الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَٱلۡبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخۡرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدٗاۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَشۡكُرُونَ} (58)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم ضرب مثلا للمؤمنين والكفار، فقال: {والبلد الطيب}، يعني الأرض العذبة إذا مطرت، {يخرج نباته بإذن ربه}، فينتفع به كما ينفع المطر البلد الطيب فينبت. ثم ذكر الكافر، فقال: {والذي خَبُث} من البلد، يعني من الأرض السبخة أصابها المطر، فلم ينبت، {لا يخرج إلا نكدا}، يعني إلا عسرا رقيقا يبس مكانه، فلم ينتفع به، فهكذا الكافر يسمع الإيمان ولا ينطق به ولا ينفعه، كما لا ينفع هذا النبات الذي يخرج رقيقا فييبس مكانه، {كذلك} يعني هكذا {نصرف الآيات} في أمور شتى لما ذكره في هاتين الآيتين، {لقوم يشكرون}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: والبلد الطيبة تربته العذبة مشاربه، يخرج نباته إذا أنزل الله الغيث وأرسل عليه الحيا بإذنه طيبا ثمره في حينه ووقته. "وَالّذِي خَبُثَ "فردؤت تربته وملحت مشاربه، "لا يَخْرُجُ" نباته إلاّ نَكِدا يقول: إلاّ عسرا في شدّة.

وقوله: "كذلكَ نُصَرّفُ الآيات لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ" يقول: كذلك نبين آية بعد آية، وندلي بحجة بعد حجة، ونضرب مثلاً بعد مثل، لقوم يشكرون الله على إنعامه عليهم بالهداية وتبصيره إياهم سبيل أهل الضلالة، باتباعهم ما أمرهم باتباعه وتجنبهم ما أمرهم بتجنبه من سبل الضلالة. وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فالبلد الطيب الذي يخرج نباته بإذن ربه مثل للمؤمن، والذي خبث فلا يخرج نباته إلا نَكدا مثل للكافر.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

يحتمل ضرب المثل وجوها: أحدها: أنه وصف الأرض التي يخرج منها النبات بالطيب، والأرض التي لا يخرج منها النبات بالخبث. فعلى ذلك المؤمن لما كان منه من الأعمال الطاعة لربه والائتمار لأمره، موصوف هو بالطيب، وجعله من جوهر الطيب، والكافر لما يكون منه من الأعمال الخبيثة، ولا يكون له من الأعمال الصالحة الطاعة لربه خبيث، كما أن الأرض التي يخرج منها النبات الذي ينتفع به موصوفة بطيب الأصل والجوهر، والتي لا يخرج منها النبات، ولا ينتفع به، موصوفة بخبث الأصل. وأمكن من وجه آخر؛ وهو أن الله عز وجل جعل هذا القرآن مباركا شفاء للخلق على ما وصفه الله تعالى في غير موضع من الكتاب، ووصف الماء الذي ينزل من السماء بالبركة والرحمة. فإذا أنزل ذلك الماء المبارك في الأرض الطّيبة الجوهر خرج منها النبات والأنزال ينتفع بها. وإذا نزل في الأرض السّبخة الخبيثة لم يخرج [النبات] لخبث أصلها. فعلى ذلك هذا القرآن هو مبارك شفاء؛ يسمعه المؤمن، فيتّبعه به، ويعمل به، والكافر يسمعه، ولا يتّبعه، ولا يعمل به. فصار مثل المؤمن الذي يسمع هذا القرآن، ويتّبعه، ويعمل بما فيه كمثل الماء الذي يدخل في الأرض، فيخرج منه النبات لطيب جوهرها وأصلها. والكافر مثل الأرض التي لا يخرج منها النبات لخبث أصلها وجوهرها...

وأصله أنه ضرب مثل الذي هو مستحسن بالعقل بالذي هو مستحسن بالطبع؛ لأن ما حسن في الطبع فإنما معرفته حسنى، وما حسن في العقل فإنما يعرف حسنه بالدلائل، وهو غائب. فضرب مثل معرفة حسنه بالعقل بالحسن والمشاهدة، وهو ما ذكر من النبات الذي يخرج من الأرض، وذلك يدل على طيب أصلها وجوهرها. [والذي لا يخرج] لخبث جوهرها وأصلها. فعلى ذلك المؤمن والكافر... وقوله تعالى: {بإذن ربه} يحتمل بعلمه وتكوينه. وقوله تعالى: {إلا نكدا} قال الحسن: خبيثا؛ أي لا يخرج إلا خبيثا، وقال أبو بكر {نكدا} أي لا منفعة فيه، وقيل: إلا قليلا، وهو واحد. وقوله تعالى: {كذلك نصرّف الآيات لقوم يشكرون} أي لقوم ينتفعون بالآيات...

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

قوله تعالى: {لقوم يشكرون}. أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا حماد بن أسامة، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا، وسقوا، وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعمل، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

وهذا مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين، ولمن لا يؤثر شيء من ذلك.

{نُصَرّفُ الآيات} نردِّدها ونكرّرها.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

في هذه الآية قولان:

القول الأول: وهو المشهور أن هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر بالأرض الخيرة والأرض السبخة، وشبه نزول القرآن بنزول المطر، فشبه المؤمن بالأرض الخيرة التي نزل عليها المطر فيحصل فيها أنواع الأزهار والثمار، وأما الأرض السبخة فهي وإن نزل المطر عليها لم يحصل فيها من النبات إلا النزر القليل، فكذلك الروح الطاهرة النقية عن شوائب الجهل والأخلاق الذميمة إذا اتصل به نور القرآن ظهرت فيه أنواع من الطاعات والمعارف والأخلاق الحميدة، والروح الخبيثة الكدرة وإن اتصل به نور القرآن لم يظهر فيه من المعارف والأخلاق الحميدة إلا القليل.

والقول الثاني: أنه ليس المراد من الآية تمثيل المؤمن والكافر، وإنما المراد أن الأرض السبخة يقل نفعها وثمرتها، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعا منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة. فمن طلب هذا النفع اليسير بالمشقة العظيمة، فلأن يطلب النفع العظيم الموعود به في الدار الآخرة بالمشقة التي لا بد من تحملها في أداء الطاعات، كان ذلك أولى.

قال الليث: النكد: الشؤم واللؤم وقلة العطاء.

التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :

فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله، وتدبره بان أثره عليه، فشبه بالبلد الطيب الذي يمرع ويخصب، ويحسن أثر المطر عليه، فينبت من كل زوج كريم، والمعرض عن الوحي عكسه، والله الموفق.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كانت الموت موتين: حسياً ومعنوياً -كما أشير إليه في الأنعام في آية {إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله} {أو من كان ميتاً فأحييناه} كان كأنه قيل: لا فرق في ذلك عندنا بين أموات الإيمان وأموات الأبدان، فكما أنا فاوتنا بين جواهر الأراضي بخلق بعضها جيداً وبعضها رديئاً كذلك فاوتنا بين عناصر الأناسي بجعل بعضها طيباً وبعضها خبيثاً، فالجيد العنصر يسهل إيمانه، والخبيث الأصل يعسر إذعانه وتبعد استقامته وإيقانه {والبلد الطيب} أي الذي طابت أرضه فكانت كريمة منبتة {يخرج نباته} أي إذا نزل عليه الماء خروجاً كثيراً حسناً سهلاً غزيراً {بإذن} أي بتمكين {ربه} أي المربي له بما هيأه له، والذي طاب في الجملة ولم يصل إلى الغاية يخرج له نبات دون ذلك، والخبيث لا يخرج له نبات أصلاً بمنع ربه له {والذي خبث} أي حصلت له خباثة في جبلته بكون أرضه سبخة أو نحوها مما لم يهيئه الله تعالى للإنبات {لا يخرج} أي نباته {إلا} أي حال كونه {نكداً} أي قليلاً ضعيف المنفعة، وهو- مع كونه دالاً على أن ذلك ما كان على ما وصف مع استواء الأراضي في الأصل واستواء المياه ونسبتها إلى الأفلاك والنجوم إلا بالفاعل المختار -مثل ضربه سبحانه للمؤمن والكافر عند سماعهما للذكر من الكتاب والسنة، والآية من الاحتباك. ولما استوت هذه الآيات على الذروة من بدائع الدلالات، كان السامع جديراً بأن يقول: هل تبين جميع هذه الآيات هذا البيان؟ فقيل: {كذلك} أي نعم، مثل هذا التصريف، وهو الترديد مع اختلاف الأنحاء لاختلاف الدلالات وإبرازها في قوالب الألفاظ الفائقة والمعاني الرائقة في النظوم المعجزة على وجوه لا تكاد تدخل تحت الحصر: {نصرف الآيات} أي كلها؛ ولما تم ذلك على هذا المنهاج الغريب والمنوال العجيب المذكر بالنعم في أسلوب دال على التفرد وتمام القدرة، كان أنسب الأشياء ختمه بقوله مخصصاً بها المنتفع لأنها بالنسبة إلى غيرهم كأنها لم توجد: {لقوم يشكرون*} أي يوجد منهم الشكر للنعم وجوداً مستمراً فلا يشركون بل ينتفعون بما أنعم عليهم به وحده في عبادته وحده، وينظرون بعقولهم أنه أقدرهم بنعمه على ما هم عاجزون عنه، فلا يسلبون عنه شيئاً من قدرته على بعث ولا غيره فإنهم يزعمون أنهم أهل معالي الأخلاق التي منها أنه ما جزاء الإحسان إلاّ الإحسان.

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

التعبير أولاً بالطيب وثانياً بالذي خبث دون الخبيث للإيذان بأن أصل الأرض أن تكون طيبة منبتة وخلافه طارئ عارض.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

ضرب الله إحياء البلاد بالمطر، مثلا لبعث البشر، ثم ضرب اختلاف إنتاج البلاد، مثلا لما في البشر في اختلاف الاستعداد، للغي والرشاد فقال:

{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا}

قال ابن عباس هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، أي والبر والفاجر، ومعناه أن الأرض منها الطيبة الكريمة التربة التي يخرج نباتها بسهولة، وينمي بسرعة ويكون كثير الغلة طيب الثمرة ومنها الخبيثة التربة كالحرة والسبخة التي لا يخرج نباتها على قلته وخبثه إن أنبتت إلا بعسر وصعوبة. قال الراغب: النكد كل شيء خرج إلى طالبه بتعسر، يقال رجل نكد ونكد (أي بفتح الكاف وكسرها) وناقة نكداء: طفيفة الدر صعبة الحلب وذكر الآية. وقوله والذي خبث حذف موصوفه أي والبلد الذي خبث وهو دون الخبيث في الخبث. فإن صيغة فعيل من الصيغ التي تدل على الصفات الكاملة الثابتة. والنكد قد يكون فيما دون هذا من الخبث. ومن دقة البلاغة في هذين التعبيرين دلالتهما على الترغيب في طلب الرسوخ في صفات الكمال، وتجنب أدنى الخبث والنقص، وبين ذلك درجات...

ومن اختبر الناس رأى أن المعروف يخرج من الطيبين عفوا بلا تكلف، وأن الخبيثين لا يخرج منهم الخير والمعروف ولا الحق الواجب عليهم إلا نكدا، بعد إلحاق أو إيذاء في الطلب أو إدلاء إلى الحكام ومراوغة في الخصام.

{كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُون} أي كذلك شأننا في هذا التصريف البديع المثال الموضح بالأمثال نصرف الآيات الدالة على علمنا وحكمتنا ورحمتنا بالإتيان بها على أنواع جلية تبين مرادنا لقوم يشكرون نعمنا، باستعمالها فيما تتم به حكمتنا، فيستحقون مزيدنا منها، وتثويبنا عليها.

عبر بالشكر في الآية التي موضوعها الاهتداء بالعلم والعمل والإرشاد، وبالتذكر في الآية التي موضوعها الاعتبار والاستدلال.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ويختم السياق هذه الرحلة في أقطار الكون وأسرار الوجود، بمثل يضربه للطيب وللخبيث من القلوب. ينتزعه من جو المشهد المعروض، مراعاة للتناسق في المرائي والمشاهد، وفي الطبائع والحقائق: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً. كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون). والقلب الطيب يشبه في القرآن الكريم وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض الطيبة، وبالتربة الطيبة. والقلب الخبيث يشبه بالأرض الخبيثة وبالتربة الخبيثة. فكلاهما.. القلب والتربة.. منبت زرع، ومأتى ثمر. القلب ينبت نوايا ومشاعر، وانفعالات واستجابات، واتجاهات وعزائم، وأعمالاً بعد ذلك وآثاراً في واقع الحياة. والأرض تنبت زرعاً وثمراً مختلفاً أكله وألوانه ومذاقاته وأنواعه...

. والهدى والآيات والموعظة والنصيحة تنزل على القلب كما ينزل الماء على التربة. فإن كان القلب طيباً كالبلد الطيب، تفتح واستقبل، وزكا وفاض بالخير. وإن كان فاسداً شريراً -كالذي خبث من البلاد والأماكن- استغلق وقسا، وفاض بالشر والنكر والفساد والضر. وأخرج الشوك والأذى، كما تخرج الأرض النكدة!... (كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون). والشكر ينبع من القلب الطيب، ويدل على الاستقبال الطيب، والانفعال الطيب. ولهؤلاء الشاكرين الذين يحسنون التلقي والاستجابة تصرف الآيات. فهم الذين ينتفعون بها، ويصلحون لها، ويصلحون بها.. والشكر هو لازمة هذه السورة التي يتكرر ذكرها فيها.. كالإنذار والتذكير. وقد صادفنا هذا التعبير فيما مضى من السياق، وسنصادفه فيما هو آت.. فهو من ملامح السورة المميزة في التعبير، كالإنذار والتذكير...

.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والمعنى: كذلك نخرج الموتى وكذلك ينتفع برحمة الهدى من خُلقت فطرته طيّبة قابلة للهُدى كالبلد الطّيّب ينتفع بالمطر، ويحرم من الانتفاع بالهدى من خلقت فطرته خبيثة كالأرض الخبيثة لا تنتفع بالمطر فلا تنبت نباتاً نافعاً، فالمقصود من هذه الآية التّمثيل، وليسَ المقصود مجرّد تفصيل أحوال الأرض بعد نزول المطر، لأنّ الغرض المسوق له الكلام يجمع أمرين: العبرةَ بصنع الله، والموعظَة بما يماثل أحواله.