قوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } . أي بقاء ، وذلك أن القاصد للقتل إذا علم أنه إذا قتل يقتل يمنع عن القتل ، فيكون بقاؤه وبقاء من هم بقتله ، وقيل في المثل : القتل أنفى للقتل . وقيل : معنى الحياة سلامته من قصاص الآخرة ، فإنه إذا اقتص منه حيي في الآخرة وإذا لم يقتص منه في الدنيا اقتص منه في الآخرة .
قوله تعالى : { يا أولي الألباب لعلكم تتقون } . أي تنتهون عن القتل مخافة القود .
ثم بين تعالى حكمته العظيمة في مشروعية القصاص فقال : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } أي : تنحقن بذلك الدماء ، وتنقمع به الأشقياء ، لأن من عرف أنه مقتول إذا قتل ، لا يكاد يصدر منه القتل ، وإذا رئي القاتل مقتولا انذعر بذلك غيره وانزجر ، فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل ، لم يحصل انكفاف الشر ، الذي يحصل بالقتل ، وهكذا سائر الحدود الشرعية ، فيها من النكاية والانزجار ، ما يدل على حكمة الحكيم الغفار ، ونكَّر " الحياة " لإفادة التعظيم والتكثير .
ولما كان هذا الحكم ، لا يعرف حقيقته ، إلا أهل العقول الكاملة والألباب الثقيلة ، خصهم بالخطاب دون غيرهم ، وهذا يدل على أن الله تعالى ، يحب من عباده ، أن يعملوا أفكارهم وعقولهم ، في تدبر ما في أحكامه من الحكم والمصالح الدالة على كماله وكمال حكمته وحمده وعدله ورحمته الواسعة ، وأن من كان بهذه المثابة فقد استحق المدح بأنه من ذوي الألباب الذين وجه إليهم الخطاب ، وناداهم رب الأرباب ، وكفى بذلك فضلا وشرفا لقوم يعقلون .
وقوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وذلك أن من عرف ربه وعرف ما في دينه وشرعه من الأسرار العظيمة والحكم البديعة والآيات الرفيعة ، أوجب له ذلك أن ينقاد لأمر الله ، ويعظم معاصيه فيتركها ، فيستحق بذلك أن يكون من المتقين .
وقوله : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } يقول تعالى : وفي شَرْع القصاص لكم - وهو قتل القاتل - حكمة عظيمة لكم ، وهي بقاء المُهَج وصَوْنها ؛ لأنه إذا علم القاتلُ أنه يقتل انكفّ عن صنيعه ، فكان في ذلك حياة النفوس . وفي الكتب المتقدمة : القتلُ أنفى للقتل . فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح ، وأبلغ ، وأوجز .
{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } قال أبو العالية : جعل الله القصاص حياة ، فكم من رجل يريد أن يقتُل ، فتمنعه مخافة أن يُقتل .
وكذا روي عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبي مالك ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، { يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يقول : يا أولي العقول والأفهام والنهى ، لعلكم تنزجرون فتتركون محارم الله ومآثمه ، والتقوى : اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات .
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 179 )
وقوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } نحوه( {[1626]} ) قول العرب في المثل : القتل أوقى للقتل ، ويروى : أبقى ، بباء وقاف .
ويروى أنفى بنون وفاء( {[1627]} ) ، والمعنى أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم به ازدجر من يريد قتل أحد مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معاً ، وهذا الترتيب ما سبق لهما في الأزل( {[1628]} ) ، وأيضاً فكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعية إلى موت العدد الكثير ، فلما شرع الله القصاص قنع الكل به ووقف عنده وتركوا الاقتتال ، فلهم في ذلك حياة ، وخص { أولي الألباب } بالذكر تنبيهاً عليهم ، لأنهم العارفون القابلون للأوامر والنواهي ، وغيرهم تبع لهم ، و { تتقون } معناه القتل فتسلمون من القصاص ، ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك ، فإن الله تعالى يثيب على الطاعة بالطاعة ، وقرأ أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي «ولكم في القصص »( {[1629]} ) أي في كتاب الله الذي شرع فيه القصاص وحكمه ، ويحتمل أن يكون مصدراً كالقصاص ، أي إنه قص أثر القاتل قصصاً فقتل كما قتل .
تذييل لهاته الأحكام الكبرى طمأن به نفوس الفريقين أولياءَ الدم والقاتلين في قبول أحكام القصاص ، فبين أن في القصاص حياة ، والتنكير في { حياة } للتعظيم بقرينة المقام ، أي في القصاص حياة لكم أي لنفوسكم ؛ فإن فيه ارتداع الناس عن قتل النفوس ، فلو أهمل حكم القصاص لما ارتدع الناس ؛ لأن أشدَّ ما تتوقاه نفوس البشر من الحوادث هو الموت ، فلو علم القاتل أنه يَسلم من الموت لأقدم على القتل مستخفاً بالعقوبات كما قال سعد بن ناشب لما أصاب دَماً وهرب فعاقبه أمير البصرة بهدم داره بها :
سَأَغْسِلُ عني العار بالسيف جالبا *** عليَّ قضاءُ الله ما كان جالبــا
وأَذْهَل عَن داري وأَجْعَلُ هَدْمَهـا *** لِعِرْضِيَ من باقي المذمَّة حاجبا
ويَصْغُر في عينِي تلادي إذا انْثَنَتْ *** يَميني بإدراكِ الذي كنتُ طالبا
ولو ترك الأمر للأخذ بالثأر كما كان عليه في الجاهلية لأفرطوا في القتل وتسلسل الأمر كما تقدم ، فكان في مشروعية القصاص حياة عظيمة من الجانبين ، وليس الترغيب في أخذ مال الصلح والعفو بناقض لحكمة القصاص ؛ لأن الازدجار يحصل بتخيير الولي في قبول الدية فلا يطمئن مضمر القتل إلى عفو الولي إلاّ نادراً وكفى بهذا في الازدجار .
وفي قوله تعالى : { يا أولي الألباب } تنبيه بحرف النداء على التأمل في حكمة القصاص ، ولذلك جيء في التعريف بطريق الإضافة الدالة على أنهم من أهل العقول الكاملة ؛ لأن حكمة القصاص لا يدركها إلاّ أهل النظر الصحيح ؛ إذ هو في باديء الرأي كأنه عقوبة بمثل الجناية ؛ لأن في القصاص رزية ثانية لكنه عند التأمل هو حياة لا رزية للوجهين المتقدمَيْن .
وقال : { لعلكم تتقون } إكمالاً للعلة أي تقريباً لأن تتقوا فلا تتجاوزوا في أخذ الثأر حدَّ العدل والإنصاف . ولعل للرجاء وهي هنا تمثيل أو استعارة تبعية كما تقدم عند قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم إلى قوله لعلكم تتقون } [ البقرة : 21 ] في أول السورة .
وقوله : { في القصاص حياة } من جوامع الكلم ، فاق ما كان سائراً مسرى المثل عند العرب وهو قولهم ( القتل أَنْفَى لِلْقَتْل ) ، وقد بينه السكاكي في « مفتاح العلوم » و« ذيله » من جاء بعده من علماء المعاني ، ونزيد عليهم : أن لفظ القصاص قد دل على إبطال التكايل بالدماء وعلى إبطال قتل واحد من قبيلة القاتل إذا لم يظفروا بالقاتل ، وهذا لا تفيده كلمتهم الجامعة .