{ وَالْوَالِدَاتُ } المطلقات اللاتي لهنّ أولاد من أزواجهنّ المطلقين ولدنهم قبل الطلاق أو بعده { يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } يعني أنهنّ أحق برضاعهنّ من غيرهنّ ، أمر استحباب لا أمر إيجاب من أنه رضاعهن عليهنّ لأنه سبحانه وتعالى قال في سورة الطلاق { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [ الطلاق : 6 ] إلى { لَهُ أُخْرَى } [ الطلاق : 6 ] .
ثم بيّن حدّ الرضاع فقال : { حَوْلَيْنِ } أي سنتين ، وأصله من قولهم : حالَ الشيء إذا انتقل وتغيّر { كَامِلَيْنِ } على التأكيد كقوله تلك عشرة كاملة ، وقال أهل المعاني : إنما قال { كَامِلَيْنِ } لأنّ العرب تقول : أقام فلان مقام كذا حولين أوشهرين وإنما أقام حولا وبعض آخر ، ويقولون : اليوم يومان مذ لم أره ، وإنما يعنون يوماً وبعض آخر ، ومنه قوله { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } ومعلوم أنه يتعجل أو يتأخر في يوم ونصف ، ومثلها كثير ، فبيّن الله أنهما حولان كاملان أربعة وعشرين شهراً من يوم ولد إلى أن يُفطم .
واختلف العلماء في هذا الحدّ أهو حدّ لكل مولود أو حدّ لبعض دون بعض ؟ فروى عكرمة عن ابن عباس : إذا وضعت لستة أشهر فإنها ترضعه حولين كاملين ، أربعة وعشرين شهراً ، وإذا وضعته لسبعة أشهر أرضعته ثلاثة وعشرين شهراً ، وإذا وضعته لتسعة أشهر أرضعته إحدى وعشرين شهراً ، كل ذلك تمام ثلاثين شهراً ، قال الله تعالى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] .
وقال قوم : هو حدّ لكل مولود في وقت وأن لا ينقص من حولين ولا يزيد إلاّ أن يشاء الزيادة ؛ فإن أراد الأب يفطمه قبل الحولين ولم ترضَ الأُم فليس له ذلك ، وإذا قالت الأُم : أنا أفطمه قبل الحولين ، وقال الأب : لا ، فليس لها أن تفطمه حتى يتفقا جميعاً على الرضا ، فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه وإن اختلفا لم يفطماه قبل الحولين ، وذلك قوله { عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ } ويشاور هذا قول ابن جريج والثوري ورواية الوالبي عن ابن عباس .
وقال آخرون : المراد بهذه الآية الدلالة على الرضاع ما كان في الحولين ، فإنّ ما بعد الحولين من الرضاع يحرم ، وهو قول علي وعبد الله وابن عباس وابن عمر وعلقمة والشعبي والزهري ، وفي الحديث : " لا رضاع بعد الحولين " ، وإنما يحرم من الرضاع ما أنبت اللحم وأنشر العظم .
وقال قتادة والربيع : فرض الله عزّوجل على الوالدات أن يرضعن أولادهنّ حولين كاملين ثم أنزل الرخصة والتخفيف بعد ذلك فقال : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } أي هذا منتهى الرضاع ، وليس فيما دون ذلك وقت محدود ، وإنما هو على مقدار صلاح الصبي وما يعيش به ، وقرأ أبو رجاء { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } بكسر الراء ، قال الخليل والفرّاء : هما لغتان ، مثل الوِكالة والوَكالة والدِّلالة .
وقرأ مجاهد وابن محجن ( لمن أراد أن يتم الرضعة ) وهي فعلة كالمرّة الواحدة ، وقرأ عكرمة وحميد وعون العقيلي ( لمن أراد أن تتم الرضاعة ) بتاء مفتوحة ورفع الرضاعة على أن الفعل لها ، وقرأ ابن عباس ( يكمل الرضاعة ) . { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ } يعني الأب { رِزْقُهُنَّ } طعامهنّ وقوتهنّ { وَكِسْوَتُهُنَّ } لباسهنّ ، وقرأ طلحة عن مصرف { وَكُسْوَتُهُنَّ } بضم الكاف ، وهما لغتان مثل أُسوه وإسوة ورشوه ورشوة { بِالْمَعْرُوفِ } علم الله تفاوت أحوال خلقه في الغنى والفقر ، فقال { بِالْمَعْرُوفِ } أي على قدر الميسرة جعل الرضاعة على الأم والنفقة على الأب { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } والتكليف الإلزام ، قال الشاعر :
تكلّفني معيشة آل فهر *** ومن لي بالصلائق والصناب
والوسْع ما يسع الإنسان فيطيقه ولا يضيق عليه ، وهو اسم كالجهد والوجد ، وقيل : الوسع يعني الطاقة ، ورُفع ( النفس ) باسم الفعل المجهول لأنّه وضع موضع الفاعل ، وانتصب ( الوسع ) بخبر الفعل المجهول ، لأنّه أُقيم مقام المفعول ، نظيرها في سورة الطلاق . { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } قرأ ابن محجن وابن كثير وشبل وأبو عمرو وسلام ويعقوب وقتيبة برفع الراء مشددة وأجازه أبو حاتم على الخبر مسبوقاً على قوله { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ } [ الطلاق : 7 ] وأصله فلا يضارر فأُدغمت الراء في الراء ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكناني وخلف { لاَ تُضَآرَّ } مشددة منصوبة الراء ، واختاره أبو عبيد على النهي وأصله لا تضارر فأدغمت وحرّكت إلى أخفّ الحركات وهو النصب ، ويدلّ عليه قراءة عمر : لا تضارر على إظهار التضعيف ، وقرأ الحسن : لا تضارّ براء مدغمة مكسورة لأنها لمّا أُدغمت سُكّنت ، وبجزمه تحرّك إلى الكسر ، وروى أبان عن عاصم : لا تُضارر مظهرة مكسورة على أنّ الفعل لها ، وقرأ أبو جعفر لا تضار بجزم الراء وتخفيفه على الحذف طلباً للخفّة .
ومعنى الآية { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } فينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه وألفها الصبي { وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } ولا تلقيه هي إلى أبيه بعد ما عرفها تضارّه بذلك .
وقيل : معناه { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ } فيكرهها على الرضاعة إذا قبل من غيرها ، وكرهت هي إرضاعه ؛ لأنّ ذلك ليس بواجب عليها { وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } فيحمل على أن يعطي الأم إذا لم يرضع الولد إلاّ منها أكثر ممّا يحب لها عليه ، فهذان القولان على مذهب الفعل المجهول على معنى أنه يفعل ذلك بها وبوالده والمولود له مفعولان ، وأصل الكلمة يضارّ بفتح الراء الأُولى ، ويحتمل أن يكون الفعل لهما ، وأن يكون تضارّ على مذهب ما قد سُمّي فاعله ، والمعنى : لا يضارّ والده فتأبى أن ترضع ولدها لتشقّ على أبيه ولا مولود له ، ولا يضارّ الأب أم الصبي فيمنعها من إرضاعه وينزعه منها ، وعلى هذا المذهب أصله لا يضارر بكسر الراء الأُولى ، وعلى هذه الأقوال يرجع الضرار إلى الوالدين بضرّ كل واحد منهما صاحبه بسبب الولد .
ويجوز أن يكون الضرار راجعاً إلى الصبي أي لا يضارّ كل واحد منهما الصبي ، فلا ترضعه الأم حتى يموت ، أولا ينفق عليها الأب أو ينزعه من أُمه حتى يضرّ بالصبي وبكون الياء زائدة معناه : لا تضارّ الأم ولدها ولا أب ولده ، وكل هذه الأقاويل مروية عن المفسّرين . { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ } اختلف أهل الفتاوى فيه أي وارث هو ؟ ووارث من هو ؟ فقال قوم : هو وارث الصبي ، معناه : وعلى وارث الصبي الذي لو مات الصبي وله خال ورثه ، مثل الذي كان على أبيه في حياته .
ثم اختلفوا أي وارث هو من ورثته ؟ فقال بعضهم : هو عصبته كائناً من كان من الرجال دون النساء ، مثل الجد والأخ وابن الأخ والعم وابن العم ونحوهم ، وهو قول عمر ( رضي الله عنه ) والزهري والحسن ومجاهد وعطاء ومذهب سفيان ، قال : إذا لم يبلغ نصيب الصبي ما ينفق عليه أجرت العصبة الذين يرثونه أن يسترضعوه .
قال ابن سيرين : أتى عبد الله بن عتبة في رضاع صبي يتيم ومنعه وليه ؛ فجعل رضاعه في ماله ، وقال لوارثه : لو لم يكن له مال لجعلنا رضاعه في مالك ، ألاترى أنّ الله عزّ وجلّ يقول { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ } ؟ قال الضحاك : إنْ مات أبُ الصبي وللصبي المال أخذ رضاعه من المال ، وإنْ لم يكن له مال أخذ من العصبة ، وإن لم يكن للعصبة مال أجرت عليه أُمّه .
وقال بعضهم : هو ويرث الصبي كائناً من كان من الرجال والنساء ، وهو قول قتادة والحسن بن صالح وابن أبي ليلى ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور قالوا : يجبر على نفقته كل وارث على قدر ميراثه ، عصبةً كانوا أو غيرهم .
وقال بعضهم : هو من كان ذا رحم محرم من ورثة المولود ؛ فمن لم يكن بمحرم مثل ابن العم والمولى وما أشبههما فليسوا ممن عناهم الله بقوله { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ } وإن كانوا من جملة العصبة لا يجبرون على النفقة ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد ، قال : لا يجبر على نفقة الصبي إلاّ ذو رحمه المحرم ، وقال آخرون { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ } يعني الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى فإنّ عليه أجر رضاعه في ماله إن كان له مال ، فإن لم يكن له مال أجبر أمّه على رضاعه ، ولا يجبر على نفقة الصبي إلاّ الوالدان ، وهو قول مالك والشافعي . وقيل : هو الباقي من والديّ المولود بعد وفاة الآخر منهما عليه مثل ذلك ، يعني : مثل ما كان على الأب من أجر الرضاع والنفقة والكسوة ، قاله أكثر العلماء ، وقال الشعبي والزهري : { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ } يعني أن لا يضارّ . { فَإِنْ أَرَادَا } يعني الوالدان { فِصَالاً } فطاماً قبل الحولين وأصل الفصل القطع { عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا } جميعاً به واتفاقاً عليه { وَتَشَاوُرٍ } وهو استخراج الرأي ، وأصله من شرت الدابة وشوّرتها إذا استخرجت ما عندها من ( الغدد ) ويقال لعلم ذلك : المشوار . { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ } أيها الآباء { أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ } مراضع غير أمهاتهم إذا أَبين مراضاتهم أن يرضعنه ، أو لعلّة بهنّ أو انقطاع لبنهنّ ، أو أردن النكاح ، أو خفتم الضيعة على أولادكم { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم } إلى أُمهاتهم أجرهن بقدر ما أرضعن ، وقيل : سلّمتم أجور المراضع إليهن .
وقيل : إذا سلّمتم الاسترضاع عن تراض واتفاق دون الضرار وذلك قوله تعالى { مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *