قوله تعالى : { ولله ما في السموات وما في الأرض } . عبيداً وملكاً .
قوله تعالى : { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ، يعني أهل التوراة والإنجيل وسائر الأمم المتقدمة في كتبهم .
قوله تعالى : { وإياكم } . يا أهل القرآن في القرآن .
قوله تعالى : { أن اتقوا الله } أي : وحدوا الله وأطيعوه .
قوله تعالى : { وإن تكفروا } ، بما أوصاكم الله به .
قوله تعالى : { فإن لله ما في السموات وما في الأرض } ، قيل : فإن لله ملائكة في السموات والأرض هم أطوع له منكم .
قوله تعالى : { وكان الله غنياً } ، عن جميع خلقه غير محتاج إلى طاعتهم .
{ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ْ }
يخبر تعالى عن عموم ملكه العظيم الواسع المستلزم تدبيره بجميع أنواع التدبير ، وتصرفه بأنواع التصريف قدرا وشرعا ، فتصرفه الشرعي أن وصى الأولين والآخرين أهل الكتب السابقة واللاحقة بالتقوى المتضمنة للأمر والنهي ، وتشريع الأحكام ، والمجازاة لمن قام بهذه الوصية بالثواب ، والمعاقبة لمن أهملها وضيعها بأليم العذاب ، ولهذا قال : { وَإِنْ تَكْفُرُوا ْ } بأن تتركوا تقوى الله ، وتشركوا بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ، فإنكم لا تضرون بذلك إلا أنفسكم ، ولا تضرون الله شيئا ولا تنقصون ملكه ، وله عبيد خير منكم وأعظم وأكثر ، مطيعون له خاضعون لأمره . ولهذا رتب على ذلك قوله : { وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ْ } له الجود الكامل والإحسان الشامل الصادر من خزائن رحمته التي لا ينقصها الإنفاق ولا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار ، لو اجتمع أهل السماوات وأهل الأرض أولهم وآخرهم ، فسأل كل [ واحد ] منهم ما بلغت أمانيه ما نقص من ملكه شيئا ، ذلك بأنه جواد واجد ماجد ، عطاؤه كلام وعذابه كلام ، إنما أمره لشيء إذا أراد أن يقول له كن فيكون .
ومن تمام غناه أنه كامل الأوصاف ، إذ لو كان فيه نقص بوجه من الوجوه ، لكان فيه نوع افتقار إلى ذلك الكمال ، بل له كل صفة كمال ، ومن تلك الصفة كمالها ، ومن تمام غناه أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولا شريكا في ملكه ولا ظهيرا ، ولا معاونا له على شيء من تدابير ملكه .
ومن كمال غناه افتقار العالم العلوي والسفلي في جميع أحوالهم وشئونهم إليه وسؤالهم إياه جميع حوائجهم الدقيقة والجليلة ، فقام تعالى بتلك المطالب والأسئلة وأغناهم وأقناهم ، ومَنَّ عليهم بلطفه وهداهم .
وأما الحميد فهو من أسماء الله تعالى الجليلة الدال على أنه [ هو ] المستحق لكل حمد ومحبة وثناء وإكرام ، وذلك لما اتصف به من صفات الحمد ، التي هي صفة الجمال والجلال ، ولما أنعم به على خلقه من النِّعم الجزال ، فهو المحمود على كل حال .
وما أحسن اقتران هذين الاسمين الكريمين { الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ْ } ! ! فإنه غني محمود ، فله كمال من غناه ، وكمال من حمده ، وكمال من اقتران أحدهما بالآخر .
{ ولله ما في السماوات وما في الأرض } تنبيه على كمال سعته وقدرته . { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } يعني اليهود والنصارى ، ومن قبلهم ، و{ الكتاب } للجنس و{ من } متعلقة ب{ وصينا } أو ب{ أوتوا } ومساق الآية لتأكيد الأمر بالإخلاص . { وإياكم } عطف على الذين . { أن اتقوا الله } بأن اتقوا الله ، ويجوز أن تكون أن مفسرة لأن التوصية في معنى القول . { وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض } على إرادة القول أي : وقلنا لهم ولكم أن تكفروا فإن الله مالك الملك كله لا يتضرر بكفركم ومعاصيكم ، كما لا ينتفع بشكركم وتقواكم ، وإنما وصاكم لرحمته لا لحاجته ثم قرر ذلك بقوله : { وكان الله غنيا } عن الخلق وعبادتهم . { حميدا } في ذاته حمد وإن لم يحمد .
جملة { ولله ما في السموات وما في الأرض } معترضة بين الجمل التي قبلها المتضمنّة التحريض على التقوى والإحسان وإصلاح الأعمال من قوله : { وإن تحسنوا وتتقّوا } [ النساء : 128 ] وقوله : { وإن تصلحوا وتتّقوا } [ النساء : 129 ] وبين جملة { ولقد وصينا } الآية . فهذه الجملة تضمّنت تذييلات لتلك الجمل السابقة ، وهي مع ذلك تمهيد لما سيذكر بعدها من قوله : { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب } الخ لأنها دليل لوجوب تقوى الله .
والمناسبة بين هذه الجملة والتي سبقتها : وهي جملة { يغن الله كُلاَ من سعته } [ النساء : 130 ] أنّ الذي له ما في السماوات وما في الأرض قادر على أن يغني كلّ أحد من سعته . وهذا تمجيد لله تعالى ، وتذكير بأنّه ربّ العالمين ، وكناية عن عظيم سلطانه واستحقاقه للتقوى .
وجملة { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } عطف على جملة { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [ النساء : 116 ] .
وجُعل الأمر بالتقوى وصيةً : لأنّ الوصية قول فيه أمرٌ بشيء نافع جامع لخير كثير ، فلذلك كان الشأن في الوصية إيجاز القول لأنّها يقصد منها وعي السامع ، واستحضاره كلمة الوصية في سائر أحواله . والتقوى تجمع الخيرات ، لأنّها امتثال الأوامر واجتناب المناهي ، ولذلك قالوا : ما تكرّر لفظ في القرآن ما تكرّر لفظ التقوى ، يعنون غير الأعلام ، كاسم الجلالة . وفي الحديث عن العرباض بن سارية : وَعَظَنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا يا رسول الله : كأنَّهَا موعظة مُوَدّعٍ فأوْصِنا ، قال : « أوصيكم بتقوى الله عزّ وجلّ والسمع والطاعة » . فذكْرُ التقوى في { أن اتّقوا الله } الخ تفسير لجملة { وصيّنا } ، فأنْ فيه تفسيرية . والإخبارْ بأنّ الله أوصى الذين أوتوا الكتاب من قبل بالتقوى مقصود منه إلْهاب همم المسلمين للتهمّم بتقوى الله لئلاّ تفضلهم الأمم الذين من قبلهم من أهل الكتاب ، فإنّ للائتساء أثراً بالغاً في النفوس ، كما قال تعالى : { يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } [ البقرة : 183 ] ، والمراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى ، فالتعريف في الكتاب تعريف الجنس فيصدق بالمتعدّد .
والتقوى المأمور بها هنا منظور فيها إلى أساسها وهو الإيمان بالله ورسله ولذلك قوبلت بجملة { وإن تكفروا فإنّ لله ما في السماوات وما في الأرض } .
وبيَّن بها عدم حاجته تعالى إلى تقوى الناس ، ولكنّها لصلاح أنفسهم ، كما قال { إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم ولا يرضى لعباده الكفر } [ الزمر : 7 ] . فقوله : { فإنّ لله ما في السماوات وما في الأرض } كناية عن عدم التضرّر بعصيَان من يعصونه ، ولذلك جعلها جواباً للشرط ، إذ التقدير فإنّه غنيّ عنكم . وتأيّد ذلك القصد بتذييلها بقوله : { وكان الله غنياً حميداً } أي غنيّاً عن طاعتكم ، محموداً لذاته ، سواء حمده الحامدون وأطاعوه ، أم كفروا وعصوه .
وقد ظهر بهذا أنّ جملة { وإن تكفروا } معطوفة على جملة { أن اتّقوا الله } فهي من تمام الوصية ، أي من مقول القول المعبّر عنه ب { وصيّنا } ، فيحسن الوقف على قوله { حميداً } .