قوله تعالى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ } كقوله { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ } [ البقرة :228 ] فليُلْتفتْ إليه .
قال القرطبي : لما ذكر اللهُ تعالى النِّكاح والطَّلاق ذكر الولد ؛ لأن الزَّوجين قد يفترِقانِ وثمَّ وَلَدٌ فالآية إِذن في المطلَّقاتِ اللاتي لهُنَّ أولادٌ من أزواجهنَّ ، قاله السُّدِّيُّ ، وغيره{[3737]} .
قال : " وَالوَالِدَاتُ " ولم يقل والزَّوجاتُ ، لأن أُمَّ الطِّفل قد تكُونُ مَطَلَّقَةً والوالدُ والوالدةُ صفتان غالبتانِ ، جاريتانِ مَجْرى الجوامد ؛ ولذلك لم يُذْكر موصوفهما .
وقوله : " حَوْلَينِ " منصُوبٌ على ظرفِ الزمانِ ، ووصفهما بكاملين دفعاً للتجوُّز ، إِذْ قَد يُطْلَقُ " الحَوْلاَنِ " على الناقصين شهراً وشهرين ، من قولهم أَقَامَ فلانٌ بمكان كذا حَوْلَين أو شهرين وإِنَّما أقامَ حَوْلاً وبعض الآخر ، ومثله : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } [ البقرة :203 ] ومعلومٌ أنه يتعجَّل في يومٍ ، وبعض اليوم الثَّاني ، والحَولُ مِنْ حال الشَّيءُ يحولُ إذا انقلب ، فالحَوْلُ مُنقلب من الوقْتِ الأَول إلى الثاني . وسُمِّيت السنةُ حولاً ؛ لتحوُّلها ، والحَوْلُ أيضاً : الحَيْلُ ، ويُقالُ : لا حول ولا قوةَ ، ولا حَيْلَ وَلاَ قُوَّةَ .
في " الوَالِدَات " ثلاثةُ أقوال : أحدها : أَنَّ المراد منهُ جميعُ الوَالِدَاتِ سواءٌ كُنَّ مطلقاتٍ ، أو متزوِّجاتٍ لعُمُومِ اللَّفظِ .
الثاني : المرادُ مِنْهُ المطلقاتُ ؛ لأَنَّه ذكر هذه الآية عقيب آية الطَّلاقِ ، ومناسبتهُ من وجهين :
الأول : أنه إذا طُلِّقَت المرأةُ ، فيحصلُ التباغض ، فقد تُؤذِي المرأةُ الطفلَ لأَمرين : إِمَّا لأنَّ إيذاءَهُ يتضمَّنُ إيذاءَ الأَبِ ، وإِمَّا لرغبتها في زوجٍ آخر فيفضي إلى إِهْمالِ أَمْرِ الطِّفْلِ .
الثاني : قال السُّدِّيُّ : ومما يدلُّ على أَنَّ المراد منه المطلقاتُ ، قوله بعد ذلك : { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } . ولو كانت زوجةً ، لوجب على الزَّوج ذلك مِنْ غير إرضاعٍ .
ويمكن الجوابُ عن الأَوَّل : أَنَّ هذه الآية مشتملةٌ على حُكم مستقلٍّ بنفسه ، فلم يجب تعلُّقُها بما قبلها ، وعن قول السديّ : أَنَّه لا يبعُدُ أَنْ تستحِقَّ المرأةُ قدراً مِنَ المالِ ، لمكانِ الزوجيَّة ، وقَدْراً آخر للإرضاع ، ولا مُنافاة بين الأَمرينِ .
القول الثالث : قال الواحديُّ في " البَسيط " الأَولى أَنْ يحمل على الزوجاتِ في حالِ بقاء النكاحِ ؛ لأن المُطلَّقة لا تستحقُّ إلاَّ الأجرة .
فإِنْ قيل : إذا كانت الزوجيةُ باقيةً ، فهي مستحقةٌ للنفقة ، والكُسْوةِ ؛ بسبب النكاحِ سَوَاءٌ أَرْضَعت الولد ، أَوْ لَمْ تُرضِعهُ ، فما وجهُ تعليق هذا الاستِحقاق بالإِرضاع ؟
قلنا : النفقةُ والكسوةُ يجبانِ في مُقابلةِ التمكين ، فإذا اشتغلت بالحضانة والإرضاع ولم تتفرغْ لِخدمة الزوج ، رُبَّما توهَّمَ مُتوهِّمٌ أَنَّ نفقتها وكسوتها تسقطُ بالخلل الواقع في خدمة الزوجِ ؛ فقطعَ اللهُ ذلك الوَهْمَ بإيجاب الرِّزقِ إذا اشتغلت المرأَةُ بالرضاعِ{[3738]} .
هذا الكلامُ ، وإِنْ كان خبراً فمعناه الأَمْرُ ؛ وتقديره : يرضِعْنَ أَوْلادهنّ في حُكْمِ الله الذي أَوجبه ؛ إِلاَّ أنه حذف ذلك للتصرف في الكَلامِ مع زوالٍ الإِيهامِ ، وهو أَمرُ استحباب ، لا إيجابٍ ؛ لأنها لو وجب عليها الرضاعُ لما استحقتِ الأُجرة ، وقد قال :
{ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [ الطلاق :6 ] وقال : { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } [ الطلاق :6 ] وإذا ثبت الاستحبابُ ، فهو من حيث إِنَّ تربيةَ الطفلِ بلبنِ الأُمِّ أَصْلَحُ له من سائِرِ الأَلبان ، ومن حيثُ إِنَّ شفقةَ الأُم أَتَمُّ مِنْ شفقةِ غيرها .
قال القُرطبي{[3739]} : اختلف الناسُ في الرضاع : هَلْ هو حَقٌّ عليها أو هو حق عليه ؟ واللفظُ محتملٌ ؛ لأنه لو أراد التَّصريح بوجوبه لقال : وعلى الوَالِدَاتِ رضاعُ أَولادهُنَّ ؛ كما قال : { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } ولكن هو حقٌّ عليها في حَقّ الزَّوجيَّة ؛ لأنه يلزمُ في العُرْفِ إذْ قد صار كالشَّرط ، إلاَّ أنْ تكونَ شريفةً ذات ترفُّهٍ ، فعُرفها ألاَّ تُرْضِعَ وذلك كالشرط ؛ ويجب عليها إن لم يقبل غيرها ، وهو عليها إذا كان الأبُ مُعدماً ؛ لاختصاصها به ، فإِن ماتَ الأَبُ ولا مال لِلصَّبِيِّ ، فذهب مالكٌ في " المُدَوَّنَةِ " إلى أَنَّ الرضاعَ لازمٌ للأُمِّ بخلاف النَّفقةِ ، وفي كتاب " ابن الجلاب " : رضاعه في بيتِ المالِ ، فأَمَّا المطلَّقةُ طلاقاً بائِناً ، فلا رضاع عليها ، والرَّضَاعُ على الزَّوج إلاَّ أَنْ تشاء الأُمُّ ، فهي أَحَقُّ بأجرةِ المثل ، إذا كان الزوجُ مُوسِراً ، فإِن كان معدماً ، لم يلزمها الرضاعُ إلاَّ أَنْ يكون المولود لا يقبلُ غيرها فتجبر على الرَّضاع وكل من لزمها الإرضاعُ ، فأَصابها عُذْرٌ يمنعها منه ، عاد الإِرضاع على الأَبِ ، وعن مالكٍ : أَنَّ الأَبَ إذا كان مُعدماً ، ولا مال للصبي أَنَّ الرضاعَ على الأم لَمْ يكن لها لبنٌ ؛ ولها مالٌ ، فَإِنَّ الإِرضاع عليها في مالها . وقال الشَّافعيُّ : لا يلزم الرضاعُ إلاَّ والداً أو جَدّاً وإن عَلاَ .
اختلف العلماءُ في تحديد الحولينِ فقال بعضهم{[3740]} : هو حَدٌّ لبعضِ المولُودين .
روى عكرمة عن ابن عبَّاس : أَنَّها إذا وضعت لستَّةِ أشهرٍ ، فإِنَّها تُرْضِعه حولين كاملين ، وإن وضعتْ لسبعةِ أشهُر ، ترضعُه ثلاثةً وعشرينَ شهراً ، وإنْ وضعت لتسعةِ أشهر ، تُرضِعه إحدى وعشرين شهراً ؛ كل ذلك تمامُ ثلاثين شهراً{[3741]} ؛ لقوله تعالى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف :15 ] .
وقال آخرون : هو حَدٌّ لكُلِّ مولُودٍ ، لا يُنقصُ رضاعُهُ عن حولين ، إلاَّ باتِّفاق الأَبوين فأَيُّهما أراد الفِطَامَ قبل تمام الحولينِ ، ليس له ذلك إلاَّ أَنْ يجتمعا عليه ؛ لقوله تعالى : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا } وهذا قولُ ابن جريجٍ ، والثوري ، ورواية الوالبي ، عن ابن عباس{[3742]} .
وقيل : المرادُ من الآية : بيانُ الرضاع الذي يثبتُ به الحرمةُ ، أن يكون في الحولينِ ، ولا يحرم ما يكون بعدَ الحولين{[3743]} .
قال قتادة : فرض اللهُ على الوالداتِ إِرضاعُ حولينِ كاملين ثم أنزل التخفيف ؛ فقال { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } ، أي : هذا منتهى الرضاع ، ليس فيما دُونَ ذلك حَدٌّ محدودٌ ، إِنَّمَا هو على قَدْرِ صلاحِ الصَّبي ، وما يعيشُ به ، وهذا قولُ عليّ ، وابن مسعود ، وابن عباسٍ ، وابن عمر ، وعلقَمة ، والشَّعبيِّ ، والزهريّ - رضي الله عنهم{[3744]} - .
وقال أبو حنيفة : مدةُ الرَّضاعِ ثلاثُون شهراً ، واحتج الأَولون بقوله تعالى : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [ لقمان :14 ] وقال عليه السلام والصلاة " لا رضاع بعد فصال " {[3745]} .
وروى ابن عباس قال : قال - عليه الصلاة والسلام - " لاَ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلاَّ مَا كَانَ فِي الحَوْلَيْنِ " {[3746]} .
رُوِيَ أَنَّ رجلاً جاء إلى علي رضي الله عنه - فقال : تزوجتُ جاريةً بكراً ، وما رأيتُ بها ريبةٌ ، ثم وَلَدت لستَّةِ أشهرٍ ، فقال عليٌّ - رضي الله عنه - قال الله تعالى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف :15 ] وقال تعالى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } فالحملُ ستَّةُ أشهرٍ ؛ الولدُ ولدكَ{[3747]} .
وعن عُمَر - رضي الله عنه - أنه جِيء بامرأةٍ ، وضعت لستةِ أشهر ، فشاور في رجمِها ، فقال ابنُ عباسٍ : إِنْ خاصَمْتكُم بكتابِ اللهِ - تعالى - خَصَمْتُكُمْ ، ثم ذكر هاتين الآيتين{[3748]} واستخرج منهما أَنَّ أَقَلَّ الحملِ ستةُ أشهرٍ ، قال : فكأنما أَيْقَظَهُمْ .
قوله : " لِمَنْ أَرَادَ " في هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه متعلقٌ بيُرْضِعْنَ ، وتكونُ اللامُ للتعليل ، و " مَنْ " وَاقِعَةٌ على الآباء ، أي : الوالداتُ يُرْضِعْنَ لأجْلِ مَنْ أَرَادَ إِتْمام الرَّضاعةِ مِنَ الآباءِ ، وهذا نظيرُ قولك : " أَرْضَعَتْ فلانةٌ لفلانٍ ولدَه " .
والثاني : أنها للتَّبيين ؛ فتتعلَّق بمحذوفٍ ، وتكونُ هذه اللامُ كاللامِ في قوله تعالى : { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف :23 ] ، وفي قولهم : " سُقْياً لك " . فاللامُ بيانٌ للمدعوِّ له بالسَّقْي وللمُهَيَّت به ، وذلك أَنَّه لمّا ذكر أنَّ الوالداتِ يُرْضِعْنَ أولاَدَهُنَّ حولين كاملين ، بيَّنَ أنَّ ذلك الحُكم إنما هو لمَنْ أرادَ أن يتُمَّ الرَّضاعة ؛ و " مَنْ " تحتمِلُ حينئذٍ أَنْ يُرادَ بها الوَالِدَاتُ فقط ، أَوْ هُنَّ والوالدون معاً ، كلُّ ذلك محتملٌ .
والثالث : أنَّ هذه اللامَ خبرٌ لمبتدإ محذوفٍ ، فتتعلَّقُ بمحذوفٍ ، والتقديرُ : ذلك الحُكمُ لِمَن أرادَ . و " مَنْ " على هذا تكون للوالداتِ والوالدَيْنِ معاً .
قوله : { أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } " أَنْ " وما في حَيَِّزها في محلِّ نصبٍ ؛ مفعولاً بأراد ، أي : لِمَنْ أَرادَ إِتْمَامَها . والجمهورُ على " يُتمَّ الرَّضَاعَةَ " بالياء المضمومة من " أَتَمَّ " وإِعْمَالُ أنْ الناصبَة ، ونصبِ " الرَّضَاعةَ " مفعولاً به ، وفتح رائها .
وقرأ{[3749]} مجاهدٌ ، والحسنُ ، وابنُ محيصن ، وأَبُو رجاء : " تَتِمَّ " بفتح التاءِ من تَمَّ ، و " الرضَاعَةُ " بالرفعِ فاعلاً ، وقرأ أبو حيوة{[3750]} ، وابنُ أَبِي عبلة كذلك ، إلا أنهما كَسَرا راءَ " الرَّضَاعَة " ، وهي لغةٌ كالحَضارةِ ، والحِضارة ، والبَصْرِيُّونَ يقولون : فتحُ الرَّاءِ مع هاءِ التأنيث ، وكسرُها مع عدمِ الهاء ، والكُوفيُّون يزعمُونَ العكسَ . وقرأ{[3751]} مجاهدٌ - ويُرْوى عن ابن عبَّاسٍ - : " أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ " برفعِ " يُتِمُّ " وفيها قولان :
أحدهما : قولُ البصريِّين : أنها " أَنْ " الناصبةُ ، أُهْمِلت ؛ حَمْلاً عَلَى " مَا " أُخْتِها ؛ لاشتراكِهمَا في المَصْدرية ، وأَنشدوا على ذلك قوله : [ مجزوء الكامل ]
إِنِّي زَعِيمٌ يَا نُوَيْ *** قَةُ إِنْ أَمِنْتِ مِنَ الرَّزَاحِ
أَنْ تَهْبِطِينَ بِلاَدَ قَوْ *** مٍ يَرْتَعُونَ مِنَ الطِّلاَحِ{[3752]}
يَا صَاحِبَيَّ فَدَتْ نُفُوسَكُمَا *** وَحَيْثُمَا كُنْتُمَا لَقِّيتُمَا رَشَدَا
أَنْ تَقْرَآنِ عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا *** مِنِّي السَّلاَمَ وَأَلاَّ تُشْعِرَا أَحَدَا{[3753]}
فَأَهْمَلَها ، ولذلك ثَبَتَ نونُ الرفع ، وأَبَوْا أَنْ يَجعلُوها المخفَّفة مِنَ الثقيلةِ لوجهين :
أحدهما : أنه لم يُفْصَل بينها وبين الجملة الفعلية بعدها .
والثاني : أَنَّ ما قبلها ليس بفعلِ علمٍ ويقينٍ .
القول الثاني : وهو قول الكوفيِّين أنها المخفَّفة من الثَّقيلة ، وشذَّ وقوعها موقع الناصبة ، كما شذَّ وقوع " أنْ " الناصبة موقعها في قوله : [ البسيط ]
. . . قَدْ عَلِمُوا *** أَلاَّ يَدَانِيَنَا فِي خَلْقِهِ أَحَدٌ{[3754]}
وقرأ مجاهدٌ{[3755]} : " الرَّضْعَة " بوزن القصعة .
وعن ابن عباس أنّه قرأ أن يكمل الرضاعة .
قال القرطبيُّ{[3756]} : قوله تعالى : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } يدل على أنَّ إرضاع الحولين ليس حتماً ؛ لأنه يجوز الفطام قبل الحولين ولكنه تحديد لقطع التَّنازع بين الزَّوجين في مدَّة الرضاع ، ولا يجب على الأب إعطاء الأجرة ، لأكثر من حولين ، وإن أراد الأب الفطام قبل هذه المدة ، ولم ترض الأمُّ ، لم يكن له ذلك .
والرَّضْعُ : مصُّ الثدي ، ويقال للَّئيم : راضعٌ ، وذلك أنه يخاف أن يحلب الشاة ؛ فيسمع منه الحلب ؛ فيطلب منه اللبن ، فيرتضع ثدي الشاة بفمه .
قوله : { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ } هذا الجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ ، والمبتدأ قوله : " رِزْقُهُنَّ " ، و " أَلْ " في المولود موصولةٌ ، و " لَهُ " قَائِمٌ مقام الفاعل للمولود ، وهو عائد الموصول ، تقديره : وعلى الذي ولد له رزقهنَّ ، فحذف الفاعل ، وهو الوالدات ، والمفعول ، وهو الأولاد ، وأقيم هذا الجارُّ والمجرور مقام الفاعل .
وذكر بعض النَّاس أنه لا خلاف في إقامة الجارِّ والمجرور مقام الفاعل ، إلاَّ السُّهيليَّ ، فإنَّه منع من ذلك ؛ وليس كما ذكر هذا القائل ، فإنَّ البصريِّين أجازوا هذه المسألة مطلقاً ، والكوفيُّون قالوا : إن كان حرف الجرِّ زائداً جاز نحو : ما ضربَ من أحدٍ ، وإن كان غير زائدٍ ، لم يجز ، ولا يجوز عندهم أن يكون الاسم المجرور في موضع رفعٍ باتفاقٍ بينهم . ثم اختلفوا بعد هذا الاتفاق في القائم مقام الفاعل .
فذهب الفرَّاء : إلى أنَّ حرف الجرِّ وحده في موضع رفعٍ ، كما أنَّ " يَقُومُ " من " زَيْدٌ يَقُومُ " في موضع رفعٍ .
وذهب الكسائيُّ ، وهشام : إلى أنَّ مفعول الفعل ضميرٌ مستترٌ فيه ، وهو ضميرٌ مبهمٌ من حيث أن يراد به ما يدلُّ عليه الفعل من مصدرٍ ، وزمانٍ ، ومكانٍ ، ولم يدلَّ دليلٌ على أحدها .
وذهب بعضهم إلى أنَّ القائم مقام الفاعل ضمير المصدر ، فإذا قلت : " سِيرَ بزيدٍ " فالتقدير : سِير هو ، أي : السَّيْرُ ؛ لأنَّ دلالة الفعل على مصدره قويةٌ ، ووافقهم في هذا بعض البصريين .
قوله : " بِالْمَعْرُوفِ " يجوز أن يتعلَّق بكلٍّ من قوله : " رزقُهنَّ " و " كِسْوَتُهنَّ " على أنَّ المسألة من باب الإعمال وهو على إعمال الثاني ، إذ لو أعمل الأول ، لأُضمر في الثاني ، فكان يقال : وكسوتهنَّ به بالمعروف . هذا إن أُريد بالرزق والكسوة ، المصدران ، وقد تقدَّم أنَّ الرزق يكون مصدراً ، وإن كان ابن الطَّراوة قد رَّد على الفارسيّ ذلك ؛ في قوله : { مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً } [ النحل :73 ] كما سيأتي تحقيقه في النَّحل ، إن شاء الله تعالى . وإن أُريد بهما اسم المرزوق ، والمكسوِّ كالطِّحن ، والرِّعي ، فلا بدَّ من حذف مضافٍ ، تقديره : اتِّصال ، أو دفع ، أو ما أشبه ذلك ، ممَّا يصحُّ به المعنى ، ويكون " بالمعروف " متعلِّقاً بمحذوفٍ ، على أنه حالٌ منهما . وجعل أبو البقاء{[3757]} العامل في هذه الحال الاستقرار الذي تضمَّنه " على " .
والجمهور على " كِسْوَتهنَّ " بكسر الكاف ، وقرأ{[3758]} طلحة بضمِّها ، وهما لغتان في المصدر ، واسم المكسوِّ وفعلها يتعدَّى لاثنين ، وهما كمفعولي " أَعْطَى " في جواز حذفهما ، أو حذف أحدهما ؛ اختصاراً أو اقتصاراً ، قيل : وقد يتعدَّى إلى واحدٍ ؛ وأنشدوا : [ المتقارب ]
وَأَرْكَبُ في الرَّوْعِ خَيْفَانَةٌ *** كَسَا وَجْهَهَا سَعَفٌ مُنْتَشِرْ{[3759]}
ضمَّنه معنى غطَّى ، وفيه نظرٌ ؛ لاحتمال أنَّه حذف أحد المفعولين ؛ للدلالة عليه ، أي : كَسَا وجهها غبار أو نحوه .
و " المولود له " هو الوالد ، وإنَّما عبَّر عنه بهذا الاسم لوجوه :
أحدها : قال الزَّمخشريُّ : والسَّبب فيه أن يعلم أنَّ الوالدات إنما ولدت الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمَّهات ؛ وأنشدوا للمأمون : [ البسيط ]
وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ *** مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلآبَاءِ أَبْنَاءُ
وثانيها : أنّه تنبيهٌ على أَنَّ الولد إنما يلتحق بالوالد ؛ لكونه مولوداً على فراشه ، على ما قاله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ " {[3760]} فكأنّه قال : إذا ولدت المرأة الولد لأجل الرَّجل وعلى فراشه ، وجب عليه رعاية مصالحه ، [ فنبه على أنَّ سبب النَّسب ، والالتحاق محدودٌ بهذا القدر .
وثالثها : ذكر الوالد بلفظ " المَوْلُودِ [ لَهُ ] " تنبيهاً على أنَّ نفقته عائدةٌ إليه ، فيلزمه رعاية مصالحه ]{[3761]} كما قيل : كلُّه لك ، وكلُّه عليك .
فإن قيل : فما الحكمة في قول موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لأخيه : { قَالَ يا ابْنَ أُمِّ } [ طه :94 ] ولم يذكر أباه .
فالجواب : أنّه أراد بذكر الأم [ أنْ ] يذكر الشفقة فإنَّ شفقة الأمِّ أعظم من شفقة الأب .
اعلم أنَّ الله تعالى كما وصَّى الأمَّ برعاية جانب الطِّفل ، في قوله : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } - وصَّى برعاية جانب الأمِّ ، حتَّى تقوى على رعاية مصلحة الطفل ، فأمره برزقها ، وكسوتها بالمعروف ، وهذا المعروف قد يكون محدوداً بشرطٍ وعقدٍ ، وقد يكون غير محدودٍ إلاَّ من جهة العرف لأنّه إذا قام بما يكفيها من طعام وكسوتها ، فقد استغنى عن تقدير الأجرة فإنه إن لم يقم بما يكفيها من ذلك ، تضرَّرت وضررها يتعدى إلى الولد ، ولمّا وصَّى الأمَّ برعاية الطفل أوّلاً ، ثم وصَّى الأب برعايته ثانياً ، دلَّ على أنَّ احتياج الطفل إلى رعاية الأمِّ أشدُّ من احتياجه إلى رعاية الأب ؛ لأنَّه ليس بين الطفل وبين رعاية الأمّ واسطةٌ اَلْبَتَّةَ ؛ ورعاية الأب إنَّما تصل إلى الطفل بواسطة ، فإنّه يستأجر المرأة على رضاعته ، وحضانته بالنفقة ، والكسوة ، وذلك يدلُّ على أنَّ حقَّ الأمِّ أكثر من حقِّ الأب ، والأخبار المطابقة لهذا المعنى كثيرةٌ مشهورةٌ .
قوله : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ } الجمهور على " تُكَلَّفُ " مبنياً للمفعول ، " نفسٌ " قائم مقام الفاعل ، وهو الله تعالى ، " وُسْعَهَا " مفعول ثانٍ ، وهو استثناءٌ مفرغٌ ؛ لأنَّ " كَلَّفَ " يتعدَّى لاثنين . قال أبو البقاء{[3762]} : " ولو رُفِعَ الوُسْعُ هنا ، لم يَجُزْ ؛ لأنه ليس ببدَلٍ " .
وقرأ{[3763]} أبو رجاء : " لاَ تَكَلَّفُ نَفْسٌ " بفتح التَّاء ، والأصل : " تَتَكَلَّفُ " فحذفت إحدى التاءين ؛ تخفيفاً : إمَّا الأولى ، أو الثانية على خلافٍ في ذلك تقدَّم ، فتكون " نَفْسٌ " فاعلاً ، و " وُسْعَها " مفعولٌ به ، استثناء مفرَّغاً أيضاً . وروى أبو الأشهب عن أبي رجاء{[3764]} أيضاً : " لا يُكَلِّفُ نَفْساً " بإسناد الفعل إلى ضمير الله تعالى ، فتكون " نَفْساً " و " وُسْعَها " مفعولين .
والتكليفُ : الإلزام ، وأصله من الكلف ، وهو الأثر من السَّواد في الوجه ؛ قال : [ البسيط ]
يَهْدِي بِهَا أَكْلَفُ الخَدَّيْنِ مُخْتَبَرٌ *** مِنَ الْجِمَالِ كَثِيرُ اللَّحْمِ عَيْثُومُ{[3765]}
فمعنى " تَكَلَّفَ الأَمْرَ " ، أي : اجتهد في إظهار أثره .
وفلانٌ كَلِفٌ بكذا : أي مُغْرًى به .
و " الوُسْعُ " هنا ما يسع الإنسان فيطيق أخذه من سعة الملك أي الغرض ، ولو ضاق لعجز عنه ، فالسَّعة بمنزلة القدرة ، ولهذا قيل : الوسع فوق الطَّاقة ، والمراد منه : أنَّ أبا الصّبي لا يتكلّف الإنفاق عليه ، وعلى أُمِّه ، إلاَّ ما تتسع له قدرته ، لأنَّ الوسع ما تتَّسع له القدرة ، ولا يبلغ استغراق القدرة ؛ وهو نظير قوله تعالى : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا } [ الطلاق :7 ] .
تمسَّك المعتزلة بهذه الآية في أنَّ الله تعالى لا يكلّف العبد ما لا يقدر عليه{[3766]} .
وقوله : " لاَ تُضَارَّ " ابن كثير ، وأبو عمرو{[3767]} : " لا تُضَارُّ " برفع الراء مشددةً ، وتوجيهها واضح ، لأنه فعلٌ مضارعٌ لم يدخل عليه ناصبٌ ولا جازمٌ فرفع ، وهذه القراءة مناسبةٌ لما قبلها ، من حيث إنه عطف جملة خبريّةٌ على خبرية مثلها من حيث اللفظ وإلاَّ فالأولى خبريةٌ لفظاً ومعنًى ، وهذه خبريةٌ لفظاً نهييَّةٌ معنًى ويدل عليه قراءة الباقين كما سيأتي .
قال الكسائيُّ والفراء : هو نسقٌ على قوله : " لاَ يُكَلِّفُ " {[3768]} .
قال علي بن عيسى : هذا غلطٌ ؛ لأنَّ النَّسق ب " لا " إنَّما هو إخراج على إخراج الثَّاني مما دخل فيه الأوَّل نحو : " ضربتُ زيداً لا عمراً " فأمّا أن يقال : يقوم زيدٌ لا يقعد عمرو ، فهو غير جائزٍ على النِّسق ، بل الصواب أنَّه مرفوعٌ على الاستئناف في النَّهي كما يقال : لا تضرب زيداً لا تقتل عمراً .
وقرأ باقي السَّبعة : بفتح الراء مشدّدةً ، وتوجيهها أنَّ " لا " ناهيةٌ ، فهي جازمةٌ ، فسكنت الراء الأخيرة للجزم ، وقبلها راء ساكنةٌ مدغمةٌ فيها ، فالتقى ساكنان ؛ فحرَّكنا الثانية لا الأولى ، وإن كان الأصل الإدغام ، وكانت الحركة فتحةً ، وإن كان أصل التقاء الساكنين الكسر ؛ لأجل الألف ؛ إذ هي أُخت الفتحة ، ولذلك لمَّا رخَّمت العرب " إِسْحَارّ " وهو اسم نباتٍ ، قالوا : " إِسحارَ " بفتح الراء خفيفةً ، لأنهم لمَّا حذفوا الراء الأخيرة ، بقيت الراء الأولى ساكنةً ، والألف قبلها ساكنةٌ ؛ فالتقى ساكنان ، والألف لا تقبل الحركة ؛ فحرَّكوا الثاني وهو الراء ، وكانت الحركة فتحةً ؛ لأجل الألف قبلها ساكنة ، ولم يكسروا وإن كان الأصل ، لما ذكرنا من مراعاة الألف .
وقرأ الحسن بكسرها{[3769]} مشدَّدةً ، على أصل التقاء السَّاكنين ، ولم يراع الألف .
وقرأ أبو جعفرٍ بسكونها مشدَّدةً ، كأنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، فسكَّن ، وروي عنه وعن ابن هرمز : بسكونها مخففة ، وتحتمل هذه وجهين :
أحدهما : أن يكون من " ضارَ " " يَضِيرُ " ، ويكون السكون لإجراء الوصل مجرى الوقف .
والثاني : أن يكون من ضارَّ يُضَارُّ بتشديد الراء ، وإنما استثقل تكرير حرف هو مكرر في نفسه ؛ فحذف الثاني منهما ، وجمع بين الساكنين - أعني الألف والراء - إمَّا إجراءً للوصل مجرى الوقف ، وإمَّا لأنَّ الألف قائمةٌ مقام الحركة ، لكونها حرف مدٍّ .
وزعم الزمخشريُّ " أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ إنما اخْتَلَسَ الضَّمة ، فتَوَهَّم الراوي أنه سَكَّنَ ، وليس كذلك " انتهى . وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك عند { يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة :67 ] ونحوه .
ثم قراءة تسكين الرَّاء : تحتمل أن تكون من رفعٍ ، فتكون كقراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، ويحتمل أن تكون من فتح ، فتكون كقراءة الباقين ، والأول أولى ؛ إذ التسكين من الضمة أكثر من التسكين من الفتحة ؛ لخفَّتها .
وقرأ ابن عبَّاس : بكسر الراء الأولى ، والفكِّ ، وروي عن عمر بن الخطاب : " لا تُضَارَرْ " بفتح الرَّاء الأولى ، والفكِّ ؛ وهذه لغة الحجاز ، أعني : [ فكَّ ] المثلين فيما سكن ثانيهما للجزم أو للوقف ، نحو : لم نمرر ، وامرُرْ ، وبنو تميم يدغمون ، والتنزيل جاء باللغتين نحو : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } [ المائدة :54 ] في المائدة ، قرئ في السَّبع بالوجهين ، وسيأتي بيانه واضحاً .
ثمَّ قراءة من شدَّد الراء : مضمومةً أو مفتوحةً ، أو مكسورةً ، أو مسكَّنةً ، أو خفَّفها تحتمل أن تكون الراء الأولى مفتوحة ، فيكون الفعل مبنياً للمفعول ، وتكون " وَالِدَة " مفعولاً لم يسمَّ فاعله ، وحذف الفاعل ؛ للعلم به ، ويؤيده قراءة عمر رضي الله عنه .
ويكون معنى الآية { لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } فينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه { وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } أي : لا تلقيه المرأة إلى أبيه بعدما ألفها ؛ تُضَارُّهُ بذلك .
وقيل{[3770]} : معناه لا تضارُّ والدةٌ ؛ فتكره على إرضاعه ، إذا كرهت إرضاعه ، وقبل الصّبيُّ من غيرها ؛ لأنَّ ذلك ليس بواجبٍ عليها ، ولا مولودٌ له بولده فيحتمل أن يعطي الأمَّ أكثر مما يجب لها ، إذا لم يرتضع الولد من غيرها .
وأن تكون مكسورةٌ ، فيكون الفعل مبنياً للفاعل ، وتكون " والدة " حينئذٍ فاعلاً به ، ويؤيده قراءة ابن عباسٍ .
وفي المفعول على هذا الاحتمال ثلاثة أوجه :
أحدها - وهو الظاهر - أنه محذوف تقديره : لا تُضَارِرْ والدةٌ زوجَها ، بسبب ولدها بما لا يَقْدِرُ عليه مِنْ رِزْقٍ وكُسْوةٍ ونحو ذلك ، ولا يُضَارِرْ مَوْلُود له زوجته بسبب ولده بما وجب لها من رزق وكسوةٍ ، فالباء للسببية .
والثاني : - قاله الزمخشريُّ - أن يكون " تُضارَّ " بمعنى تضرُّ ، وأن تكون الباء من صلته أي : لا تضرُّ والدةٌ بولدها ، فلا تسيءُ غذاءه ، وتعهُّده ، ولا يضرُّ الوالد به بأن ينزعه منها بعدما ألفها انتهى . ويعني بقوله " الباءُ مِنْ صِلتِه " ، أي : تكون متعلقةً به ، ومعدِّيةً له إلى المفعول ، كهي في " ذَهَبْتُ بزيدٍ " ويكون ضارَّ بمعنى أضرَّ ، فاعل بمعنى أفعل ، ومثله : ضاعفتُ الحسابَ وأضعفته ، وباعدته وأبعدته ، فعلى هذا ، نفس المجرور بهذه الباء ، هو المفعول به في المعنى ، والباء على هذا للتَّعدية ، كما نظَّرنا بِ " ذَهَبْتُ بزيدٍ " ، فإنه بمعنى أذهبته .
والثالث : أنَّ الباء مزيدةٌ ، وأنَّ " ضَارَّ " بمعنى ضرَّ ، فيكون " فَاعَلَ " بمعنى " فَعَل " المجرّد ، والتقدير : لا تضرُّ والدةٌ ولدها بسوء غذائه وعدم تعهُّده ، ولا يضرُّ والدٌ ولده بانتزاعه من أمه بعدما ألفها ، ونحو ذلك . وقد جاء " فاعل " بمعنى فعل المجرَّد نحو : واعدته ، ووعدته ، وجاوزته وجزته ، إلاَّ أنَّ الكثير في فاعل الدَّلالة على المشاركة بين مرفوعه ومنصوبه ، ولذلك كان مرفوعه منصوباً في التَّقدير ، ومنصوبه مرفوعاً في التقدير ، فمن ثمَّ كان التوجيه الأول أرجح من توجيه الزمخشريِّ ، وما بعده ، وتوجيه الزمخشريِّ أوجه ممَّا بعده .
فإن قيل : لم قال " تُضَارّ " والفعل واحد ؟
قلنا : معناه لا يضار الأمُّ والأب بألاَّ ترضع الأم ، أو يمنعها الأب وينزعه منها ، أو يكون معناه أنّ كلَّ واحدٍ يقصد بإضرار الولد إضرار الآخر ؛ فيكون في الحقيقة مضارَّة .
قال القرطبي{[3771]} : في هذه الآية دليلٌ لمالك على أنَّ الحضانة للأم ، وهي في الغلام إلى البلوغ ، وفي الجارية إلى النِّكاح ، وذلك حقٌّ لها .
وقال الشَّافعيُّ{[3772]} : إذ بلغ الولد ثماني سنين ، وهو سنُّ التَّمييز ، خيَّر بين أبويه ، فإنه في تلك الحالة تتحرّك همّته لتعلُّم القرآن ، والأدب ، والعبادات ، وذلك يستوي فيه الغلام والجارية .
وروى أبو هريرة : " أنَّ امرأَةً جاءت إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالت له : إنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يذْهَبَ بابني ، وقد سَقَانِي من بئرِ أبي عنبة وقد نفعني ، فقال النَّبيُّ لله صلى الله عليه وسلم : " إسْتَهِما عليه " فقال زوجها : من يحاقُّني في ولدي ؟ فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " هذا أبُوكَ ، وهذه أُمُّكَ ، فَخُذْ بِيد أيِّهمَا شِئْتَ " فأخذ بيد أُمه فانطلقت به " {[3773]} .
ودليلنا ما روى أبو داود ، عن عبد الله بن عمرو : " أَنَّ امرأةً قَالَتْ : يا رَسُولَ اللهِ إِنَّ ابني هذا كَانَتْ بَطْنِي له وِعَاء ، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاء ، وحِجْرِي لَهُ حِوَاء ، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقني ، وأراد أن ينزعه مني ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَنْتِ أَحَقُّ به ما لم تُنْكَحِي " " {[3774]} .
فصل من أحق بالحضانة إذا تزوجت الأم ؟
قال ابن المنذر : أجمع كلُّ من نحفظ عنه من أهل العلم على ألاَّ حقَّ للأمّ في الولد إذا تزوَّجت .
وقال مالك ، والشَّافعيُّ ، والنُّعمان ، وأبو ثور : إنَّ الجدَّة أُمَّ الأُمِّ أحقُّ بحضانة الولد ، واختلفوا إذا لم يكن له أُمٌّ ، وكانت له جدَّةٌ أمُّ أبٍ ، فقال مالكٌ : أمُّ الأب أحقُّ إذا لم يكن للصَّبي خالةٌ . وقال الشَّافعيُّ : أمُّ الأب أحقُّ من الخالة .
فصل الحضانة للقادر على حقوق الولد
ولا حضانة لفاجرةٍ ، ولا لضعيفة عاجزةٍ عن القيام بحقِّ الولد .
وروي عن مالك : أنَّ الحضانة للأُمّ ، ثم الجدَة للأمّ ، ثم الخالة ، ثمّ الجدة للأب ، ثم أخت الصَّبيِّ ، ثم عمَّته .
قال القرطبيُّ{[3775]} : إذا تزوّجت الأمُّ لم ينزع منها ولدها حتى يدخل بها زوجها في المشهور عندنا .
وقال ابن المنذر{[3776]} : إذا خرجت الأمُّ عن بلد ولدها ، ثمَّ رجعت إليه ، فهي أحقُّ بولدها : في قول الشَّافعيِّ ، وأبي ثور ، وأصحاب الرّأي وكذلك لو تزوَّجت ثمَّ طلِّقت ، أو توفِّي عنها زوجها ، رجعت إلى حقّها في الولد ، فإن تركت حقَّها من الحضانة ، ولم ترد أخذه ، وهي فارغةٌ غير مشغولةٍ ، بزوجٍ ، ثم أرادت بعد ذلك أخذه كان لها ذلك .
وقال القرطبيُّ{[3777]} : إن كان تركها له من عذر ، كان لها ذلك ، وإن تركته رفضاً له ، ومقتاً ، لم يكن لها بعد ذلك أخذه .
فإن طلَّقها الزَّوج ، وكانت الزَّوجة ذِمّيةٌ ، فلا حضانة لها .
وقال أبو ثورٍ ، وأصحاب الرَّأي ، وابن القاسم : لا فرق بين الذِّميَّة والمسلمة . وكذلك اختلفوا في الزَّوجين ؛ يفترقان أحدهما [ حرٌّ ] والآخر مملوكٌ .
قوله : " له " في محلِّ رفعٍ لقيامه مقام الفاعل .
قوله : { لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ } فيه دلالةٌ على ما يقوله النَّحويُّون ، وهو أنَّه إذا اجتمع مذكَّرٌ ومؤنَّثٌ ، معطوفاً أحدهما على الآخر ، كان حكم الفعل السابق عليهما للسابق منهما ، تقول : قام زيدٌ وهندٌ ، فلا تلحق علامة تأنيثٍ ، وقامت هندٌ وزيدٌ ، فتُلحق العلامة ، والآية الكريمة من هذا القبيل ، ولا يستثنى من ذلك إلاَّ أن يكون المؤنث مجازيّاً ، فيحسن ألاَّ يراعى المؤنَّث ، وإن تقدَّم ؛ كقوله تعالى : { وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } [ القيامة :9 ] .
وفي هذه الجمل من علم البيان : الفصل ، والوصل .
أما الفصل : وهو عدم العطف بين قوله : " لا تُكَلَّفُ نفسٌ " وبين قوله : " لا تضارَّ " ؛ لأنَّ قوله : " لا تُضارَّ " كالشَّرح للجملة قبلها ؛ لأنه إذا لم تُكَلَّف النفس إلاَّ طاقتها ، لم يقع ضررٌ ، لا للوالدة ، ولا للمولود له . وكذلك أيضاً لم يعطف : " لا تُكَلَّفُ نفسٌ " على ما قبلها ؛ لأنها مع ما بعدها تفسيرٌ لقوله " بالمعروف " .
وأمَّا الوصل : وهو العطف بين قوله : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ } ، وبين قوله : { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ } ؛ فلأنَّهما جملتان متغايرتان في كلٍّ منهما حكمٌ ليس في الأخرى . ومنه أيضاً إبراز الجملة الأولى مبتدأً وخبراً ، وجعل الخبر فعلاً ؛ لأنَّ الإرضاع مما يتجدَّدُ دائماً . وأُضيفت الوالداتُ للأولاد ؛ تنبيهاً على شفقتهنَّ ، وحثاً لهنَّ على الإرضاع .
وجيء بالوالدات بلفظ العموم ، وإن كان جمع قلَّة ؛ لأنَّ جمع القلَّة متى حلِّي بأل ، عمَّ ، وكذلك " أَوْلاَدَهُنَّ " عامٌّ ؛ لإضافته إلى ضمير العامِّ ، وإن كان - أيضاً - جمع قلَّةٍ .
وفيها أيضاً إبراز الجملة الثانية مبتدأً وخبراً ، والخبر جارٌّ ومجرورٌ بحرف " على " الدالِّ على الاستعلاء المجازيّ في الوجوب ، وقدِّم الخبر ؛ اعتناءً به . وقدِّم الرزقُ على الكسوة ؛ لأنه الأهمُّ في بقاء الحياة ، ولتكرره كل يومٍ .
وأبرزت الثالثة فعلاً ، ومرفوعه ، وجعل مرفوعه نكرةً في سياق النفي ؛ ليعمَّ ، ويتناول ما سبق لأجله من حكم الوالدات في الإرضاع ، والمولود له في الرزق ، والكسوة الواجبتين عليه للوالدة .
وأبرزت الرابعة كذلك ؛ لأنَّها كالإيضاح لما قبلها ؛ والتفصيل بعد الإجمال ؛ ولذلك لم يعطف عليها كما ذكرته لك . ولمَّا كان تكليف النفس فوق الطاقة ، ومضارَّةُ أحد الزوجين للآخر ممَّا يتكرَّر ويتجدَّد ، أتى بهاتين الجملتين فعليتين ، وأدخل عليهما حرف النَّفي وهو " لا " ؛ لأنه موضوعٌ للاستقبال غالباً .
وأمَّا في قراءة من جزم ، فإنَّها ناهيةٌ ، للاستقبال فقط ، وأضاف الولد إلى الوالدة والمولود له ؛ تنبيهاً على الشفقة والاستعطاف ، وقدَّم ذكر عدم مضارَّة الوالدة على ذكر عدم مضارة الوالد ؛ مراعاةً لما تقدَّم من الجملتين ، إذ قد بدأ بحكم الوالدات وثنَّى بحكم الوالد .
قوله : { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ } هذه جملةٌ من مبتدأ وخبر ، قدَّم الخبر ؛ اهتماماً ، ولا يخفى ما فيها ، وهي معطوفة على قوله : { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ } وما بينهما اعتراضٌ ؛ لأنه كالتَّفسير لقوله : " بِالْمَعْرُوفِ " كما تقدَّم التنبيه عليه .
والألف واللاَّم في " الوَارِثِ " بدلٌ من الضَّمير عند من يرى ذلك ، ثم اختلفوا في ذلك الضَّمير هل يعود على المولود له ، وهو الأب ، فكأنه قيل : وعلى وارثه ، أي : وارث المولود له ، أو يعود على الولد نفسه ، أي : وارث الولد ؟ وهذا على حسب اختلافهم في الوارث .
وقرأ يحيى بن يعمر{[3778]} : " الوَرَثَةِ " بلفظ الجمع ، والمشار إليه بقوله : " مثلُ ذلك " إلى الواجب من الرزق والكسوة ، وهذا أحسن من قول من يقول : أشير به إلى الرزق والكسوة . وأشير بما للواحد للاثنين ؛ كقوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ } [ البقرة :68 ] . وإنما كان أحسن ؛ لأنه لا يحوج إلى تأويلٍ ، وقيل : المشار إليه هو عدم المضارَّة ، قاله الشعبيُّ ، والزهري ، والضحاك ، وقيل : منهما وهو قول الجمهور .
في المراد ب " الوارث " أربعة أقوالٍ :
أحدها : قال ابن عباس{[3779]} : المراد وارث الأب ؛ لأنَّ قوله : { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ } معطوفٌ على قوله : { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وما بينهما اعتراضٌ لبيان المعروف ، والمعنى أنَّ المولود له إن مات ، فعلى وارثه مثل ما وجب عليه ، أي : يقوم وارثه مقامه في رزقها وكسوتها بالمعروف وتجنُّب الإضرار .
قال أبو مسلم الأصبهانيُّ{[3780]} : وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ الولد أيضاً يرثه فيؤدِّي ذلك إلى وجوب نفقته على غيره حال ما له مال ينفق منه ، وهذا غير جائزٍ .
قال ابن الخطيب{[3781]} : ويمكن أن يجاب بأنَّ الصبيَّ إذا ورث من أبيه مالاً ، فإنَّه يحتاج إلى من يقوم بتعهُّده والنَّفقة عليه بالمعروف ، ويدفع الضَّرر عنه ، وهذه الأشياء يمكن إيجابها على وارث الأب .
القول الثاني : أنَّ المراد وارث الصبيِّ ، فيجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجباً على الأب ، هذا قول الحسن ، وقتادة ، وأبي مسلم ، والقاضي ، ثم اختلفوا في أنه أيُّ وارثٍ هو ؟ فقيل : العصبات من الرِّجال ، وهو قول عمر بن الخطَّاب ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وسفيان ، وإبراهيم{[3782]} .
وقيل : هو وارث الصبيِّ من الرِّجال والنساء على قدر مواريثهم منه ، وهو قول قتادة وابن أبي ليلى{[3783]} ، ومذهب أحمد وإسحاق .
وقيل : المراد من كان ذا رحمٍ محرمٍ دون غيرهم ؛ كابن العمِّ والمولى ، وهو قول أبي حنيفة{[3784]} .
وظاهر الآية يقتضي أَلاَّ فرق بين وارثٍ ووارثٍ ، ولولا أن الأمَّ خرجت من حيث إنَّه أوجب الحقَّ لها ، لصحَّ دخولها تحت الكلام ؛ لأنَّها قد تكون وارثةً للصبيِّ كغيرها .
القول الثالث : المراد من الوارث الباقي من الأبوين ، كما جاء في الدعاء : " واجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا " {[3785]} أي : الباقي ، وهو قول سفيان{[3786]} وجماعة .
القول الرابع : المراد الصبيُّ نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفَّى ، فإن كان له مالٌ ، وجب أجرة رضاعه في ماله ، وإن لم يكن له مال ، فعلى الأمِّ ، ولا يجبر على نفقة الصبيِّ إلاَّ الوالدان ، وهو قول مالكٍ والشافعيِّ .
قوله : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً } .
أحدهما : أنَّه الفطام ؛ لقوله تعالى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف :15 ] وإنَّما سمي الفطام بالفصال ؛ لأنَّ الولد ينفصل عن الاغتذاء بثدي أمِّه إلى غيره من الأقوات .
والثاني : قال أبو مسلم{[3787]} : ويحتمل أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الولد والأمِّ ، إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك ، ولم يرجع بسبب ذلك ضررٌ إلى الولد .
قال المبرِّد : والفصال ، يقال : فصل الولد عن الأمِّ فصلاً وفصالاً ، والفصال أحسن ؛ لأنَّه إذا انفصل عن أمِّه ، فقد انفصلت منه ، فبينهما فصالٌ ، نحو القتال والضِّراب ، وسمِّي الفصيل فصيلاً ؛ لأنَّه مفصولٌ عن أمِّه ؛ ويقال : فصل من البلد ، إذا خرج عنها وفارقها ؛ قال تعالى : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ } [ البقرة :249 ] ، وحمل الفصال على الفطام هو قول أكثر المفسرين{[3788]} .
اعلم أنَّه لمَّا بيَّن تمام مدَّة الرضاع بقوله : { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } وجب حمل هذه الآية على غير ذلك ، حتى لا يلزم التَّكرار ، واختلفوا في ذلك : فمنهم من قال : إنَّها تدلُّ على جواز الفطام قبل الحولين وبعدهما ، وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاس{[3789]} .
قوله تعالى : { عَن تَرَاضٍ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ ؛ إذ هو صفةٌ ل " فِصَالاً " فهو في محلِّ نصبٍ ، أي : فصالاً كائناً عن تَرَاضٍ ، وقدَّره الزمخشريُّ : صادراً عن تَرَاضٍ ، وفيه نظرٌ من حيث كونه كوناً مقيَّداً .
والثاني : أنه متعلقٌ ب " أَرَادَا " ، قاله أبو البقاء{[3790]} ، ولا معنى له إلاَّ بتكلّف . والفصال ، والفصل : الفطام ، وأصله التفريق ، فهو تفريقٌ بين الصبيِّ والثَّدي ، ومنه سمِّي الفصيل ؛ لأنَّه مفصولٌ عن أمه .
و " عَنْ " للمجاوزة مجازاً ؛ لأنَّ التَّراضي معنًى ، لا عينٌ .
و " تَرَاضٍ " مصدر تفاعل ، فعينه مضمومةٌ ، وأصله : تفاعلٌ تراضوٌ ، ففعل فيه ما فعل ب " أدْلٍ " جمع دلوٍ ، من قلب الواو ياءً ، والضمة قلبها كسرةً ، إذ لا يوجد في الأسماء المعربة واوٌ قبلها ضمةٌ لغير الجمع إلا ويفعل بها ذلك تخفيفاً .
قوله تعالى : " مِّنْهُمَا " في محلِّ جرٍّ صفةً ل " تَرَاضٍ " ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : تَرَاضٍ كائنٍ أو صادرٍ منهما ، و " مِنْ " لابتداء الغاية .
وقوله : " وَتَشَاوُرٍ " [ حذفت " مِنْهُمَا " لدلالة ما قبلها عليها ، والتقدير : وتشاور منهما ] ، ويحتمل أن يكون التَّشاور من أحدهما ، مع غير الآخر ؛ لتتفق الآراء منهما ، ومن غيرهما على المصلحة .
قوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } الفاء جواب الشَّرط ، وقد تقدَّم نظير هذه الجملة ، ولا بُدَّ قبل هذا الجواب من جملةٍ قد حذفت ؛ ليصحَّ المعنى بذلك ، تقديره : ففصلاه أو فعلا ما تراضيا عليه ، فلا جناح عليهما في الفصال ، أو في الفصل .
التشاور في اللُّغة : استخراج الرَّأْي ، وكذلك المشورة كالمعونة ، وشرت العسل ، إذا استخرجته .
وقال أبو زيدٍ : شُرت الدَّابَّةَ ، وشَوَّرْتُهَا ، أجريتها لاستخراج جريها في الموضع الذي تعرض فيه الدوابُّ ، يقال له : الشّوار ، والشَّوار بالفتح متاع البيت ؛ لأنَّه يظهر للنَّاظر ، ويقال : شوَّرته فتشوَّر ، أي : خجلته ، والشَّارة : هيئة الرَّجل ؛ لأنَّه ما يظهر من زينته ويبدو منها ، والإشارة : إخراج ما في نفسك وإظهاره للمخاطب بالنُّطق وغيره .
دلَّت الآية على أن الفطام في أقلَّ من حولين لا يجوز إلاَّ عند رضا الوالدين ، وعند المشاورة مع أرباب التَّجارب ، وذلك لأنَّ الأمَّ قد تملُّ من الرَّضاع فتحاول الفطام ؛ والأب أيضاً قد يملُّ من عطاء الأجرة على الإِرْضَاع ، فيحاول الفِطَام ؛ دَفْعاً لذلك ، لكنهما قلَّما يتوافقان على الإضرار بالولد ؛ لغرض النَّفس ، ثم بتقدير توافقهما : اعتبر المشاورة مع غيرهما ، وعند ذلك يبعد حصول موافقة الكلِّ على ما يكون فيه ضرر الولد ، فعند اتِّفاق الكلِّ على أنَّ الفطام قبل الحولين لا يضرُّ الولد البتَّة يجوز الفطام .
فانظر إلى إحسان الله تعالى بهذا الطفل الصغير ، كم شرط في جواز فطامه من الشروط ؛ دفعاً للمضارِّ عنه ، ثم عند اجتماع هذه الشَّرائط لم يصرِّح بالإذن ، بل قال : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } .
قوله : { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ } .
" أن " وما في حيِّزها في محلِّ نصبٍ ، مفعولاً ب " أَرَاد " وفي " اسْتَرْضَعَ " قولان للنَّحويين :
أحدهما : أنه يتعدَّى لاثنين ، ثانيهما بحرف الجرِّ ، والتقدير : أن تسترضعوا المراضع لأولادكم ، فحذف المفعول الأوَّل وحرف الجر من الثاني ، فهو نظير " أَمَرْتُ الخَيْرَ " ، ذكرت المأمور به ، ولم تذكر المأمور ؛ لأنَّ الثاني منهما غير الأوَّل ، وكلُّ مفعولين كانا كذلك ، فأنت فيهما بالخيار بين ذكرهما وحذفهما ، وذكر الأوَّل ، دون الثاني والعكس .
قال الواحديُّ : { أن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ } ، أي : لأَوْلاَدِكُمْ وحذف اللام ، اجتزاءً بدلالة الاسترضاع{[3791]} ؛ لأنَّه لا يكون إلاَّ للأولاد ، ولا يجوز : " دَعَوْتُ زَيْداً " وأنت تريد لزيد ؛ لأنَّه لا يلتبس{[3792]} هاهنا خلاف ما قلنا في الاسترضاع ، ونظير حذف " اللاَّم " قوله تعالى : { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [ المطففين :3 ] أي : كالوا لهم ، أو وزنوا لهم .
والثاني : أنه متعدٍّ إليهما بنفسه ، ولكنه حذف المفعول الأول ، وهذا رأي الزمخشريِّ ، ونظَّر الآية الكريمة بقولك : " أَنَجَحَ الحَاجَةَ " " وَاسْتَنْجَحَتْهُ الحَاجَةُ " وهذا يكون نقلاً بعد نقلٍ ؛ لأنَّ الأصل " رَضِعَ الوَلَدُ " ، ثم تقول : " أَرْضَعَت المَرْأَةُ الوَلَدَ " ، ثم تقول : " اسْتَرْضَعْتُهَا الوَلَدَ " ؛ هكذا قال أبو حيَّان .
قال شهاب الدين : وفيه نظر ؛ لأنَّ قوله " رضِعَ الوَلَدُ " يشعر أنَّ هذا لازمٌ ، ثم عدَّيته بهمزة النقل ، ثم عدَّيته ثانياً بسين الاستفعال ، وليس كذلك ، لأنَّ " رَضِعَ الوَلَدُ " متعدٍّ ، غاية ما فيه أنَّ مفعوله غير مذكورٍ ، وتقديره : رَضِعَ الوَلَدُ أُمَّهُ ؛ لأنَّ المادَّة تقتضي مفعولاً به ؛ كضرب ، وأيضاً فالتعدية بالسين قول مرغوبٌ عنه ، والسين للطلب على بابها ؛ نحو : اسْتَسْقَيْتُ زَيْداً مَاءً ، واسْتَطْعَمْتُهُ خُبْزاً ؛ فكما أنَّ ماءً وخبزاً منصوبان ، لا على إسقاط الخافض كذلك " أَوْلاَدَكُمْ " ، وقد جاء [ استفعل ] للطَّلب ، وهو معدًّى إلى الثاني بحرف جرٍّ ، وإن كان " أَفْعَلَ " الذي هو أصله متعدِّياً لاثنين ، نحو : " أَفْهَمَنِي زَيْد المَسْأَلَةَ " واستفهمته عنها ، ويجوز حذف " عَنْ " ، فلم يجيء مجيءَ " اسْتَسْقَيْتُ " و " اسْتَطْعَمْتُ " من كون ثانيهما منصوباً ، لا على إسقاط الخافض .
وفي هذا الكلام التفاتٌ وتلوينٌ ، أمَّا الالتفات : فإنه خروجٌ من ضمير الغيبة في قوله : " فَإِنْ أَرَادُوا " إلى الخطاب في قوله : " وَإِنْ أَرَدتُّمْ " ؛ إذ المخاطب الآباء والأمهات ، وأمَّا التلوين في الضمائر ، فإنَّ الأول ضمير تثنيةٍ ، وهذا ضمير جمعٍ ، والمراد بهما الآباء والأمهات أيضاً ؛ وكأنه رجع بهذا الضمير المجموع إلى الوالدات والمولُودِ له ، ولكنه غَلَّبَ المُذَكَّرَ ، وهو المولودُ له ، وإنْ كان مفرداً لفظاً ، و " فَلاَ جُنَاحَ " جوابُ الشرطِ .
قوله : { إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم } " إِذَا " شرطٌ حذف جوابه ؛ لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه ، قال أبو البقاء{[3793]} : وذلك المعنى هو العاملُ في " إذا " وهو متعلِّق بما تعلَّق به " عَلَيْكُم " ، وهذا خطأٌ في الظاهر ؛ لأنه جعل العامل فيها أولاً ذلك المعنى المدلول عليه بالشَّرط الأوَّل وجوابه ، فقوله ثانياً " وهو متعلِّق بما تعلَّق به عَلَيْكُم " تناقضٌ ، اللهم إلا أن يقال : قد يكون سقطت من الكاتب ألفٌ ، وكان الأصل " أَوْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ " فيصحُّ ، إلاَّ أنه إذا كان كذلك ، تمحَّضت " إِذَا " للظرفية ، ولم تكن للشرط ، وكلام هذا القائل يشعر بأنها شرطيةٌ في الوجهين على تقدير الاعتذار عنه .
وليس التَّسليم شرطاً للجواز والصحَّة ، وإنَّما هو ندب إلى الأولى ، والمقصود منه أن يسلِّم الأجرة إلى المرضعة يداً بيدٍ ، حتى تطيب نفسها ، ويصير ذلك سبباً لصلاح حال الطِّفل ، والاحتياط في مصالحه .
وقرأ الجمهور : " آتَيْتُمْ " بالمدِّ هنا وفي الرُّوم : { وَمَا آتَيْتُمْ مِّن رِّباً } [ الروم :39 ] وقصرهما ابن كثير{[3794]} . وروى شيبان{[3795]} عن عاصم " أُوتِيتُمْ " مبنيّاً للمفعول ، أي : ما أقدركم الله عليه ، فأمَّا قراءة الجمهور ، فواضحةٌ ؛ لأنَّ " آتَى " بمعنى " أَعْطَى " ، فهي تتعدَّى لاثنين ، أحدهما ضمير يعود على " مَا " الموصولة ، والآخر ضميرٌ يعود على المراضع ، والتقدير : ما آتيتموهنَّ إيَّاه ، ف " هُنَّ " هو المفعول الأوَّل ؛ لأنه الفاعل في المعنى ، والعائد هو الثاني ؛ لأنه هو المفعول في المعنى ، والكلام على حذف هذا الضمير ، وهو منفصلٌ قد تقدَّم ما عليه من الإشكال ، والجواب عند قوله :
{ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة :3 ] .
وأمَّا قراءة القصر ، فمعناها جئتم وفعلتم يقال : أَتَيْتُ جميلاً ، إذا فعلته ؛ قال زهيرٌ : [ الطويل ]
وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا *** تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ{[3796]}
أي : فعلوه ، والمعنى : إذا سلَّمتم ما جئتم وفعلتم .
فعلى هذه القراءة يكون التَّسليم بمعنى الطَّاعة ، والانقياد ، لا بمعنى تسليم الأجرة ، يعني : إذا سلَّمتم لأمره وانقدتم لحكمه .
وقال أبو عليٍّ : ما أتيتم نقده أو إعطاءه ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهو عائد الموصول ، فصار : آتيتموه ، أي : جئتموه .
وأما قراءة عاصم ، فمعناها : ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة ، وهو في معنى قوله تعالى : { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [ الحديد :7 ] .
ثم حذف عائد الموصول ، وأجاز أبو البقاء أن يكون التقدير : ما جئتم به ، فحذف ، يعني : حذف على التَّدريج بأن حذف حرف الجرِّ أولاً ؛ فاتَّصل الضمير منصوباً بفعلٍ ، فحذف .
و " ما " فيها وجهان : أظهرهما : أنها بمعنى " الَّذِي " وأجاز أبو عليٍّ فيها أن تكون موصولةً حرفيَّةً ، ولكن ذكر ذلك مع قراءة القصر خاصَّةً ، والتقدير : إذا سلَّمتم الإتيان ، وحينئذٍ يستغنى عن ذلك الضَّمير المحذوف ، ولا يختصّ ذلك بقراءة القصر ، بل يجوز أن تكون مصدريَّةً مع المدِّ أيضاً ؛ على أن المصدر واقعٌ موقع المفعول ، تقديره : إذا سلَّمتم الإعطاء ، أي : المعطى .
والظاهر في " مَا " أن يكون المراد بها الأُجرة التي تتعاطاها المرضع ، والخطاب على هذا في قوله : " سَلَّمْتُمْ " و " آتَيْتُمْ " للآباء خاصَّة ، وأجازوا أن يكون المراد بها الأولاد ، قاله قتادة والزهري ، وفيه نظرٌ ؛ من حيث وقوعها على العقلاء ؛ وعلى هذا فالخطاب في " سَلَّمْتُمْ " للآباء والأمَّهات .
قوله تعالى : { بِالْمَعْرُوفِ } فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن يتعلَّق ب " سَلَّمْتُمْ " أي : بالقول الجميل .
والثاني : أن يتعلَّق ب " آتَيْتُمْ " .
والثالث : أن يكون حالاً من فاعل " سَلَّمْتُمْ " ، أو " آتَيتُمْ " ، فالعامل فيه حينئذٍ محذوفٌ ، أي : مُلْتَبِسِينَ بالمعروف .
قد تقدَّم أنَّ الأمَّ أحقُّ بالرَّضاع ، فإن حصل ثمَّ مانعٌ عن ذلك ، جاز العدول عنها إلى غيرها ، مثل أن تتزوَّج بزوجٍ آخر ، فإنَّ قيامها بحقِّ ذلك الزوج يمنعها من الرَّضاع .
ومنها : إذا طلَّقها الزوج الأوَّل ، فقد تكره الرَّضاع ؛ حتى يتزوَّج بها زوجٌ آخر .
ومنها : أن تأبى المرأة إرضاع الولد ؛ إيذاءً للزَّوج المطلِّق وإيحاشاً له .
ومنها : أن تمرض ، أو ينقطع لبنها .
فعند أحد هذه الوجوه ، إذا وجدنا مرضعةً أخرى ، وقبل الطفل لبنها ، جاز العدول عن الأمِّ إلى غيرها .
فأمَّا إذا لم نجد مرضعةً أخرى أو وجدناها ، لكنَّ الطفل لا يقبل لبنها ، فهاهنا الإرضاع واجبٌ على الأمِّ .
ثم إنَّه تعالى ختم الآية بالتَّحذير ، فقال : { وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .