فلما انقضت سبع سنين - قال الكلبي : وهذا السبع سوى الخمسة التي كانت قبل ذلك - ودنا فرج يوسف ، رأى ملك مصر الأكبر رؤيا عجيبة هالته ، وذلك أنه رأى سبع بقران سمان ، خرجن من البحر ، ثم خرج عقبهن سبع بقرات عجاف في غاية الهزال ، فابتلعت العجاف السمان فدخلن في بطونهن ، فلم ير منهن شيء ولم يتبين على العجاف منها شيء ، ثم رأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها ، وسبعا أخر يابسات قد استحصدت ، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها ولم يبق من خضرتها شيء ، فجمع السحرة والكهنة والحادة والمعبرين وقص عليهم رؤياه .
قوله تعالى : { وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات } ، فقال لهم ، { يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون } .
{ 43 - 49 } { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ }
لما أراد الله تعالى أن يخرج يوسف من السجن ، أرى الله الملك هذه الرؤيا العجيبة ، الذي تأويلها يتناول جميع الأمة ، ليكون تأويلها على يد يوسف ، فيظهر من فضله ، ويبين من علمه ما يكون له رفعة في الدارين ، ومن التقادير المناسبة أن الملك الذي ترجع إليه أمور الرعية هو الذي رآها ، لارتباط مصالحها به .
وذلك أنه رأى رؤيا هالته ، فجمع لها علماء قومه وذوي الرأي منهم وقال : { إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ } أي : سبع من البقرات { عِجَافٌ } وهذا من العجب ، أن السبع العجاف الهزيلات اللاتي سقطت قوتهن ، يأكلن السبع السمان التي كنَّ نهاية في القوة .
{ وَ } رأيت { سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ } يأكلهن سبع سنبلات { يَابِسَاتٍ } { يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ } لأن تعبير الجميع واحد ، وتأويله شيء واحد . { إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } فتحيروا ، ولم يعرفوا لها وجها .
هذا عطف جزء من قصة على جزء منها تكملة لوصف خلاص يوسف عليه السّلام من السجن .
والتعريف في { الملك } للعهد ، أي ملك مصر . وسماه القرآن هنا ملكاً ولم يسمه فرعونَ لأن هذا الملك لم يكن من الفراعنة ملوك مصر القبط ، وإنما كان ملكاً لمصر أيامَ حَكَمَها ( الهِكسوس ) ، وهم العمالقة ، وهم من الكنعانيين ، أو من العرب ، ويعبر عنهم مؤرخو الإغريق بملوك الرعاة ، أي البَدو . وقد ملكوا بمصر من عام 1900 إلى عام 1525 قبل ميلاد المسيح عليه السّلام . وكان عصرهم فيما بين مدة العائلة الثالثة عشرة والعائلة الثامنة عشرة من ملوك القبط ، إذ كانت عائلات ملوك القبط قد بقي لها حكم في مصر العليا في مدينة ( طِيبة ) كما تقدم عند قوله تعالى : { وقال الذي اشتراه } [ سورة يوسف : 21 ] . وكان ملكهم في تلك المدة ضعيفاً لأن السيادة كانت لملوك مصر السفلى . ويقدّر المؤرخون أن ملك مصر السفلى في زمن يوسف عليه السّلام كان في مدة العائلة السابعة عشرة .
فالتعبير عنه بالملك في القرآن دون التعبير بفرعون مع أنه عبّر عن ملك مصر في زمن موسى عليه السّلام بلقب فرعون هو من دقائق إعجاز القرآن العلمي . وقد وقع في التوراة إذ عبر فيها عن ملك مصر في زمن يوسف عليه السّلام فرعون وما هو بفرعون لأن أمته ما كانت تتكلم بالقبطية وإنما كانت لغتهم كنعانية قريبَة من الآرامية والعربية ، فيكون زمن يوسف عليه السّلام في آخر أزمان حكم ملوك الرعاة على اختلاف شديد في ذلك .
وقوله : سِمانٍ } جمع سمينة وسَمين ، مثل كرام ، وهو وصف ل { بقرات } .
و { عجاف } جمع عجفاء . والقياس في جمع عجفاء عُجف لكنه صيغ هنا بوزن فِعال لأجل المزاوجة لمقارنه وهو { سمان } . كما قال الشاعر :
والقياس أبواب لكنه حمله على أخبية .
والعجفاء : ذات العَجَف بفتحتين وهو الهزال الشديد .
و { وسبع سنبلات } معطوف على { سبع بقرات } . والسنبلة تقدمت في قوله تعالى : { كمثل حبةٍ أنبتت سبع سنابل } في سورة البقرة ( 261 ) .
والملأ : أعيان الناس . وتقدم عند قوله تعالى : { قال الملأ من قومه } في سورة الأعراف ( 60 ) .
والإفتاء : الإخبار بالفتوى . وتقدمت آنفاً عند قوله : { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } [ سورة يوسف : 41 ] .
وفي } للظرفية المجازية التي هي بمعنى الملابسة ، أي أفتوني إفتاء ملابساً لرؤياي ملابسة البيان للمجمل .
وتقديم { للرؤيا } على عامله وهو { تعبرون } للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بالرؤيا في التعبير . والتعريف في { للرؤيا } تعريف الجنس .
واللام في { للرؤيا } لام التقوية لضعف العامل عن العمل بالتأخير عن معموله . يقال : عَبَر الرؤيا من باب نَصر . قال في « الكشاف » : وعبَرت الرؤيا بالتخفيف هو الذي اعتمده الأثبات . ورأيتهم ينكرون عبّرت بالتشديد والتعبير ، وقد عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب « الكامل » لبعض الأعراب :
رأيت رؤْيَاي ثم عبّرتُها *** وكنتُ للأحلام عَبّارا
والمعنى : فسر ما تدل عليه وأوّل إشاراتها ورموزها .
وكان تعبير الرؤيا مما يشتغلون به . وكان الكهنة منهم يعدونه من علومهم ولهم قواعد في حل رموز ما يراه النائم . وقد وجدت في آثار القبط أوراق من البردي فيها ضوابط وقواعد لتعبير الرُّؤى ، فإن استفتاء صاحبي السجن يوسف عليه السّلام في رؤييهما ينبىء بأن ذلك شائع فيهم ، وسؤال المَلك أهل ملأه تعبير رؤياه ينبىء عن احتواء ذلك الملأ على من يُظنّ بهم علم تعبير الرؤيا ، ولا يخلو ملأ الملك من حضور كهان من شأنهم تعبير الرؤيا .
وفي التوراة « فأرسل ودعا جميع سَحرة مصر وجميع حكمائها وقص عليهم حلمه فلم يكن من يعبره له » . وإنما كان مما يقصد فيه إلى الكهنة لأنه من المغيبات . وقد ورد في أخبار السيرة النبوية أن كسرى أرسل إلى سطيح الكاهن ليعبر له رؤيا أيام ولادة النبي صلى الله عليه وسلم وهي معدودة من الإرهاصات النبوية . وحصل لكسرى فزع فأوفد إليه عبد المسيح .
فالتعريف في قوله { للرؤيا } تعريف العهد ، والمعهود الرؤيا التي كان يقصها عليهم على طريقة إعادة النكرة معرفة باللام أن تكون الثانية عين الأولى . والمعنى : إن كنتم تعبرون هذه الرؤيا .
والأضغاث : جمع ضغث بكسر الضاد المعجمة وهو : ما جمع في حُزمة واحدة من أخلاط النبات وأعواد الشجر ، وإضافته إلى الأحلام على تقدير اللام ، أي أضغاث للأحلام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقال الملك}... للملأ من قومه: {إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع}، أي بقرات، {عجاف}،و رأيت {سبع سنبلات خضر وأخر يابسات}، ثم قال: {يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي}، وهم علماء أهل الأرض، وكان أهل مصر من أمهر الكهنة والعرافين، {إن كنتم للرؤيا تعبرون}، ولم يعلموا تأويل رؤياه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقال ملك مصر "إنّي أرَى "في المنام "سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنّ سَبْعٌ" من البقر "عِجافٌ". وقال: «إني أرى»، ولم يذكر أنه رأى في منامه ولا في غيره، لَتَعارُف العرب بينها في كلامها إذا قال القائل منهم: أرى أني أفعل كذا وكذا أنه خبر عن رؤيته ذلك في منامه وإن لم يذكر النوم. وأخرج الخبر جلّ ثناؤه على ما قد جرى به استعمال العرب ذلك بينهم.
"وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ" يقول: وأرى سبع سنبلات خضر في منامي. "وأُخَرَ" يقول: وسبعا أخر من السنبل يابِساتٍ "يَأيّها المَلأُ" يقول: يا أيّها الأشراف من رجالي وأصحابي "أفْتُونِي فِي رُؤْيايَ" فاعْبرُوها "إنْ كُنْتُمْ للرّؤْيا" عَبرَة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كان ابتداءُ بلاءِ يوسف -عليه السلام- بسبب رؤيا رآها فَنَشَرَها وأظهرها، وكان سببُ نجاتِه أيضاً رؤيا رآها المِلكُ فأظهرها، ليُعْلَم أَنَّ اللَّهَ يفعل ما يريد؛ فكما جعل بَلاءَه في إظهار رؤيا، جعل نجاته في إظهار رؤيا؛ لِيَعْلَم الكافةُ أن الأمر بيد الله يفعل ما يشاء.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لما دنا فرج يوسف، رأى ملك مصر... رؤيا عجيبة هالته: رأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس. وسبع بقرات عجاف، فابتلعت العجاف السمان. ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها، وسبعاً أخر يابسات قد استحصدت وأدركت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، فاستعبرها فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها...
{يا أيها الملا} كأنه أراد الأعيان من العلماء والحكماء...
{تَعْبُرُونَ}...كأنه قيل: إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا. وحقيقة «عبرت الرؤيا» ذكرت عاقبتها وآخر أمرها، كما تقول: عبرت النهر، إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه وهو عبره. ونحوه: أولت الرؤيا إذا ذكرت مآلها وهو مرجعها. وعبرت الرؤيا -بالتخفيف، هو الذي اعتمده الأثبات، ورأيتهم ينكرون «عبرت» بالتشديد...
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
سمي هذا العلم تعبيراً لأن المفسر للرؤيا عابر من ظاهرها إلى باطنها ليستخرج معناها وهذا أخص من التأويل لأن التأويل يقال فيه وفي غيره...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بطل هذا السبب الذي أمر به يوسف عليه الصلاة والسلام، وهو تذكير الشرابي به، أثار الله سبحانه سبباً ينفذ به ما أراد من رئاسته وقضى به من سجود من دلت عليه الكواكب فقال دالاً على ذلك: {وقال الملك} وهو شخص قادر واسع المقدور إليه السياسة والتدبير، لملاه وهم السحرة والكهنة والحزرة والقافة والحكماء، وأكد ليعلم أنه محق في كلامه غير ممتحن: {إني أرى} عبر بالمضارع حكاية للحال لشدة ما هاله من ذلك {سبع بقرات سمان} والسمن: زيادة البدن من اللحم والشحم {يأكلهن سبع} أي بقرات {عجاف} والعجف: يبس الهزال {و} إني أرى {سبع}. ولما كان تأويل المنام الجدب والقحط والشدة، أضاف العدد إلى جمع القلة بخلاف ما كان في سياق المضاعفة في قوله {أنبتت سبع سنابل} [البقرة:261] فقال: {سنبلات خضر و} إني أرى سبع سنبلات {أخر يابسات} التوت على الخضر فغلبت عليها، وكأنه حذف هذا لدلالة العجاف عليه؛ والسنبلة: نبات كالقصبة حملة حبوب منتظمة، وكأنه قيل: فكان ماذا؟ فقيل: قال الملك: {ياأيها الملأ} أي الأشراف النبلاء الذين تملأ العيون مناظرهم والقلوب مخابرهم ومآثرهم {أفتوني} أي أجيبوني وبينوا لي كرماً منكم بقوة وفهم ثاقب. ولما كان مراده أن لا يخرجوا بالجواب عن القصد ولا يبعدوا به، عبر بما يفهم الظرف فقال: {في رؤياي} ومنعهم من الكلام بغير علم بقوله: {إن كنتم للرؤيا} أي جنسها {تعبرون} وعبارة الرؤيا: تأويلها بالعبور من علنها إلى سرها كما تعبر، من عبر النهر -أي شطه- إلى عبره الآخر، ومثله أولت الرؤيا -إذا ذكرت مالها ومرجعها المقصود بضرب المثال...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا عطف جزء من قصة على جزء منها تكملة لوصف خلاص يوسف عليه السّلام من السجن. والتعريف في {الملك} للعهد، أي ملك مصر. وسماه القرآن هنا ملكاً ولم يسمه فرعونَ لأن هذا الملك لم يكن من الفراعنة ملوك مصر القبط، وإنما كان ملكاً لمصر أيامَ حَكَمَها (الهِكسوس)، وهم العمالقة، وهم من الكنعانيين، أو من العرب، ويعبر عنهم مؤرخو الإغريق بملوك الرعاة، أي البَدو...