قوله تعالى : { إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك } ، قال الحسن : ذكر النعمة شكرها ، وأراد بقوله : { نعمتي } ، أي نعمي ، لفظه واحد ومعناه جمع . كقوله تعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } .
قوله تعالى : { وعلى والدتك } ، مريم ، ثم ذكر النعم فقال :
قوله تعالى : { إذ أيدتك } ، قويتك .
قوله تعالى : { بروح القدس } ، يعني جبريل عليه السلام .
قوله تعالى : { تكلم الناس } ، يعني :وتكلم الناس .
قوله تعالى : { في المهد } ، صبيا .
قوله تعالى : { وكهلاً } ، نبياً قال ابن عباس : أرسله الله وهو ابن ثلاثين سنة ، فمكث في رسالته ثلاثين شهراً ، ثم رفعه الله إليه .
قوله تعالى : { وإذ علمتك الكتاب } ، يعني الخط .
قوله تعالى : { والحكمة } ، يعني : العلم والفهم .
قوله تعالى : { والتوراة والإنجيل وإذ تخلق } ، تجعل وتصور .
قوله تعالى : { من الطين كهيئة الطير } ، كصورة الطير .
قوله تعالى : { بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا } حيا يطير .
قوله تعالى : { بإذني وتبرئ } وتصحح .
قوله تعالى : { الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى } ، من قبورهم أحياء .
قوله تعالى : { بإذني وإذ كففت } ، منعت وصرفت .
قوله تعالى : { بني إسرائيل } ، يعني اليهود .
قوله تعالى : { عنك } ، حين هموا بقتلك .
قوله تعالى : { إذ جئتهم بالبينات } ، يعني : بالدلالات الواضحات والمعجزات ، وهي التي ذكرنا ، وسميت بالبينات لأنها مما يعجز عنها سائر الخلق الذين ليسوا بمرسلين .
قوله تعالى : { فقال الذين كفروا منهم إن هذا } ، ماهذا .
قوله تعالى : { إلا سحر مبين } ، يعني : ما جاءهم به من البينات ، قرأ حمزة والكسائي { ساحر مبين } هاهنا وفي سورة هود والصف ، فيكون راجعاً إلى عيسى عليه السلام ، وفي هود يكون راجعاً إلى محمد صلى الله عليه وسلم .
{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ } أي : اذكرها بقلبك ولسانك ، وقم بواجبها شكرا لربك ، حيث أنعم عليك نعما ما أنعم بها على غيرك .
{ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ } أي : إذ قويتك بالروح والوحي ، الذي طهرك وزكاك ، وصار لك قوة على القيام بأمر الله والدعوة إلى سبيله . وقيل : إن المراد " بروح القدس " جبريل عليه السلام ، وأن الله أعانه به وبملازمته له ، وتثبيته في المواطن المشقة .
{ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا } المراد بالتكليم هنا ، غير التكليم المعهود الذي هو مجرد الكلام ، وإنما المراد بذلك التكليم الذي ينتفع به المتكلم والمخاطب ، وهو الدعوة إلى الله .
ولعيسى عليه السلام من ذلك ، ما لإخوانه من أولي العزم من المرسلين ، من التكليم في حال الكهولة ، بالرسالة والدعوة إلى الخير ، والنهي عن الشر ، وامتاز عنهم بأنه كلم الناس في المهد ، فقال : { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا } الآية .
{ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } فالكتاب يشمل الكتب السابقة ، وخصوصا التوراة ، فإنه من أعلم أنبياء بني إسرائيل -بعد موسى- بها . ويشمل الإنجيل الذي أنزله الله عليه .
والحكمة هي : معرفة أسرار الشرع وفوائده وحكمه ، وحسن الدعوة والتعليم ، ومراعاة ما ينبغي ، على الوجه الذي ينبغي .
{ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } أي : طيرا مصورا لا روح فيه . فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ، وتبرئ الأكمه الذي لا بصر له ولا عين . { وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي } فهذه آيات بيِّنَات ، ومعجزات باهرات ، يعجز عنها الأطباء وغيرهم ، أيد الله بها عيسى وقوى بها دعوته . { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ } لما جاءهم الحق مؤيدا بالبينات الموجبة للإيمان به . { إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } وهموا بعيسى أن يقتلوه ، وسعوا في ذلك ، فكفَّ الله أيديهم عنه ، وحفظه منهم وعصمه .
فهذه مِنَنٌ امتَنَّ الله بها على عبده ورسوله عيسى ابن مريم ، ودعاه إلى شكرها والقيام بها ، فقام بها عليه السلام أتم القيام ، وصبر كما صبر إخوانه من أولي العزم .
يذكر تعالى ما امتن به على عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام مما أجراه على يديه من المعجزات وخوارق العادات ، فقال تعالى : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ } أي : في خلقي إياك من أم بلا ذكر ، وجعلي إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي على الأشياء { وَعَلى وَالِدَتِكَ } حيث جَعلتُكَ لها برهانًا على براءتها مما نسبه الظالمون الجاهلون إليها من الفاحشة ، { إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ } وهو جبريل ، عليه السلام ، وجعلتك نبيًا داعيًا إلى الله في صغرك وكبرك ، فأنطقتك في المهد صغيرًا ، فشهدت ببراءة أمك من كل عيب ، واعترفت لي بالعبودية ، وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوتك{[10521]} إلى عبادتي ؛ ولهذا قال تعالى : { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا } أي : تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك . وضمن " تكلم " تدعو ؛ لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب .
وقوله : { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } أي : الخط والفهم { وَالتَّوْرَاةَ } وهي المنزلة على موسى بن عمران الكليم ، وقد يَرِدُ لفظ التوراة في الحديث ويُرَاد به ما هو أعم من ذلك .
وقوله : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي } أي : تصوره وتشكله على هيئة الطائر بإذني لك في ذلك فيكون طائرًا بإذني ، أي : فتنفخ في تلك الصورة التي شكلتها بإذني لك في ذلك ، فتكون طيراً ذا روح بإذن الله وخلقه .
وقوله : { وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي } قد تقدم الكلام على ذلك{[10522]} في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته .
وقوله : { وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي } أي : تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله وقدرته ، وإرادته ومشيئته .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن طلحة - يعني ابن مُصَرِّف - عن أبي بِشْر ، عن أبي الهذيل قال : كان عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين ، يقرأ في الأولى : { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } [ سورة الملك ] ، وفي الثانية : { الم . تَنزيلُ الْكِتَابِ } [ سورة السجدة ] . فإذا فرغ منهما مدح الله وأثنى عليه ، ثم دعا بسبعة أسماء : يا قديم ، يا خفي ، يا دائم ، يا فرد ، يا وتر ، يا أحد ، يا صمد - وكان إذا أصابته شدة دعا بسبعة أخر : يا حي ، يا قيوم ، يا الله ، يا رحمن ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا نور السموات والأرض ، وما بينهما ورب العرش العظيم ، يا رب .
وهذا أثر عجيب جدًا . {[10523]}
وقوله : { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ } أي : واذكر نعمتي عليك في كفي إياهم عنك حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوتك ورسالتك من الله إليهم ، فكذبوك واتهموك بأنك ساحر ، وسعوا في قتلك وصلبك ، فنجيتك منهم ، ورفعتك{[10524]} إليَّ ، وطهرتك من دنسهم ، وكفيتك شرهم . وهذا يدل على أن هذا الامتنان كان من الله إليه بعد رفعه إلى السماء الدنيا ، أو يكون هذا الامتنان واقعًا يوم القيامة ، وعبر عنه بصيغة الماضي دلالة على وقوعه لا محالة . وهذا من أسرار الغيوب التي أطلع الله عليها رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم .
{ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك } بدل من يوم يجمع وهو على طريقة { ونادى أصحاب الجنة } والمعنى أنه سبحانه وتعالى يوبخ الكفرة يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم وتعديد ما أظهر عليهم من الآيات فكذبتهم طائفة وسموهم سحرة ، وغلا آخرون فاتخذوهم آلهة . أو نصب بإضمار اذكر . { إذ أيدتك } قويتك وهو ظرف لنعمتي أو حال منه وقرئ " آيدتك " . { بروح القدس } بجبريل عليه الصلاة والسلام ، أو بالكلام الذي يحيا به الدين ، أو النفس حياة أبدية ويطهر من الآثام ويؤيده قوله : { تكلم الناس في المهد وكهلا } أي كائنا في المهد وكهلا ، والمعنى تكلمهم في الطفولة والكهولة على سواء ، والمعنى إلحاق حاله في الطفولية بحال الكهولية في كمال العقل والتكلم ، وبه استدل على أنه سينزل فإنه رفع قبل أن يكتمل . { وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني } سبق تفسيره في سورة " آل عمران " . وقرأ نافع ويعقوب " طائرا " ويحتمل الإفراد والجمع كالباقر . { وإذ كففت بني إسرائيل عنك } يعني اليهود حين هموا بقتله . { إذ جئتهم بالبينات } ظرف لكففت . { فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين } أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر مبين . وقرأ حمزة والكسائي إلا " ساحر " فالإشارة إلى عيسى عليه الصلاة والسلام .
قوله : { إذ قال الله يا عيسى ابن مريم } ظرف ، هو بدل من { يومَ يجمع الله الرسل } بدل اشتمال ، فإنّ يوم الجمع مشتمل على زمن هذا الخطاب لعيسى ، ولذلك لم تعطف هذه الجملة على التي قبلها . والمقصود من ذكر ما يقال لعيسى يومئذٍ هو تقريع اليهود . والنصارى الذين ضلّوا في شأن عيسى بين طرفي إفراط بغض وإفراط حبّ .
فقوله { اذكر نعمتي عليك } إلى قوله { لا أعذّبه أحداً من العالمين } [ المائدة : 115 ] استئناس لعيسى لئلاّ يفزعه السؤال الوارد بعده بقوله : { أأنت قلت للناس الخ . . . } [ المائدة : 116 ] وهذا تقريع لليهود ، وما بعدها تقريع للنصارى . والمراد من { اذكر نعمتي } الذُّكر بضمّ الذال وهو استحضار الأمر في الذهن . والأمر في قوله { اذكر } للامتنان ، إذ ليس عيسى بناس لنعم الله عليه وعلى والدته . ومن لازمه خزي اليهود الذين زعموا أنّه ساحر مفسد إذ ليس السحر والفساد بنعمة يعدّها الله على عبده . ووجه ذكر والدته هنا الزيادة من تبكيت اليهود وكمدهم لأنّهم تنقّصوها بأقذع ممّا تنقّصوه .
والظرف في قوله { إذْ أيّدتك بروح القدس } متعلّق ب { نعمتي } لما فيها من معنى المصدر ، أي النعمة الحاصلة في ذلك الوقت ، وهو وقت التأييد بروح القدس . وروح القدس هنا جبريل على الأظهر . والتأييد وروح القدس تقدّماً في سورة البقرة ( 87 ) عند قوله : { وآتينا عيسى ابن مريم البيِّنات وأيّدناه بروح القدس }
وجملة { تكلّم } حال من الضمير المنصوب بِ { أيّدتك } وذلك أنّ الله ألقى الكلام من الملَك على لسان عيسى وهو في المهد ، وفي ذلك تأييد له لإثبات نزاهة تكوّنه ، وفي ذلك نعمة عليه ، وعلى والدته إذ ثبتت براءتها ممّا اتّهمت به .
والجارّ والمجرور في قوله { في المهد } حال من ضمير { تُكلّم } . و { كَهْلاً } معطوف على { في المهد } لأنّه حال أيضاً ، كقوله تعالى : { دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً } [ يونس : 12 ] . والمهد والكهل تقدّماً في تفسير سورة آل عمران . وتكليمه كهلاً أريد به الدعوة إلى الدين فهو من التأييد بروح القدس ، لأنّه الذي يلقي إلى عيسى ما يأمره الله بتبليغه .
وقوله : { وإذْ علّمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل } تقدّم القول في نظيره في سورة آل عمران ، وكذلك قوله { وإذ تخلق من الطين } إلى قوله وإذ تخرج الموتى بإذني تقدّم القول في نظيره هنالك .
إلاّ أنّه قال هنا { فتنفخ فيها } وقال في سورة آل عمران ( 49 ) { فانفخ فيه } فعن مكّي بن أبي طالب أنّ الضمير في سورة آل عمران عادَ إلى الطير ، والضمير في هذه السورة عاد إلى الهيئة . واختار ابن عطية أن يكون الضمير هنا عائداً إلى ما تقتضيه الآية ضرورة . أي بدلالة الاقتضاء . وذلك أنّ قوله : وإذْ تَخْلُق من الطين كهيئة الطير } يقتضي صوراً أو أجساماً أو أشكالاً ، وكذلك الضمير المذكّر في سورة آل عمران ( 49 ) يعود على المخلوق الذي يقتضيه { أخْلُق } وجعله في عائداً إلى الكاف باعتبار كونها صفة للفظ هيئة المحذوف الدّال عليه لفظ هيئة المدخول للكاف وكلّ ذلك ناظر إلى أنّ الهيئة لا تصلح لأن تكون متعلّق { تنفخ } ، إذ الهيئة معنى لا ينفخ فيها ولا تكون طائراً .
وقرأ نافع وحده { فتكون طائراً } بالإفراد كما قرأ في سورة آل عمران . وتوجيهها هنا أنّ الضمير جرى على التأنيث فتعيّن أن يكون المراد وإذ تخلق ، أي تقدّر هيئة كهيئة الطير فتكون الهيئة طائراً ، أي كلّ هيئة تقدّرها تكون واحداً من الطير .
وقرأ البقية « طيراً » بصيغة اسم الجمع باعتبار تعدّد ما يقدّره من هيئات كهيئة الطير .
وقال هنا { وإذا تخرج الموتى } ولم يقل : { وأحي الموتى } ، كما قال في سورة آل عمران ( 49 ) ، أي تخرجهم من قبورهم أحياء ، فأطلق الإخراج وأريد به لازمه وهو الإحياء ، لأنّ الميّت وضع في القبر لأجل كونه ميّتاً فكان إخراجه من القبر ملزوماً الانعكاس السبب الذي لأجله وضع في القبر . وقد سمّى الله الإحياء خروجاً في قوله : { وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج } [ ق : 11 ] وقال : { إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون } [ المؤمنون : 35 ] .
وقوله : { وإذ كففت بني إسرائيل عنك } عطف على { إذْ أيّدتك } وما عطف عليه . وهذا من أعظم النعم ، وهي نعمة العصمة من الإهانة ؛ فقد كفّ الله عنه بني إسرائيل سنين ، وهو يدعو إلى الدين بين ظهرانيهم مع حقدهم وقلّة أنصاره ، فصرفهم الله عن ضرّه حتى أدّى الرسالة ، ثمّ لمّا استفاقوا وأجمعوا أمرهم على قتله عصمه الله منهم فرفعه إليه ولم يظفروا به ، وماتت نفوسهم بغيظها . وقد دلّ على جميع هذه المدّة الظرف في قوله : { إذ جئتم بالبيّنات } فإنّ تلك المدّة كلّها مدّة ظهور معجزاته بينهم . وقوله : { فقال الذين كفروا منهم } تخلّص من تنهية تقريع مكذّبيه إلى كرامة المصدّقين به .
واقتصر من دعاوي تكذيبهم إيّاه على قولهم { إنْ هذا إلاّ سحر مبين } ، لأنّ ذلك الادّعاء قصدوا به التوسّل إلى قتله ، لأنّ حكم الساحر في شريعة اليهود القتل إذ السحر عندهم كفر ، إذ كان من صناعة عبدة الأصنام ، فقد قرنت التوراة السحر وعِرافةَ الجانّ بالشرك ، كما جاء في سفر اللاويّيين في الإصحاح العشرين .
وقرأ الجمهور : { إنْ هذا إلاّ سحر } ، والإشارة بِ { هذا } إلى مجموع ما شاهدوه من البيّنات . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف { إلاّ ساحر } . والإشارة إلى عيسى المفهوم من قوله : { إذْ جئتهم بالبيّنات } . ولا شك أنّ اليهود قالوا لعيسى كلتا المقالتين على التفريق أو على اختلاف جماعات القائلين وأوقات القول .