معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلۡبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخۡرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدٗاۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَشۡكُرُونَ} (58)

قوله تعالى : { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } هذا مثل ضربه الله عز وجل للمؤمنين والكافرين ، فمثل المؤمن مثل البلد الطيب ، يصيبه المطر فيخرج نباته بإذن ربه .

قوله تعالى : { والذي خبث } ، يريد الأرض السبخة التي ، { لا يخرج } نباتها .

قوله تعالى : { إلا نكدًا } ، قرأ أبو جعفر بفتح الكاف ، وقرأ الآخرون بكسرها ، أي : عسرًا قليلاً بعناء ومشقة . فالأول : مثل المؤمن الذي إذا سمع وعاه وعقله ، وانتفع به . والثاني مثل الكافر الذي يسمع القرآن فلا يؤثر فيه ، كالبلد الخبيث الذي لا يتبين أثر المطر فيه .

قوله تعالى : { كذلك نصرف الآيات } نبينها .

قوله تعالى : { لقوم يشكرون } .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا حماد بن أسامة ، عن يزيد بن عبد الله ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا ، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس ، فشربوا ، وسقوا ، وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ، ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ، ونفعه ما بعثني الله به ، فعلم وعمل ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلۡبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخۡرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدٗاۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَشۡكُرُونَ} (58)

ثم ذكر تفاوت الأراضي ، التي ينزل عليها المطر ، فقال : { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ } أي : طيب التربة والمادة ، إذا نزل عليه مطر { يَخْرُجُ نَبَاتُهُ } الذي هو مستعد له { بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي : بإرادة اللّه ومشيئته ، فليست الأسباب مستقلة بوجود الأشياء ، حتى يأذن اللّه بذلك .

{ وَالَّذِي خَبُثَ } من الأراضي { لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا } أي : إلا نباتا خاسا لا نفع فيه ولا بركة .

{ كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } أي : ننوعها ونبينها ونضرب فيها الأمثال ونسوقها لقوم يشكرون اللّه بالاعتراف بنعمه ، والإقرار بها ، وصرفها في مرضاة اللّه ، فهم الذين ينتفعون بما فصل اللّه في كتابه من الأحكام والمطالب الإلهية ، لأنهم يرونها من أكبر النعم الواصلة إليهم من ربهم ، فيتلقونها مفتقرين إليها فرحين بها ، فيتدبرونها ويتأملونها ، فيبين لهم من معانيها بحسب استعدادهم ، وهذا مثال للقلوب حين ينزل عليها الوحي الذي هو مادة الحياة ، كما أن الغيث مادة الحيا ، فإن القلوب الطيبة حين يجيئها الوحي ، تقبله وتعلمه وتنبت بحسب طيب أصلها ، وحسن عنصرها .

وأما القلوب الخبيثة التي لا خير فيها ، فإذا جاءها الوحي لم يجد محلا قابلا ، بل يجدها غافلة معرضة ، أو معارضة ، فيكون كالمطر الذي يمر على السباخ والرمال والصخور ، فلا يؤثر فيها شيئا ، وهذا كقوله تعالى : { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا } الآيات .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلۡبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخۡرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدٗاۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَشۡكُرُونَ} (58)

جملة معترضة بين جملة : { كذلك نخرج الموتى } [ الأعراف : 57 ] وبين جملة : { لقد أرسلنا نوحاً } [ الأعراف : 59 ] تتضمّن تفصيلاً لمضمون جملة : { فأخرجنا به من كل الثمرات } [ الأعراف : 57 ] إذ قد بيّن فيها اختلاف حال البلد الذي يصيبه ماء السّحاب ، دعا إلى هذا التّفصيل أنّه لما مُثِّل إخراج ثمرات الأرض بإخراج المَوتى منها يوم البعث تذكيراً بذلك للمؤمنين ، وإبطالاً لإحالة البعث عند المشركين ، مُثل هنا باختلاف حال إخراج النّبات من الأرض اختلافُ حال النّاس الأحياءِ في الانتفاع برحمة هُدى الله ، فموقع قوله : { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } كموقع قوله : { كذلك نخرج الموتى } [ الأعراف : 57 ] ولذلك ذُيل هذا بقوله : { كذلك نصرف الأيات لقوم يشكرون } كما ذيل ما قبله بقوله : { كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون } [ الأعراف : 57 ] .

والمعنى : كذلك نخرج الموتى وكذلك ينتفع برحمة الهَدْي من خُلقت فطرته طيّبة قابلة للهُدى كالبلد الطّيّب ينتفع بالمطر ، ويحرم من الانتفاع بالهدى من خلقت فطرته خبيثة كالأرض الخبيثة لا تنتفع بالمطر فلا تنبت نباتاً نافعاً ، فالمقصود من هذه الآية التّمثيل ، وليسَ المقصود مجرّد تفصيل أحوال الأرض بعد نزول المطر ، لأنّ الغرض المسوق له الكلام يجمع أمرين : العبرةَ بصنع الله ، والموعظَة بما يماثل أحواله . فالمعنى : كما أنّ البلد الطّيّب يَخرج نباته سريعاً بَهِجاً عند نزول المطر ، والبلد الخبيثَ لا يكاد ينبت فإن أنبت أخرج نبْتاً خبيثاً لا خير فيه .

والطيب وصف على وزن فَيْعِل وهي صيغة تدلّ على قوّة الوصف في الموصوف مثل : قيّم ، وهو المتّصف بالطِّيبِ ، وقد تقدّم تفسير الطيب عند قوله تعالى : { قل أحلّ لكم الطّيّباتُ } في سورة المائدة ( 4 ) ، وعند قوله : { يأيّها النّاس كلوا ممّا في الأرض حلالاً طيِّباً } في سورة البقرة ( 168 ) .

والبلد الطّيب الأرضُ الموصوفة بالطِّيببِ ، وطيبها زكاء تربتها وملاءمتها لإخراج النّبات الصّالح وللزّرع والغرس النّافع وهي الأرض النّقيّه .

والذي خبث ضدّ الطَّيب .

وقوله : { بإذن ربه } في موضع الحال من { نباته } والإذن : الأمر ، والمراد به أمر العناية به كقوله : { لِمَا خلقتُ بيَدَيّ } [ ص : 75 ] ليدلّ على تشريف ذلك النّبات ، فهو في معنى الوصف بالزّكاء ، والمعنى : البلد الطَّيب يخرج نباته طيّباً زكياً مثلَه ، وقد أشار إلى طيب نباته بأنّ خروجه بإذن ربّه ، فأريد بهذا الإذن إذنٌ خاص هو إذن عناية وتكريم ، وليس المراد إذن التّقدير والتّكوين فإنّ ذلك إذن معروف لا يتعلّق الغرض ببَيانه في مثل هذا المقام .

{ والذي خبث } حملهُ جميع المفسّرين على أنّه وصف للبلد ، أي البلد الذي خبث وهو مقابل البلد الطّيب ، وفسّروه بالأرض التي لا تنبت إلاّ نباتاً لا ينفع ، ولا يسرع إنباتها ، مثل السّباخ ، وحملوا ضمير يَخْرج على أنّه عائد للنّبات ، وجعلوا تقدير الكلام : والذي خبث لا ( يخرج ) نباتُه إلاّ نَكِداً ، فحُذف المضاف في التّقدير ، وهو نبات ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهو ضمير البلد الذي خبث ، المستترُ في فعل يخرج .

والذي يظهر لي : أن يكون { الذي } صادقاً على نبات الأرض ، والمعنى : والنّبت الذي خبث لا يخرج إلاّ نَكِداً ، ويكون في الكلام احتباك إذ لم يذكر وصف الطّيب بعد نبات البلد الطّيب ، ولم تذكر الأرض الخبيثة قبل ذكر النّبات الخبيث ، لدلالة كِلا الضدّين على الآخر . والتّقدير : والبلد الطّيب يخرج نباته طيّباً بإذْن ربّه ، والنّبات الذي خبث يخرج نكداً من البلد الخبيث ، وهذا صنع دقيق لا يهمل في الكلام البليغ .

وقرأ الجميع { لا يَخْرُج } بفتح التّحتيّة وضمّ الراء إلاّ ابنَ وردان عن أبي جعفر قرأ بضمّ التّحتيّة وكسر الرّاء على خلاف المشهور عنه ، وقيل إنّ نسبة هذا لابن وردان توهم .

والنّكد وصف من النكَد بفتح الكاف وهو مصدر نَكِدَ الشّيءُ إذا كان غير صالح يَجُرّ على مستعمله شراً . وقرأ أبو جعفر { إلا نكداً } ، بفتح الكاف .

وفي تفصيل معنى الآية جاء الحديث الصّحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال : " مثَلُ ما بَعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نَقِيَّةٌ قبِلَتْ الماءَ فأنبتت الكلأ والعُشْب الكثيرَ ، وكانت منها أجَادِبُ أمسكت الماء فنفع بها الله النّاسَ فشربوا وسَقَوا وزرعوا ، وأصاب طائفة أخرى إنّما هي قِيعَانٌ لا تُمْسك ماء ولا تنبتُ كَلأ فذلك مثَل مَن فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني اللَّهُ به فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، ومَثَل من لم يَرْفَعْ لِذلك رأساً ولم يَقْبَل هُدَى اللَّهِ الذي أُرْسِلْتُ به " . والإشارة بقوله : { كذلك نصرف الأيات } إلى تفنّن الاستدلال بالدّلائل الدّالة على عظيم القدرة المقتضية الوحدانيّة ، والدّالة أيضاً على وقوع البعث بعد الموت ، والدّالة على اختلاف قابليّة النّاس للهدى والانتفاع به بالاستدلال الواضحِ البيّن المقِرّب في جميع ذلك ، فذلك تصريف أي تنويع وتفنين للآيات أي الدّلائل .

والمراد بالقوم الذين يشكرون : المؤمنون : تنبيهاً على أنّهم مورد التّمثيل بالبلد الطّيب ، وأنّ غيرهم مورد التّمثيل بالبلد الخبيث ، وهذا كقوله تعالى : { وتلك الأمثال نضربها للنّاس وما يعقلها إلاّ العالِمُون } [ العنكبوت : 43 ] .