الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ إِنِّيٓ أَرَىٰ سَبۡعَ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأۡكُلُهُنَّ سَبۡعٌ عِجَافٞ وَسَبۡعَ سُنۢبُلَٰتٍ خُضۡرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٖۖ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَأُ أَفۡتُونِي فِي رُءۡيَٰيَ إِن كُنتُمۡ لِلرُّءۡيَا تَعۡبُرُونَ} (43)

قوله تعالى : { سِمَانٍ } : صفة لبقرات وهو جمع سمينة ، ويُجْمع سمين أيضاً عليه يقال : رجال سِمان كما يقال نِساء كِرام ورجال كِرام . و " السِّمَنُ " مصدرُ سَمِن يَسْمَن فهو سمين فالمصدر واسم [ الفاعل ] جاءا على غير قياس ، إذ قياسُهما " سَمَن " بفتح الميم ، فهو سَمِن بكسرها ، نحو فَرِح فَرَحاً فهو فَرِح .

قال الزمخشري : " هل مِنْ فرقٍ بين إيقاع " سمان " صفة للمميِّز وهو " بقراتٍ " دون المُمَيَّز وهو " سبعَ " ، وأن يقال : سبعَ بقراتٍ سِماناً ؟ قلت : إذا أوقَعْتَها صفةً ل " بقرات " فقد قَصَدْتَ إلى أَنْ تُمَيِّز السبعَ بنوع من البقرات وهو السِّمانُ منهنَّ لا بجنسهنَّ ، ولو وَصَفْتَ بها السبع لَقَصَدْت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوعٍ منها ، ثم رَجَعْتَ فَوَصَفْتَ المميَّز بالجنس بالسِّمَنِ . فإن قلت : هَلاَّ قيل " سبعَ عجافٍ " على الإِضافة . قلت : التمييزُ موضوعٌ لبيان الجنس ، والعِجافُ وصفٌ لا يقع البيانُ به وحدَه . فإن قلت فقد يقولون : ثلاثة فرسان وخمسة أصحاب . قلت : الفارس والصاحب والراكب ونحوها صفاتٌ جَرَتْ مَجْرى الأسماء فأخَذَتْ حُكْمَها ، وجاز فيها ما لم يَجُزْ في غيرها . ألا تراك لا تقول : عندي ثلاثةُ ضخامٍ ولا أربعةُ غلاظٍ . فإن قلت : ذاك مِمَّا يُشْكِلُ وما نحن بسبيلهِ لا إشكال فيه ألا ترى أنه لم يَقُلْ " وبقرات سبعَ عجافٍ " لوقوع العلم بأن المرادَ البقرات . قلت : تَرْكُ الأصلِ لا يجوز مع وقوع الاستغناء عَمَّا ليس بأصلٍ ، وقد وقع الاستغناء عن قولك " سبع عجافٍ " عمَّا تقترحه من التمييز بالوصف " .

قلت : وهي أسئلة وأجوبة حسنة . وتحقيق السؤال الأول وجوابه : أنه يلزم مِنْ وَصْفِ التمييز بشيء وَصْفُ المميَّزِ به ، ولا يلزم من وصف المُمَيَّز وَصْفُ التمييز بذلك الشيءِ ، بيانُه أنك إذا قلت : " عندي أربعةُ رجالٍ حسانٍ " بالجرِّ كان معناه : أربعة من الرجال الحسان ، فيلزم حُسْنُ الأربعة ؛ لأنهم بعض الرجال الحسان ، وإذا قلت : " عندي أربعةُ رجالٍ حسانٌ " برفع " حسان " كان معناه : أربعة من الرجال حِسان ، وليس فيه دلالةٌ على وَصْف الرجال بالحُسْن .

وتحقيقُ الثاني وجوابه : أن أسماءَ العدد لا تُضاف إلى الأوصاف إلا في ضرورة ، وإنما يُجاء بها تابعةً لأسماء العدد فيقال : " عندي ثلاثة قرشيون " ولا يُقال : ثلاثةُ قرشيين بالإِضافة إلا في شعر . ثم اعترض بثلاثة فرسان وأجاب بجريان ذلك مَجْرى الأسماء .

وتحقيق الثالث : أنه إنما امتنع " ثلاثةُ ضِخام " ونحوه لأنه لا يُعْلَمُ موصوفُه ، بخلاف الآية الكريمة فإنَّ الموصوفَ معلومٌ ولذلك لم يُصَرِّحْ به . وأجاب عن ذلك بأن الأصلَ عدمُ إضافةٍ العددِ إلى الصفة كما تقدَّم فلا يُتْرك هذا الأصلُ مع الاستغناءِ بالفرع ، وعلى الجملة ففي هذه العبارة قلق هذا ملخصها ، ولم يذكر الشيخُ نصَّه ولا اعترض عليه ، بل لَخَّصَ بعضَ معانيه وتركه على إشكاله .

وجَمْعُ عَجْفاء على عِجاف . والقياس : عُجُف نحو : حمراء وحُمُر ، حَمْلاً له على " سِمان " لأنه نقيضُه ، ومِنْ دَأْبهم حَمْل النظير على النظير والنقيض على النقيض ، قاله الزمخشري : " والعَجَفُ شِدَّة الهُزالِ الذي ليس بعده قال :

2794 عمرُو الذي هَشَم الثريدَ لقومِه *** ورجالُ مكةَ مُسْنِتون عِجافُ

وقال الراغب : " هو من قولهم نَصْلٌ أعجفُ ، أي : دقيق ، وعَجَفَتْ نفسي عن الطعام ، وعن فلان إذا نَبَتْ عنهما ، وأَعْجف الرجلُ ، أي : صادف ماشِيَتَه عِجافاً " .

قوله : { وَأُخَرَ } " أُخَرَ " نسقٌ على " سبعَ " لا على " سنبلات " ، ويكون قد حَذَف اسمَ العددِ من قوله " وأُخَر يابسات " والتقدير : وسبعاً أُخَرَ ، وإنما حَذَف لأنَّ التقسيمَ في البقرات يقتضي التقسيمَ في السنبلات .

قال الزمخشري : " فإنْ قلت : هل في الآية دليل على أنَّ السنبلاتِ اليابسةَ كانت سبعاً كالخضر ؟ قلت : الكلامُ مبنيٌّ على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان والعِجافِ والنسبلاتِ الخُضْر ، فَوَجَبَ أن يتناول معنى الأُخر السبع ، ويكون قوله " وأُخَرَ يابسات " بمعنى وسبعاً أُخَرَ " انتهى . وإنما لم يَجُزْ عَطْفُ " أُخر " على التمييز وهو " سنبلات " فيكون/ " أُخَر " مجروراً لا منصوباً ؛ لأنه من حيث العطفُ عليه يكونُ مِنْ جملة مُمَيَّز " سبعَ " ، ومِنْ جهةِ كونه آخر يكون مبايناً ل " سبع " فتدافعا ، ولو كان تركيبُ الآية الكريمة : " سبع سنبلاتٍ خضرٍ ويابسات " لصَحَّ العطفُ ، ويكون مِنْ توزيع السنبلات إلى هذين الوصفين أعني الاخضرارَ واليُبْس .

وقد أوضح الزمخشري هذا حيث قال : " فإن قلتَ : هل يجوز أن يُعْطَفَ قولُه " وأُخَرَ يابساتٍ " على " سنبلاتٍ خَضْرٍ " فيكون مجرورَ المحل ؟ قلت : يؤدي إلى تدافُعٍ ، وهو أنَّ عَطْفَها على " سنبلات خضر " يقتضي أن يكونَ داخلاً في حكمها ، فتكون معها مميِّزاً للسبع المذكور ، ولفظُ الأُخَر يقتضي أن تكونَ غيرَ السبع . بيانُه أنك تقول : " عنده سبعة رجالٍ قيامٍ وقعودٍ بالجرِّ ؛ فيصحُّ لأنك مَيَّزْتَ السبعة برجال موصوفين بالقيام والقعود ، على أنَّ بعضَهم قيامٌ وبعضَهم قعودٌ ، فلو قلت : " عنده سبعةٌ رجال قيام وآخرين قعود " تدافعَ ففسد " .

قوله { لِلرُّؤْيَا } : فيه أربعة أوجه ، أحدها : أن اللام فيه مزيدةٌ فلا تَعَلٌّق لها بشيء ، وزِيْدت لتقدُّم المعمولِ مقويةً للعامل ، كما زِيْدَتْ فيه إذا كان العامل فرعاً كقوله : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] ، ولا تُزاد فيما عدا ذينك إلا ضرورةَ كقوله :

2795 فَلَمَّا أَنْ تواقَفْنا قليلاً *** أَنَخْنا للكلاكلِ فارْتَمَيْنا

يريد : أنخنا الكلاكل ، فزيدت مع فقدان الشرطين ، هكذا عبارة بعضهم يقول إلا في ضرورة ، وبعضُهم يقول : الأكثر ألاَّ تُزادَ ، ويتُحَرَّزُ مِنْ قوله تعالى { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] فإن الأصلَ : رَدِفَكم فزيدت فيه اللام ، ولا تَقَدُّم ولا فرعية ، ومَنْ أطلق ذلك جَعَل الآية من باب التضمين ، وسيأتي في مكانِه ، وقد تقدَّم لك من هذا طرفٌ جيدٌ في تضاعيف هذا التصنيف .

الثاني : أن يُضَمَّن " تَعْبُرون " معنى ما يتعدَّى باللام ، تقديره : إن كنتم تَنْتَدِبون لعبارة الرؤيا .

الثالث : أن يكونَ " للرُّؤْيا " هو خبر " كنتم " كما تقول : " كان فلان لهذا الأمر " إذا كان مستقلاًّ به متمكِّناً منه ، وعلى هذا فيكون في " تعبرُون " وجهان ، أحدهما : أنه خبرٌ ثانٍ ل " كنتم " والثاني : أنه حالٌ مِن الضمير المرتفع بالجار لوقوعه خبراً .

الرابع : أنْ تتعلَّقَ اللامُ بمحذوفٍ على أنها للبيانِ كقوله تعالى : { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } [ يوسف : 20 ] تقديرُه : أعني فيه ، وكذلك هذا ، تقديرُه : أعني للرؤيا ، وعلى هذا فيكون مفعول " تعبُرون " محذوفاً تقديرُه : تعْبُرونها .

وقرأ أبو جعفر " الرُّؤْيا " وبابَها " الرُّيَّا " بالإِدغام ، وذلك أنه قَلَبَ الهمزةَ واواً لسكونِها بعد ضمةٍ فاجتمعت ياءٌ وواو ، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون ، فَقُلِبَتْ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ الياءُ في الياء . وهذه القراءةُ عندهم ضعيفةٌ ؛ لأنَّ البدلَ غيرُ لازمٍ فكأنه لم تُوْجَدْ واو نظراً إلى الهمزة .

وعَبَرْتُ الرؤيا بالتخفيف قال الزمخشري : " هو الذي اعتمده الأثباتُ ، ورَأَيْتُهم يُنْكرون " عَبَّرت " بالتشديد والتعبير والمعبِّر " قال : " وقد عَثَرْتُ على بيت أنشده المبرد في كتاب " الكامل " لبعض الأعراب :

2796 رَأَيْتُ رُؤْيا ثم عَبَّرْتُها *** وكنتُ للأحلام عَبَّارا

قال : " وحقيقةُ عبرت الرؤيا : ذكرتَ عاقبَتها وآخر أمرها كما تقول : عَبَرْتُ النهر إذا قطعتَه حتى تبلغَ آخرَ عَرْضه " .