اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ وَصَّيۡنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِيَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ وَإِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدٗا} (131)

قوله تعالى : { وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً }*{ وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً }{[10013]}

في تعلُّق هذه الآيَة بما قَبْلَها وجهان :

الأوَّل [ أنه - تعالى - لمّا ]{[10014]} قال : { يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } [ النساء : 130 ] أشار إلى ما هُو كالتَّفْسير لكونه وَاسِعاً ؛ فقال : { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } يعني : من كَانَ كَذَلِكَ ، [ فإنه ]{[10015]} يكون وَاسِع العِلْم ، والقُدْرَة ، والجُود ، والفَضْل ، والرَّحمة .

الثاني : أنه - تعالى - لمَّا أمر بالعَدْل ، والإحْسَان إلى اليَتَامى والنِّسَاء ، بَيَّنَ أنه مَا أمر بِهَذِه الأشْيَاء لاحتياجه لأعْمَال العِبَادِ ، لأن من كَانَ لَهُ ما في السَّموات ومَا فِي الأرْض ، كيف يَكُون مُحْتَاجاً إلى عَمَل الإنْسَان مع ضَعْفِهِ وقُصُوره ، وإنما أمَر بِها رِعَاية لما هو الأحْسَن لَهُم في دُنْيَاهُم وأخْرَاهُم .

ثم قال { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } يعني : أهْل التَّوْرَاةِ ، والإنْجِيلِ ، وسائر الأمم المُتَقَدِّمَة في كُتُبِهِم ، والكِتَاب : اسم جِنْس يتناول الكُتُب السَّمَاوِيَّة ، " وإيَّاكم " : يا أهل القُرْآن في كتابكم ، { أن اتَّقُوا اللَّه } أي : وَحِّدُوه وأطِيعُوه ، وتَقْوى اللَّه مَطْلُوبَة من جَمِيع الأمَمِ ، في سائر الشَّرَائِعِ لم تُنْسَخ ، وَهِي وَصِيَّة اللَّه في الأوَّلِين والآخِرين .

قوله : " مِنْ قَبْلِكُم " فيه وجهان{[10016]} :

الأول : أنه مُتَعَلِّق ب " وصَّيْنَا " يعني : ولقد وصَّيْنَا من قَبْلكُم [ الَّذِين أوتُوا الكِتَاب .

والثاني : أنه متعلِّق ب " أوتُوا " يَعْني : الَّذين أوتُوا الكِتَاب من قَبْلِكُمْ ]{[10017]} ، وصيناهم بذلك ، والأوَّل أظْهَر .

قوله : " وإيَّاكم " : عَطْف على { الذين أوتُوا الكتاب } وهو واجبُ الفَصْل هُنَا ؛ لتعذُّرِ الاتِّصَال ، واستدلَّ بَعْضُهم على أنَّه إذا قُدِر عَلى الضمير المُتَّصِل يجُوز أَن يُعْدَلَ إلى المُنْفَصِل بهذه الآية ؛ لأنه كان يُمْكِنُ أن يُقَال : " ولقد وَصِّيْنَاكُم والَّذِين أوتُوا الكِتاب " ، وكذلك استُدِلَّ بقوله - تعالى - : { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] ، إذ يمكن أن يُقَالَ : يخرجُونَكُم والرَّسُولَ ، وهذا ليس يدلّ له :

أمَّا الآيةُ الأولى : فلأنَّ الكَلامَ فيها جَاءَ على التَّرتِيب الوُجُودِي ، فإنَّ وَصِيَّة مَنْ قبلَنا قبلَ وَصيَّتنا ، فلمَّا قَصَدَ هذا المَعْنَى ، استحال - والحالةُ هذه - أن يقُدْرَ عليه مُتَّصِلاً .

وأما الآية الثَّانية : فلأنَّه قصد فيها تَقَدُّمَ ذِكْرِ الرَّسُول ؛ تشريفاً له ، وتشنيعاً على مَنْ تَجاسَر على مِثْلِ ذلك الفِعْل الفَظِيع ، فاسْتَحَال - والحالة هذه - أن يُجَاء به مُتَّصِلاً ، و " مِنْ قبلكم " : يَجُوزُ أنْ يتعلَّق ب " أوتُوا " ، ويجُوز أنْ يتعلَّق ب " وَصَّيْنَا " ؛ والأولُ أظهرُ .

قوله : " أن اتَّقُوا " يجوزُ في " أن " وَجْهَان :

أحدُهُمَا : أن تكون مصدرِيّة على حَذْفِ حَرْفِ الخَفْضِ ، تقديرُه : بأن اتَّقوا ، فلما حُذِف الحَرْفُ جَرَى فيها الخِلافُ المَشْهُور .

والثاني : أن تكُون المُفَسِّرة ؛ لأنها بَعْد ما هُو بِمَعْنَى القَوْل ، لا حروفه وهو الوصيّة ، والظاهر أن قوله : " وإن تَكْفُرُوا " جملة مُسْتأنفة ؛ للإخبار بأن هذه الحَالِ ليست داخلة في مَعْمُول الوصِيّة .

وقال الزَّمَخْشَرِي{[10018]} : { وإن تَكْفُرُواْ فإنَّ لِلَّهِ } عطفٌ على " اتَّقُوا " لأنَّ المَعْنَى : أمرناهم ، وأمَرْنَاكم بالتَّقْوَى ، وقُلْنا لهم ولكم : " إِن تَكْفُرُوا " وفي كلامه نظرٌ ، لأنَّ تقديره القَوْلَ ، ينفي كون الجُمْلة الشرطية مُنْدرجةً في حَيِّزِ الوصيَّة بالنِّسْبَة إلى الصِّناعة النَّحْوية ، وهو لم يقصد تفسير المعنى فقط ، بل قصده هو وتفسير الإعراب ؛ بدليل قوله : عطف على " اتَّقُوا " ، و " اتَّقُوا " داخلٌ في حيِّز الوصيَّةِ ، سواءً أجعلت " أن " مصدريَّةً أم مُفسِّرة .

فصل

ومعنى [ قوله : ]{[10019]} { أن اتَّقُوا اللَّه } ؛ كقولك : أمَرْتُكَ الخَيْرَ ، قال الكسَائِيُّ : يقال : أوصَيْتُك أن افْعل{[10020]} كذا ، وأن تَفْعَل{[10021]} كذا ، ويُقال : ألْم آمُرَك أن ائت{[10022]} زيداً ، وأن تأتِي زَيْداً ؛ كقوله - تعالى - : [ و ]{[10023]} { أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } [ الأنعام : 14 ] ، وقوله : { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ } [ النمل : 91 ] وتقدَّم الكلام على " وَإِن تَكْفُروا " .

قوله : { فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } في تعلُّقِه وجهان :

الأول : أنه - تعالى - خالقُهُم ومالِكُهُم ، والمُنْعِم عليهم بأصْناف{[10024]} النِّعَم كلِّها ، فَحَقٌّ على كل عَاقلٍ أن يَنْقَاد لأوَامِرِهِ ونَوَاهِيهِ ، ويَرْجُو ثوابه ، ويَخَاف عِقَابَهُ .

والثاني : { وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } من أصناف المَخْلُوقات من الملائِكَة وغيرها أطوع مِنْكُم يَعْبُدوه ويتَّقُوه ، وهو مع ذَلِكَ غَنِيٌّ عن عِبَادَتِهم ، و " حَمِيداً " {[10025]} مُسْتَحِقٌّ للحَمْد ؛ لكثرة نِعمِه ، وإن لم يحمده أحَدٌ منهم ؛ لأنه في ذَاتِه مَحْمُود ، سواء حَمَدُوه أوْ لَمْ يَحْمَدُوه .


[10013]:سقط في ب.
[10014]:سقط في ب.
[10015]:سقط في ب.
[10016]:في أ: توجيهان.
[10017]:سقط في ب.
[10018]:ينظر: الكشاف 1/573.
[10019]:سقط في ب.
[10020]:في ب: تفصل.
[10021]:في أ: تفصل.
[10022]:في أ: أثبت.
[10023]:سقط في ب.
[10024]:في ب: بأنواع.
[10025]:في أ: وحيدا.