{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } : يخبر تعالى عن عظمة القرآن ، وجلالة من تكلم به ونزل منه ، وأنه نزل من اللّه العزيز الحكيم ، أي : الذي وصفه الألوهية للخلق ، وذلك لعظمته وكماله ، والعزة التي قهر بها كل مخلوق ، وذل له كل شيء ، والحكمة في خلقه وأمره .
فالقرآن نازل ممن هذا وصفه ، والكلام وصف للمتكلم ، والوصف يتبع الموصوف ، فكما أن اللّه تعالى هو الكامل من كل وجه ، الذي لا مثيل له ، فكذلك كلامه كامل من كل وجه لا مثيل له ، فهذا وحده كاف في وصف القرآن ، دال على مرتبته .
ولكنه - مع هذا - زاد بيانا لكماله بمن نزل عليه ، وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، الذي هو أشرف الخلق فعلم أنه أشرف الكتب ، وبما نزل به ، وهو الحق ، فنزل بالحق الذي لا مرية فيه ، لإخراج الخلق من الظلمات إلى النور ، ونزل مشتملا على الحق في أخباره الصادقة ، وأحكامه العادلة ، فكل ما دل عليه فهو أعظم أنواع الحق ، من جميع المطالب العلمية ، وما بعد الحق إلا الضلال .
سميت { سورة الزمر } من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد روى الترمذي عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل . وإنما سميت سورة الزمر لوقوع هذا اللفظ فيها دون غيرها من سورة القرآن .
وفي تفسير القرطبي عن وهب بن منبه أنه سماها سورة الغرف وتناقله المفسرون . ووجهه أنها ذكر فيها لفظ الغرف ، أي بهذه الصيغة دون الغرفات ، في قوله تعالى { لهم غرف من فوقها غرف } الآية .
وهي مكية كلها عند الجمهور وعن ابن عباس أن قوله تعالى { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } الآيات الثلاث . وقيل : إلى سبع آيات نزلت بالمدينة في قصة ، وحشي قاتل حمزة ، وسنده ضعيف ، وقصته عليها مخائل القصص .
وعن عمر بن الخطاب أن تلك الآيات نزلت بالمدينة في هشام بن العاصي بن وائل إذ تأخر عن الهجرة إلى المدينة بعد أن استعد لها . وفي رواية : أن معه عياش ابن أبي ربيعة وكانا تواعدا على الهجرة إلى المدينة ففتنا فافتتنا .
والأصح أنها نزلت في المشركين كما سيأتي عند تفسيرها ، وما نشأ القول بأنها مدنية إلا لما روي فيها من القصص الضعيفة .
وقيل : نزل أيضا في قوله تعالى { قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم } الآية بالمدينة .
وعن ابن عباس أن قوله تعالى { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها } الآية نزل بالمدينة .
فبلغت الآيات المختلف فيها تسع آيات .
والمتجه : أنها كلها مكية وأن ما يخيل أنه نزل في قصص معينة إن صحت أسانيده أن يكون وقع التمثل به في تلك القصص فأشتبه على بعض الرواة بأنه سبب نزول .
وسيأتي عند قوله تعالى { وأرض الله واسعة } أنها نزلت قبيل هجرة المؤمنين إلى الحبشة ، أي في سنة خمس قبل الهجرة .
وهي السورة التاسعة والخمسون في ترتيب النزول على المختار ، نزلت بعد سورة سبا وقبل سورة غافر .
وعدت آيتها عند المدنيين والمكيين والبصريين اثنتين وسبعين ، وعند أهل الشام ثلاثا وسبعين ، وعند أهل الكوفة خمسا وسبعين .
ابتدئت هذه السورة بما هو كالمقدمة للمقصود ، وذلك بالتنويه بشأن القرآن تنويها تكرر في ستة مواضع{[1]} من هذه السورة لأن القرآن جامع لأغراضها .
وأغراضها كثيرة تحوم حول إثبات تفرد الله بالإلهية وإبطال الشرك فيها .
وإبطال تعللات المشركين لإشراكهم وأكاذيبهم .
ونفي ضرب من ضروب الإشراك إلى زعمهم أن لله ولدا .
والاستدلال على وحدانية الله في الإلهية بدلائل تفرده بإيجاد العوالم العلوية والسفلية ، وبتدبير نظامها وما تحتوي عليه مما لا ينكر المشركون انفراده به .
والخلق العجيب في أطوار تكوين الإنسان والحيوان .
والاستدلال عليهم بدليل من فعلهم وهو التجاؤهم إلى الله عندما يصيبهم الضر .
والدعوة إلى التدبر فيما يلقى إليهم من القرآن الذي هو أحسن القول .
وتنبيههم على كفرانهم شكر النعمة .
والمقابلة بين حالهم وبين حال المؤمنين المخلصين لله .
وأن دين التوحيد هو الذي جاءت به الرسل من قبل .
والتحذير من أن يحل بالمشركين ما حل بأهل الشرك من الأمم الماضية .
وإعلام المشركين بأنهم وشركاءهم لا يعبأ بهم عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم فالله غني عن عبادتهم ، ورسوله لا يخشاهم ولا يخاف أصنامهم لأن الله كفاه إياهم جميعا .
وإثبات البعث والجزاء لتجزى كل نفس بما كسبت .
وتمثيل البعث بإحياء الأرض بعد موتها . وضرب لهم مثله والإفاقة بعده وأنه يوم الفصل بين المؤمنين والمشركين .
وتمثيل حال المؤمنين وحال المشركين في الحياتين الحياة الدنيا والحياة الآخرة .
ودعاء المشركين للإقلاع عن الإسراف على أنفسهم ، ودعاء المؤمنين للثبات على التقوى ومفارقة دار الكفر . وختمت بوصف حال يوم الحساب .
وتخلل ذلك كله وعيد ووعد ، وأمثال ، وترهيب وتريب ، ووعظ وإيماء بقوله { قل هل يستوي الذين يعلمون } الآية إلى أن شأن المؤمنين أنهم أهل علم وأن المشركين أهل جهالة ، وذلك تنويه برفعة العلم ومذمة الجهل .
فاتحة أنيقة في التنويه بالقرآن جعلت مقدمة لهذه السورة لأن القرآن جامع لما حوته وغيره من أصول الدين .
ف { تَنزِيلُ } مصدر مراد به معناه المصدريّ لا معنى المفعول ، كيف وقد أضيف إلى الكتاب وأصل الإِضافة أن لا تكون بيانية .
وتنزيل : مصدر نزّل المضاعف وهو مشعر بأنه أنزله منجّماً . واختيار هذه الصيغة هنا للرد على الطاعنين لأنهم من جملة ما تعلّلوا به قولهم : { لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } [ الفرقان : 32 ] . وقد تقدم الفرق بين المضاعف والمهموز في مثله في المقدمة الأولى .
والتعريف في { الكتاب } للعهد ، وهو القرآن المعهود بينهم عند كل تذكير وكل مجادلة . وأجرى على اسم الجلالة الوصف ب { العزيز الحكيمِ } للإِيماء إلى أن ما ينزل منه يأتي على ما يناسب الصفتين ، فيكون عزيزاً قال تعالى : { وإنه لكتاب عزيز } [ فصلت : 41 ] ، أي القرآن ، عزيز غالب بالحجة لمن كذّب به ، وغالب بالفضل لما سواه من الكتب من حيث إن الغلبة تستلزم التفضل والتفوق ، وغالب لبلغاء العرب إذ أعجزهم عن معارضة سورة منه ، ويكون حكيماً مثل صفة منزِّله .
والحكيم : إمّا بمعنى الحاكم ، فالقرآن أيضاً حاكم عن معارضيه بالحجة ، وحاكم على غيره من الكتب السماوية بما فيه من التفصيل والبيان قال تعالى : { مصدقاً لمن بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } [ المائدة : 48 ] .
وإمّا بمعنى : المحكِم المتقِن ، فالقرآن مشتمل على البيان الذي لا يحتمل الخطأ ، وإما بمعنى الموصوف بالحكمة ، فالقرآن مشتمل على الحكمة كاتصاف منزّله بها . وهذه معان مرادة من الآية فيما نرى ، على أن في هذين الوصفين إيماء إلى أن القرآن معجز ببلاغة لفظه وبإعجازه العلمي ، إذا اشتمل على علوم لم يكن للناس علم بها كما بيّناه في المقدمة العاشرة .
وفي وصف { الحَكِيمِ } إيماء إلى أنه أنزله بالحكمة وهي الشريعة { يؤتي الحكمة من يشاء } [ البقرة : 269 ] . وفي هذا إرشاد إلى وجود التدبر في معاني هذا الكتاب ليتوصل بذلك التدبر إلى العلم بأنه حق من عند الله ، قال تعالى : { سنريهم آياتِنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } [ فصلت : 53 ] .
ومعنى { العَزيزِ الحكيمِ } في صفات الله تقدم في تفسير قوله تعالى : { فإن زللتم من بعد ما جاءئكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم } في سورة [ البقرة : 209 ] .