جناح عليهما ) في ذلك الفصال .
لما بين الله سبحانه أن مدة الرضاع حولان كاملان قيد ذلك بقوله ( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) وظاهره أن الأب وحده إذا أراد أن يفصل الصبي قبل الحولين كان ذلك جائزا له ، وهنا اعتبر سبحانه تراضي الابوين وتشاورهما فلا بد من الجمع بين الأمرين بأن يقال إن الارادة المذكورة في قوله ( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) لا بد أن تكون منهما ، أو يقال : إن تلك الارادة إذا لم يكن الأبوان للصبي حيين بأن كان الموجود أحدهما أو كانت المرضعة للصبي ظئرا غير أمه .
والتشاور استخراج الرأي يقال شرت العسل استخرجته فلا بد لأحد الأبوين إذا أراد فصال الرضيع أن يراضي الآخر ويشاوره حتى يحصل الاتفاق بينهما على ذلك .
( وإن أردتم ) خطاب للآباء ، وزاد بعضهم الأمهات وفيه خروج من الغيبة إلى الخطاب ( أن تسترضعوا أولادكم ) قال الزجاج : التقدير أن تسترضعوا لأولادكم غير الوالدة ، وعن سيبويه المعنى أن تسترضعوا المراضع أولادكم ( فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم ) بالمد أي أعطيتم وهي قراءة الجماعة إلا ابن كثير فإنه قرأ بالقصر أي فعلتم .
والمعنى أنه لا بأس عليكم أن تسترضعوا أولادكم غير أمهاتكم إذا سلمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما قد أرضعن لكم أي وقت إرادة الاسترضاع ، قاله سفيان الثوري ومجاهد .
وقال قتادة والزهري : إن معنى الآية إذا سلمتم ما آتيتم من ارادة الاسترضاع أي سلم كل واحد من الأبوين ورضي كان عن اتفاق منهما وقصد خير ، وإرادة معروف من الأمر ، وعلى هذا فيكون قوله ( سلمتم ) عاما للرجال والنساء تغليبا ، وعلى القول الأول الخطاب للرجال فقط .
وقيل المعنى إذا سلمتم لمن أردتم استرضاعها أجرها فيكون المعنى إذا سلمتم ما أردتم إيتاءه أي اعطاءه إلى المرضعات ، وليس هذا قيدا لصحة الاجارة فإن تعجيل الاجرة لا يشترط ، وإنما هو قيد كمال لأنه أطيب لنفوسهن .
( بالمعروف ) أي بما يتعارفه الناس من أجر المرضعات من دون مماطلة لهن أو حط بعض ما هو لهن من ذلك ، فإن عدم توفير أجرهن يبعثهن على التساهل بأمر الصبي والتفريط في شأنه ، والمعنى أن يكون عند تسليم الأجرة مستبشري الوجوه ناطقين بالقول الجميل مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن .
( واتقوا الله ) أي خافوه فيما فرض عليكم من الحقوق وفيما أوجب عليكم للمراضع ولأولادكم ( واعلموا أن الله بما تعملون بصير ) لا يخفى عليه خافية من جميع أعمالكم سرها وعلانيتها فإنه تعالى يراها ويعلمها .