قوله عز وجل { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } روى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن ناسا من أهل الشرك ، كانوا قتلوا ، وأكثروا ، وزنوا ، وأكثروا ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن الذي تدعونا إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة ، فنزلت هذه الآية . وقال عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام ، فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك ، وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلق آثاماً ، يضاعف له العذاب ، وأنا قد فعلت ذلك كله ؟ فأنزل { إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً } ( مريم-60 ) فقال وحشي : هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه ، فهل غيره ؟ فأنزل الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ( النساء-48 ) فقال وحشي : أراني بعد في شبهة فلا أدري يغفر لي أم لا ؟ فأنزل الله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } فقال وحشي : نعم ، هذا فجاء وأسلم ، فقال المسلمون : هذا له خاصة أم للمسلمين عامة ؟ فقال : بل للمسلمين عامة . وروي عن ابن عمر قال : نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ، ونفر من المسلمين ، كانوا قد أسلموا ، ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول : لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً . قوم أسلموا ، ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، فكتبها عمر بن الخطاب بيده ، ثم بعث بها إلى عياش بن ربيعة ، والوليد بن الوليد ، وإلى أولئك النفر ، فأسلموا وهاجروا . وروى مقاتل بن حيان ، عن نافع عن ابن عمر ، قال : كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أو نقول ليس بشيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } ( محمد-33 ) فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا : الكبائر والفواحش ، قال : فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها ، قلنا : قد هلك ، فنزلت هذه الآية ، فكففنا عن القول في ذلك ، فكنا إذا رأينا أحداً أصاب منها شيئاً خفنا عليه ، وإن لم يصب منها شيئاً رجونا وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر . وروي عن ابن مسعود : أنه دخل المسجد فإذا قاص يقص ، وهو يذكر النار ، والأغلال ، فقام على رأسه فقال : يا مذكر لم تقنط الناس ؟ ثم قرأ :{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } .
أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي ، أنبأنا أبو محمد عبد بن أحمد الحموي ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن خزيم الشاشي ، حدثنا عبد الله بن حميد ، حدثنا حيان بن هلال ، وسليمان بن حرب ، وحجاج بن منهال ، قالوا : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً } ولا يبالي " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا ابن عدي ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن أبي الصديق الناجي ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً ، ثم خرج يسأل فأتى راهباً فسأله ، هل لي من توبة ؟ فقال : لا ، فقتله فكمل به المائة ، فقال له رجل : ائت قرية كذا وكذا ، فأدركه الموت ، فنأى بصدره نحوها ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة ، وملائكة العذاب ، فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي ، وأوحى إلى هذه أن تباعدي ، وقال : قيسوا ما بينهما ، فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له " . ورواه مسلم بن الحجاج ، عن محمد بن المثنى العنبري ، عن معاذ بن هشام ، عن أبيه ، عن قتادة بهذا الإسناد ، وقال : " فدل على راهب فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفساً ، فهل له من توبة ؟ فقال : لا ، فقتله ، وكمل به مائة ، ثم سئل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على رجل عالم ، فقال : إنه قتل مائة نفس ، فهل له من توبة ؟ فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا ، فإن به أناساً يعبدون الله ، فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأتاهم ملك في صورة آدمي ، فجعلوه بينهم حكما ، فقال : قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال رجل - لم يعمل خيراً قط - لأهله إذا مات فحرقوه ، ثم اذروا نصفه في البر ، ونصفه في البحر ، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين . قال : فلما مات فعلوا ما أمرهم ، فأمر الله البحر فجمع ما فيه ، وأمر البر فجمع ما فيه ، ثم قال له : لم فعلت هذا ؟ قال : من خشيتك يا رب ، وأنت أعلم ، فغفر له " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا أبو الحسين محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن عكرمة ، بن عمار ، حدثنا ضمضم بن حوشب ، قال : دخلت المدينة فناداني شيخ ، فقال : يا يماني تعال وما أعرفه ، فقال : لا تقولن لرجل والله لا يغفر الله لك أبداً ولا يدخلك الله الجنة ، قلت : ومن أنت يرحمك الله ؟ قال : أبو هريرة قال : فقلت : إن هذه الكلمة يقولها أحدنا لبعض أهله ، إذا غضب ، أو لزوجته ، أو لخادمه ، قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين أحدهما مجتهد في العبادة ، والآخر كان مذنبا ، فجعل يقول له : أقصر عما أنت فيه ، قال : فيقول : خلني وربي ، قال : حتى وجده يوماً على ذنب استعظمه ، فقال : أقصر فقال : خلني وربي ، أبعثت علي رقيباً ؟ فقال : والله لا يغفر الله لك أبداً ، ولا يدخلك الجنة أبداً ، قال : فبعث الله إليهما ملكاً يقبض أرواحهما فاجتمعا عنده ، فقال للمذنب : ادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي ؟ فقال : لا يا رب ، فقال اذهبوا به إلى النار " . قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده لقد تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته . قوله عز وجل : { إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم } أخبرنا عبد الرحمن بن أبي بكر القفال ، أنبأنا أبو مسعود محمد بن أحمد بن يونس الخطيب ، حدثنا محمد بن يعقوب الأصم ، حدثنا أبو قلابة ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا زكريا بن إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { إلا اللمم } ( النجم-32 ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن تغفر اللهم تغفر جما* وأي عبد لك لا ألما " .
{ 53 - 59 } { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ }
يخبر تعالى عباده المسرفين بسعة كرمه ، ويحثهم على الإنابة قبل أن لا يمكنهم ذلك فقال : { قُلْ } يا أيها الرسول ومن قام مقامه من الدعاة لدين اللّه ، مخبرا للعباد عن ربهم : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } باتباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب ، والسعي في مساخط علام الغيوب .
{ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } أي : لا تيأسوا منها ، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، وتقولوا قد كثرت ذنوبنا وتراكمت عيوبنا ، فليس لها طريق يزيلها ولا سبيل يصرفها ، فتبقون بسبب ذلك مصرين على العصيان ، متزودين ما يغضب عليكم الرحمن ، ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه وجوده ، واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعا من الشرك ، والقتل ، والزنا ، والربا ، والظلم ، وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار . { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } أي : وصفه المغفرة والرحمة ، وصفان لازمان ذاتيان ، لا تنفك ذاته عنهما ، ولم تزل آثارهما سارية في الوجود ، مالئة للموجود ، . تسح يداه من الخيرات آناء الليل والنهار ، ويوالي النعم على العباد والفواضل في السر والجهار ، والعطاء أحب إليه من المنع ، والرحمة سبقت الغضب وغلبته ، . ولكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب إن لم يأت بها العبد ، فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة ، أعظمها وأجلها ، بل لا سبب لها غيره ، الإنابة إلى اللّه تعالى بالتوبة النصوح ، والدعاء والتضرع والتأله والتعبد ، . فهلم إلى هذا السبب الأجل ، والطريق الأعظم .
{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي ، وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن . { لا تقنطوا من رحمة الله } لا تيأسوا من مغفرته أولا وتفضله ثانيا . { إن الله يغفر الذنوب جميعا } عفوا ولو بعد بعد ، تقييده بالتوبة خلاف الظاهر ويدل على إطلاقه فيما عدا الشرك قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية ، والتعليل بقوله : { إنه هو الغفور الرحيم } على المبالغة وإفادة الحصر والوعد بالرحمة بعد المغفرة ، وتقديم ما يستدعي عموم المغفرة مما في { عبادي } من الدلالة على الذلة والاختصاص المقتضيين للترحم ، وتخصيص ضرر الإسراف بأنفسهم والنهي عن القنوط مطلقا عن الرحمة فضلا عن المغفرة ، وإطلاقها وتعليله بأن الله يغفر الذنوب جميعا ، ووضع { اسم } موضع الضمير لدلالته على أنه المستغني والمنعم على الإطلاق والتأكيد بالجميع . وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال " ما أحب أن تكون لي الدنيا وما فيها بها ، فقال رجل يا رسول الله ومن أشرك فسكت ساعة ثم قال : ألا ومن أشرك ثلاث مرات " . وما روي أن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الوثن وقتل النفس بغير حق لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفس فنزلت . وقيل في عياش والوليد بن الوليد في جماعة افتتنوا أو في الوحشي لا ينفي عمومها وكذا قوله : { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون } فإنها لا تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب لتغني عن التوبة والإخلاص في العمل وتنافي الوعيد بالعذاب .
أُطنبتْ آيات الوعيد بأفنانها السابقة إطناباً يبلغ من نفوس سامعيها أيَّ مبلغ من الرعب والخوف ، على رغْممِ تظاهرهم بقلة الاهتمام بها . وقد يبلغ بهم وقعها مبلغَ اليأس من سَعيٍ ينجيهم من وعيدها ، فأعقبها الله ببعث الرجاء في نفوسهم للخروج إلى ساحل النجاة إذا أرادوها على عادة هذا الكتاب المجيد من مداواة النفوس بمزيج الترغيب والترهيب .
والكلام استئناف بياني لأن الزواجر السابقة تثير في نفوس المواجَهين بها خاطر التساؤل عن مسالك النجاة فتتلاحم فيها الخواطر الملَكية والخواطر الشيطانية إلى أن يُرسي التلاحم على انتصار إحدى الطائفتين ، فكان في إنارة السبيل لها ما يسهل خطو الحائرين في ظلمات الشك ويرتفق بها ويواسيها بعد أن أثخنتها جروح التوبيخ والزجر والوعيد ويضمد تلك الجراحة والحليمُ يزجُر ويلين وتثير في نفس النبي صلى الله عليه وسلم خشيةَ أن يحيط غضب الله بالذين دعاهم إليه فأعرضوا أو حببهم في الحق فأبغضوا فلعله لا يَفتح لهم باب التوبة ولا تقبل منهم بعد إعراضهم أوْبَة ولاسيما بعد أن أمره بتفويض الأمر إلى حكمه المشتَمِّ منه ترقبُ قطع الجدال وفصمِه فكان أمره لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يناديهم بهذه الدعوة تنفيساً عليه وتفتيحاً لباب الأوْبة إليه فهذا كلام ينحل إلى استئنافين فجملة { قُل } استئناف لبيان ما ترقَّبَه أفضلُ النبيئين صلى الله عليه وسلم أي بلغ عني هذا القول .
وجملةُ { ياعبادي } استئناف ابتدائي من خطاب الله لهم . وابتداء الخطاب بالنداء وعنواننِ العباد مؤذن بأن ما بعده إعداد للقبول وإطماع في النجاة .
والخطاب بعنوان { ياعبادي } مراد به المشركون ابتداءً بدليل قوله : { وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب } [ الزمر : 54 ] وقوله : { وإن كنت لمن الساخرين } [ الزمر : 56 ] وقوله : { بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين } [ الزمر : 59 ] . فهذا الخطاب جرى على غير الغالب في مثله في عادة القرآن عند ذكر { عبادي } بالإِضافة إلى ضمير المتكلم تعالى .
وفي « صحيح البخاري » عن ابن عباس « أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قَتلوا وأَكثروا ، وزنَوا وأكثروا ، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرُنا أَن لما عملنا كفارة يعني وقد سمعوا آيات الوعيد لمن يعمل تلك الأعمال وإلا فمن أين علموا أن تلك الأعمال جرائم وهم في جاهلية فنزل : { والذين لا يدعون مع الله إلاهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق ولا يزنون } [ الفرقان : 68 ] يعني إلى قوله : { إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً } [ الفرقان : 70 ] ونزل : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللَّه } .
وقد رويت أحاديث عدة في سبب نزول هذه الآية غير حديث البخاري وهي بين ضعيف ومجهول ويستخلص من مجموعها أنها جزئيات لعموم الآية وأن الآية عامة لخطاب جميع المشركين وقد أشرنا إليها في ديباجة تفسير السورة .
ومن أجمل الأخبار المروية فيها ما رواه ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال : « لما اجتمعنا على الهجرة اتَّعدتُ أنا وهشامُ بن العاص السهمي ، وعيّاش بن أبي ربيعة بن عتبة . فقلنا : الموعد أَضَاةُ بني غِفَار ، وقلنا : من تأخّرَ منّا فقد حُبس فليمضضِ صاحباه . فأصبحتُ أنا وعياش بن عتبة وحُبس عنا هشام وإذا هو قد فُتِن فافتَتَنَ فكنا نقول بالمدينة : هؤلاء قد عَرفوا الله ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة . وكانوا هم يقولون هذا في أنفسهم ، فأنزل الله : { قل ياعبادي الذين أسرفوا } إلى قوله : { مَثْوى للمتكبرين } [ الزمر : 60 ] قال عمر فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام . قال هشام : فلما قدمتْ عليَّ خرجتُ بها إلى ذي طوَى فقلت : اللهم فهِّمنيها فعرفت أنها نزلت فينا فرجعتُ فجلست على بعيري فلحقت برسول الله ا ه . فقول عمر : فأنزل الله يريد أنه سمعه بعد أن هاجر وأنه مما نزل بمكة فلم يسمعه عمر إذ كان في شاغل تهيئة الهجرة فما سمعها إلا وهو بالمدينة فإن عمر هاجر إلى المدينة قبل النبي .
فالخطاب بقوله : ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } تمهيد بإجمال يأتي بيانه في الآيات بعده من قوله : { وأنيبوا إلى ربكم } [ الزمر : 54 ] . وبعد هذا فعموم عبادي وعموم صلة الذين أسرفوا } يشمل أهل المعاصي من المسلمين وإن كان المقصود الأصلي من الخطاب المشركين على عادة الكلام البليغ من كثرة المقاصد والمعاني التي تفرغ في قوالب تسعُها .
وقرأ الجمهور { ياعبادي الذين أسرفوا } بفتح ياء المتكلم ، وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب بإسكان الياء . ولعل وجه ثبوت الياء في هذه الآية دون نظيرها وهو قوله تعالى : { قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم } [ الزمر : 10 ] ، أن الخطاب هنا للذين أسرفوا وفي مقدمتهم المشركون وكلهم مظنة تطرق اليأس من رحمة الله إلى نفوسهم ، فكان إثبات ( يا ) المتكلم في خطابهم زيادة تصريح بعلامة التكلُّم تقوية لنسبة عبوديتهم إلى الله تعالى إيماء إلى أن شأن الرب الرحمة بعباده .
والإِسراف : الإِكثار . والمراد به هنا الإِسراف في الذنوب والمعاصي ، وتقدم ذكر الإِسراف في قوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافاً } في سورة [ النساء : 6 ] وقوله : { فلا يسرف في القتل } في سورة [ الإسراء : 33 ] . والأكثر أن يعدّى إلى متعلِّقه بحرف { مِن } ، وتعديتُه هنا ب ( على ) لأن الإِكثار هنا من أعماللٍ تتحملها النفس وتثقل بها وذلك متعارف في التبِعات والعدوان تقول : أكثرت على فلان ، فمعنى { أسرفوا على أنفسهم } : أنهم جلبوا لأنفسهم ما تثقلهم تبعته ليشمل ما اقترفوه من شرك وسيئات .
والقنوط : اليأس ، وتقدم في قوله : { فلا تكن من القانطين } في سورة [ الحِجر : 55 ] .
وجملة { إن الله يغفر الذنوب جميعاً } تعليل للنهي عن اليأس من رحمة الله .
ومادة الغفر ترجع إلى الستر ، وهو يقتضي وجود المستور واحتياجَه للستر فدل { يغْفِرُ الذُّنوب } على أن الذنوب ثابتة ، أي المؤاخذة بها ثابتة والله يغفرها ، أي يزيل المؤاخذة بها ، وهذه المغفرة تقتضي أسباباً أُجملت هنا وفصلت في دلائل أخرى من الكتاب والسنة منها قوله تعالى : { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى } [ طه : 82 ] ، وتلك الدلائل يجمعها أن للغفران أسباباً تطرأ على المذنب ولولا ذلك لكانت المؤاخذة بالذنوب عبثاً ينزه عنه الحكيم تعالى ، كيف وقد سماها ذنوباً وتوعد عليها فكان قوله : { إن الله يغفر الذنوب } دعوةً إلى تطلب أسباب هذه المغفرة فإذا طلبها المذنب عرف تفصيلها . و { جميعاً } حال من { الذنوب } ، أي حال جميعها ، أي عمومها ، فيغفر كل ذنب منها إن حصلت من المذنب أسباب ذلك . وسيأتي الكلام على كلمة ( جميع ) عند قوله تعالى : { والأرض جميعاً قبضته } في هذه السورة [ 67 ] .
وجملة { إنه هو الغفور الرحيم } تعليل لجملة { يغفر الذنوب جميعاً } أي لا يُعجزه أن يغفر جميع الذنوب ما بلغ جميعها من الكثرة لأنه شديد الغفران شديد الرحمة . فبطل بهذه الآية قول المرجئة إنه لا يضر مع الإِيمان شيء .