قوله عز وجل : { ولقد كرمنا بني آدم } ، روي عن ابن عباس أنه قال : هو أنهم يأكلون بالأيدي ، غير الآدمي يأكل بفيه من الأرض . وروي عنه أنه قال : بالعقل . وقال الضحاك : بالنطق . وقال عطاء : بتعديل القامة وامتدادها ، والدواب منكبة على وجوهها . وقيل : بحسن الصورة . وقيل : الرجال باللحى ، والنساء بالذوائب . وقيل : بأن سخر لهم سائر الأشياء . وقيل : بأن منهم خير أمة أخرجت للناس .
{ وحملناهم في البر والبحر } ، أي : حملناهم في البر على الدواب وفي البحر على السفن . { ورزقناهم من الطيبات } ، يعني : لذيذ المطاعم والمشارب . قال مقاتل : السمن ، والزبد ، والتمر ، والحلوى ، وجعل رزق غيرهم مالا يخفى . { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً } ، وظاهر الآية أنه فضلهم على كثير ممن خلقهم لا على الكل . وقال قوم : فضلوا على جميع الخلق إلا على الملائكة . وقال الكلبي : فضلوا على الخلائق كلهم إلا على طائفة من الملائكة : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت ، وأشباههم . وفي تفضيل الملائكة على البشر اختلاف ، فقال قوم : فضلوا على جميع الخلق وعلى الملائكة كلهم ، قد يوضع الأكثر موضع الكل كما قال تعالى : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين } إلى قوله تعالى : { وأكثرهم كاذبون } [ الشعراء -221 222 ] . أي : كلهم . وفي الحديث عن جابر يرفعه قال : " لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة : يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة ، فقال تعالى : { لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان } . والأولى أن يقال : عوام المؤمنين أفضل من عوام الملائكة ، وخواص المؤمنين أفضل من خواص الملائكة . قال الله تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية } [ البينة – 7 ] . وروي عن أبي هريرة أنه قال : المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده .
{ 70 } { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا }
وهذا من كرمه عليهم وإحسانه الذي لا يقادر قدره حيث كرم بني آدم بجميع وجوه الإكرام ، فكرمهم بالعلم والعقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وجعل منهم الأولياء والأصفياء وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة .
{ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ } على الركاب من الإبل والبغال والحمير والمراكب البرية . { وَ } في { الْبَحْرِ } في السفن والمراكب { وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } من المآكل والمشارب والملابس والمناكح . فما من طيب تتعلق به حوائجهم إلا وقد أكرمهم الله به ويسره لهم غاية التيسير .
{ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا } بما خصهم به من المناقب وفضلهم به من الفضائل التي ليست لغيرهم من أنواع المخلوقات .
أفلا يقومون بشكر من أولى النعم ودفع النقم ولا تحجبهم النعم عن المنعم فيشتغلوا بها عن عبادة ربهم بل ربما استعانوا بها على معاصيه .
يخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم ، وتكريمه إياهم ، في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها{[17673]} كما قال : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] أي : يمشي قائمًا منتصبًا على رجليه ، ويأكل بيديه - وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه - وجعل له سمعًا وبصرًا وفؤادًا ، يفقه بذلك كله وينتفع به ، ويفرق بين الأشياء ، ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدنيوية والدينية .
{ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ }{[17674]} أي : على الدواب من الأنعام والخيل والبغال ، وفي " البحر " أيضًا على السفن الكبار والصغار .
{ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } أي : من زروع وثمار ، ولحوم وألبان ، من سائر أنواع الطعوم{[17675]} والألوان ، المشتهاة اللذيذة ، والمناظر الحسنة ، والملابس الرفيعة{[17676]} من سائر الأنواع ، على اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها ، مما يصنعونه لأنفسهم ، ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي .
{ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا } أي : من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات .
وقد استُدل بهذه الآية على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة ، قال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن زيد بن أسلم قال : قالت الملائكة : يا ربنا ، إنك أعطيت بني آدم الدنيا ، يأكلون منها ويتنعمون ، ولم تعطنا ذلك فأعطناه في الآخرة . فقال الله : " وعزتي وجلالي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ، كمن قلت له : كن فكان " {[17677]} .
وهذا الحديث مرسل من هذا الوجه ، وقد روي من وجه آخر متصلا .
وقال{[17678]} الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد بن صَدَقَة البغدادي ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن خالد المِصِّيصِيّ ، حدثنا حجاج بن محمد ، حدثنا أبو غَسَّان محمد بن مطرف ، عن صفوان بن سُليم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الملائكة قالت : يا ربنا ، أعطيت بني آدم الدنيا ، يأكلون فيها{[17679]} ويشربون ويلبسون ، ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو ، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة . قال : لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ، كمن قلت له : كن ، فكان " {[17680]} .
وقد روى ابن عساكر من طريق محمد بن أيوب الرازي ، حدثنا الحسن بن علي بن خلف الصيدلاني ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن ، حدثني عثمان بن حصن بن عبيدة بن عَلاق ، سمعت عروة بن رُوَيْم اللخمي ، حدثني أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الملائكة قالوا : ربنا ، خلقتنا وخلقت بني آدم ، فجعلتهم يأكلون الطعام ، ويشربون الشراب ، ويلبسون الثياب ، ويتزوجون النساء ، ويركبون الدواب ، ينامون{[17681]} ويستريحون ، ولم تجعل لنا من ذلك شيئًا ، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة . فقال الله عز وجل : لا أجعل من خلقته بيدي ، ونفخت فيه من روحي ، كمن قلت له : كن ، فكان " {[17682]} .
وقال الطبراني : حدثنا عبدان بن أحمد ، حدثنا عمر{[17683]} بن سهل ، حدثنا عبيد الله بن تمام ، عن خالد الحذاء ، عن بشر بن شِغَاف{[17684]} عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم " . قيل : يا رسول الله ولا الملائكة ؟ قال : " ولا الملائكة ، الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر " {[17685]} . وهذا حديث غريب جدًا .
{ ولقد كرّمنا بني آدم } بحسن الصورة والمزاج الأعدل واعتدال القامة والتمييز بالعقل والإفهام بالنطق والإشارة والخط والتهدي ، إلى أسباب المعاش والمعاد والتسلط على ما في الأرض والتمكن من الصناعات وانسياق الأسباب والمسببات العلوية والسفلية إلى ما يعود عليهم بالمنافع إلى غير ذلك مما يقف الحصر دون إحصائه ومن ذلك ما ذكره ابن عباس وهو أن كل حيوان يتناول طعامه بفيه إلا الإنسان فإنه يرفعه إليه بيده { وحملناهم في البر والبحر } على الدواب والسفن من حملته حملا إذا جعلت له ما يركبه أو حملناهم فيهما حتى لم تخسف بهم الأرض ولم يغرقهم الماء { ورزقناهم من الطيبات } المستلذات مما يحصل بفعلهم وبغير فعلهم . { وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } بالغلبة والاستيلاء أو بالشرف والكرامة ، والمستثنى جنس الملائكة عليهم الصلاة والسلام أو الخواص منهم ، ولا يلزم من عدم تفضيل الجنس عدم تفضيل بعض أفراده والمسألة موضع نظر ، وقد أول الكثير بالكل وفيه تعسف .
{ كرمنا } تضعيف كرم ، فالمعنى : جعلنا لهم كرماً ، أي شرفاً وفضلاً ، وهذا هو كرم نفي النقصان ، لا كرم المال ؛ وإنما هو كما تقول : ثوب كريم ، أي جمة محاسنه .
قال القاضي أبو محمد : رضي الله عنه : وهذه الآية ، عدد الله تعالى فيها على بني آدم ما خصهم به من بين سائر الحيوان ، والحيوان والجن هو الكثير المفضول ، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول ، وحملهم { في البر والبحر } ، مما لا يصلح لحيوان سوى بني آدم أن يكون يحمل بإرادته وقصده وتدبيره { في البر والبحر } جميعاً ، والرزق { من الطيبات } ، ولا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم ، لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان ، ويلبسون الثياب ، ويأكلون المركبات من الأطعمة ، وغاية كل حيوان أن يأكل لحماً نياً ، أو طعاماً غير مركب ، و «الرزق » ، كل ما صح الانتفاع به ، وحكى الطبري عن جماعة أنهم قالوا : «التفضيل » هو أن يأكل بيديه وسائر الحيوان بالفم ، وقال غيره : وأن ينظر من إشراف أكثر من كل حيوان ، ويمشي قائماً ، ونحو هذا من التفضيل ، وهذا كله غير محذق{[7636]} وذلك للحيوان من هذا النوع ما كان يفضل به ابن آدم ، كجري الفرس ، وسمعه ، وإبصاره ، وقوة الفيل ، وشجاعة الأسد وكرم الديك ، وإنما التكريم والتفضيل بالعقل الذي يملك به الحيوان كله ، وبه يعرف الله عز وجل ، ويفهم كلامه ، ويوصل إلى نعيمه ، وقالت فرقة : هذه الآية تقضي بفضل الملائكة على الإنس ، من حيث هم المستثنون ، وقد قال تعالى { ولا الملائكة المقربون }{[7637]} وهذا غير لازم من الآية بل التفضيل بين الإنس والجن لم تعن به الآية ، بل يحتمل أن الملائكة أفضل ، ويحتمل التساوي ، وإنما صح تفضيل الملائكة من مواضعٍ أخر من الشرع .
اعتراض جاء بمناسبة العِبرة والمنة على المشركين ، فاعترض بذكر نعمته على جميع الناس فأشبه التذييل لأنه ذُكر به ما يشمل ما تقدم .
والمراد ببني آدم جميع النوع ، فالأوصاف المثبتة هنا إنما هي أحكام للنوع من حيث هو كما هو شأن الأحكام التي تسند إلى الجماعات .
وقد جمعت الآية خمس مِنن : التكريم ، وتسخير المراكب في البر ، وتسخير المراكب في البحر ، والرزق من الطيبات ، والتفضيل على كثير من المخلوقات .
فأما منة التكريم فهي مزية خص بها الله بني آدم من بين سائر المخلوقات الأرضية .
والتكريم : جعله كريماً ، أي نفيساً غير مبذول ولا ذليل في صورته ولا في حركة مشيه وفي بشرته ، فإن جميع الحيوان لا يعرف النظافة ولا اللباس ولا ترفيه المضجع والمأكل ولا حسن كيفية تناول الطعام والشراب ولا الاستعداد لما ينفعه ودفع ما يضره ولا شعوره بما في ذاته وعقله من المحاسن فيستزيد منها والقبائح فيسترها ويدفعها ، بله الخلو عن المعارف والصنائع وعن قبول التطور في أساليب حياته وحضارته . وقد مثل ابن عباس للتكريم بأن الإنسان يأكل بأصابعه ، يريد أنه لا ينتهش الطعام بفمه بل برفعه إلى فيه بيده ولا يكرع في الماء بل يرفعه إلى فيه بيده ، فإن رفع الطعام بمغرفة والشراب بقدح فذلك من زيادة التكريم وهو تناول باليد .
والحمل : الوضع على المركب من الرواحل . فالراكب محمول على المركوب . وأصله في ركوب البر ، وذلك بأن سخر لهم الرواحل وألهمهم استعمالها .
وأما الحمل في البحر فهو الحصول في داخل السفينة . وإطلاق الحمل على ذلك الحصول استعارة من الحمل على الراحلة وشاعت حتى صارت كالحقيقة ، قال تعالى : { إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية } [ الحاقة : 11 ] . ومعنى حمل الله الناس في البحر : إلهامه إياهم استعمال السفن والقلوع والمجاذيف ، فجعل تيسير ذلك كالحمل .
وأما الرزق من الطيبات فلأن الله تعالى ألهم الإنسان أن يطعَم ما يشاء مما يروق له ، وجعل في الطعوم أمارات على النفع ، وجعل ما يتناوله الإنسان من المطعومات أكثر جداً مما يتناوله غيره من الحيوان الذي لا يأكل إلا أشياء اعتادها ، على أن أقرب الحيوان إلى الإنسية والحضارة أكثرها اتساعاً في تناول الطعوم .
وأما التفضيل على كثير من المخلوقات ، فالمراد به التفضيل المشاهد لأنه موضع الامتنان . وذلك الذي جُماعه تمكين الإنسان من التسلط على جميع المخلوقات الأرضية برأيه وحيلته ، وكفى بذلك تفضيلاً على البقية .
والفرق بين التفضيل والتكريم بالعموم والخصوص ؛ فالتكريم منظور فيه إلى تكريمه في ذاته ، والتفضيل منظور فيه إلى تشريفه فوق غيره ، على أنه فضله بالعقل الذي به استصلاح شؤونه ودفع الأضرار عنه وبأنواع المعارف والعلوم ، هذا هو التفضيل المراد .
وأما نسبة التفاضل بين نوع الإنسان وأنواع من الموجودات الخفية عنا كالملائكة والجن فليست بمقصودة هنا وإنما تعرف بأدلة توقيفية من قِبل الشريعة . فلا تفرض هنا مسألة التفضيل بين البشر والملائكة المختلف في تفاصيلها بيننا وبين المعتزلة . وقد فرضها الزمخشري هنا على عادته من التحكك على أهل السنّة والتعسف لإرغام القرآن على تأييد مذهبه ، وقد تجاوز حد الأدب في هذه المسألة في هذا المقام ، فاستوجب الغضاضة والملام .
ولا شك أن { إقحام لفظ كثير } في قوله تعالى : { وفضلانهم في كثير ممن خلقنا } مراد منه التقييد والاحتراز والتعليم الذي لا غرور فيه ، فيعلم منه أن ثَم مخلوقات غير مفضل عليها بنو آدم تكون مساوية أو أفضل إجمالاً أو تفصيلاً ، وتبيينه يُتلقى من الشريعة فيما بينته من ذلك ، وما سكتت فلا نبحث عنه .
والإتيان بالمفعول المطلق في قوله : { تفضيلاً } لإفادة ما في التنكير من التعظيم ، أي تفضيلاً كبيراً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكرهم النعم، فقال سبحانه: {ولقد كرمنا بني آدم}، يقول: فضلناهم على غيرهم من الحيوان...
ثم قال عز وجل: {وحملناهم في البر} على الرطب، يعني: الدواب،
{و} حملناهم في البر {والبحر}، على اليابس، يعني: السفن،
{من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا} من الحيوان،
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ "بتسليطنا إياهم على غيرهم من الخلق، وتسخيرنا سائر الخلق لهم "وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ" على ظهور الدوابّ والمراكب "و" في "البَحْرِ" في الفلك التي سخرناها لهم "وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ" يقول: من طيبات المطاعم والمشارب، وهي حلالها ولذيذاتها "وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا"...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
كرمهم بأن خلقهم في أحسن صورة؛ كقوله:"وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ"، وقومهم في أحسن تقويم وأحسن قامة؛ كقوله: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ"، وكرمهم بأن ركب فيهم العقول التي بها يعرفون الكرامات من الهوان، ويعرفون بها المحاسن من المساوئ، والحكمة من السفه، والخير من الشر، وكرمهم بأن جعل لهم لسانًا يتكلمون به الحكمة وكل خير، وبه يتوصلون إلى درك الحكمة وجمعها، وكرمهم بأن جعل أرزاقهم أطيب الأرزاق... وكرمهم بأن خلق جميع ما على وجه الأرض لهم؛ كقوله: "خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا"، وكرمهم بأن سخر لهم جميع الخلائق: "وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ"، وجعل بني آدم هم المقصودون بخلق جميع الخلائق ونحوه، وكرمهم حيث جعلهم بحيث يتهيأ لهم استعمال السماء والأرض، واستعمال الشمس والقمر، واستعمال البحار والبراري، وجميع الصعاب والشدائد في حوائجهم ومنافعهم ما لا يتهيأ لغيرهم من الخلائق ذلك؛ فذلك تفضيلهم...
وجائز أن يكون كرم بني آدم؛ لأنه كرم آدم، أو كرم آدم؛ لأنه أسجد ملائكته له... فلما كرم آدم صار بنوه مكرمين -أيضًا- ولهذا نقول بأن الأب يصير مشتومًا بشتم ابنه...
وقوله -عَزَّ وَجَلَّ -: "وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ": هذا تفسير ما ذكر من تكريم بني آدم وتفضيله إياهم، ثم يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: أن جعل لهم البر والبحر مسخرين؛ حتى يصلوا إلى ما في باطن البحر وظاهره من أنواع المال والمنافع. وكذلك البر سخر لهم حتى يصلوا إلى ما في باطنه من الأموال والمنافع وظاهره.
والثاني: أن جعلهم بحيث يقضون حوائجهم التي كانت لهم من وراء البحر ووراء البر- ما لم يجعل ذلك لغيرهم من الخلائق -قضاء الحوائج من ورائهما، وذلك معنى تفضيلهم الذي ذكر، ثم ما ذكر على أثر قوله: "كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ"، هو تفسير تفضيله وإكرامه؛ حيث قال: "وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ".
وجائز أن يكون ما ذكر من تكريم بني آدم وتفضيله إياهم- هو ما جعل فيهم من الأنبياء والرسل والأتقياء والأخيار منهم -ما لم يجعل ذلك من غيرهم...
وقوله: "وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ": هو ما ذكرنا: أن جعل أرزاقهم وغذاءهم ما بلغ في الطيب غايته، ولا كذلك غذاء غيرهم من الدواب ورزقهم؛ لأنهم لا يأكلون إلا بعد أن يستخرجوا منه ما فيه من أذى وخبث وخشونة من النخالة وغيرها، وفي الطبخ والنضج حتى يبلغ في الطيب واللين غايته، وأمَّا غيرهم من الدواب فإنما يأكلون كما هو نيئًا غير مطبوخ ولا نضيج، وفيه من الخبث والأذى.
"وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا"
أما بعض أهل التأويل فإنه قال: فضلناهم على كثير ممن خلقنا: على الجن والشياطين، وأصحابهم غير الملائكة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: على كثير ممن خلقنا: من الحيوان والدواب...
ويحتمل "عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا": ممن على وجه الأرض من الجن وغيرهم؛ لما لم يرسل إلى الجن رسول منهم، ولا أنزل عليهم كتابا على حدة...
وأمّا الكلام في تفضيل البشر على الملائكة والملائكة على البشر- فإنا لا نتكلم في شيء من ذلك؛ لما لا نعلم ذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة؛ فالأمر فيه إلى اللَّه في تفضيل هَؤُلَاءِ على هَؤُلَاءِ، وهَؤُلَاءِ على هَؤُلَاءِ، ليس إلينا من ذلك شيء...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
فكان من أعظم ما شرفه به وكرمه العقل الذي تنبه به على البهجة وألحقه بسببه بعالم الملائكة، حتى تأهل به لمعرفة بارئه ومبدعه بالنظر في مخلوقاته واستدلاله على معرفة صفاته بما أودعه في نفسه من حكمة وأمانة، قال الله العظيم: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}... لا كرامة ولا مكرمة إلا وهي صادرة منه سبحانه.. والكرامة فائضة منه على خلقه، وضنون إكرامه خلقه لا تكاد تنحصر وتتناهى...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قيل في تكرمة ابن آدم: كرّمه الله بالعقل، والنطق، والتمييز، والخط، والصورة الحسنة والقامة المعتدلة، وتدبير أمر المعاش والمعاد. وقيل بتسليطهم على ما في الأرض وتسخيره لهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وهذه الآية، عدد الله تعالى فيها على بني آدم ما خصهم به من بين سائر الحيوان، والحيوان والجن هو الكثير المفضول، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول، وحملهم {في البر والبحر}، مما لا يصلح لحيوان سوى بني آدم أن يكون يحمل بإرادته وقصده وتدبيره {في البر والبحر} جميعاً، والرزق {من الطيبات}، ولا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم، لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان، ويلبسون الثياب، ويأكلون المركبات من الأطعمة... وإنما التكريم والتفضيل بالعقل الذي يملك به الحيوان كله، وبه يعرف الله عز وجل، ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه،...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف، وبه يعرف الله ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله، إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولقد كرمنا} أي بعظمتنا تكريماً عظيماً {بني ءادم} أي على سائر الطين بالنمو، وعلى سائر النامي بالحياة، وعلى سائر الحيوان بالنطق، فكان حذف متعلق التكريم دالاً على عمومه لجميع الخلق، وذلك كله تقديراً للقدرة على البعث... {وفضلناهم} في أنفسهم بإحسان الشكل، وفي صفاتهم بالعلم المنتج لسعادة الدارين، وفي رزقنا لهم بما تقدم... قال لذلك: {على كثير ممن خلقنا} أي بعظمتنا التي خلقناهم بها وأكد الفعل بالمصدر إشارة إلى إعراقهم في الفضيلة فقال تعالى: {تفضيلاً} هذا ما للمجموع، وأما الخلص فهم أفضل الخلائق لما علمنا من معالجتهم بالإخلاص وجهادهم لأهويتهم، لما طبعت عليه نفوسهم من النقائص، ولما لها من الدسائس حتى امتطوا بعد رتبة الإيمان درجتي التقوى والإحسان، وتقديم الأمر للملائكة بالسجود لآدم عليه السلام توطئة لهذه الآية أدل دليل على هذا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك وقد كرم الله هذا المخلوق البشري على كثير من خلقه. كرمه بخلقته على تلك الهيئة، بهذه الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة، فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان!
وكرمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته؛ والتي استأهل بها الخلافة في الأرض، يغير فيها ويبدل، وينتج فيها وينشئ، ويركب فيها ويحلل، ويبلغ بها الكمال المقدر للحياة.
وكرمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض وإمداده بعون القوى الكونية في الكواكب والأفلاك.
وكرمه بذلك الاستقبال الفخم الذي استقبله به الوجود، وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة ويعلن فيه الخالق جل شانه تكريم هذا الإنسان!
وكرمه بإعلان هذا التكريم كله في كتابه المنزل من الملأ الأعلى الباقي في الأرض.. القرآن. "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا"..
"وحملناهم في البر والبحر "والحمل في البر والبحر يتم بتسخير النواميس وجعلها موافقة لطبيعة الحياة الإنسانية وما ركب فيها من استعدادات، ولو لم تكن هذه النواميس موافقة للطبيعة البشرية لما قامت الحياة الإنسانية، وهي ضعيفة ضئيلة بالقياس إلى العوامل الطبيعية في البر والبحر. ولكن الإنسان مزود بالقدرة على الحياة فيها، ومزود كذلك بالاستعدادات التي تمكنه من استخدامها. وكله من فضل الله.
"ورزقناهم من الطيبات".. والإنسان ينسى ما رزقه الله من الطيبات بطول الألفة فلا يذكر الكثير من هذه الطيبات التي رزقها إلا حين يحرمها. فعندئذ يعرف قيمة ما يستمتع به، ولكنه سرعان ما يعود فينسى.. هذه الشمس. هذا الهواء. هذا الماء. هذه الصحة. هذه القدرة على الحركة. هذه الحواس. هذا العقل... هذه المطاعم والمشارب والمشاهد... هذا الكون الطويل العريض الذي استخلف فيه، وفيه من الطيبات ما لا يحصيه.
"وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا".. فضلناهم بهذا الاستخلاف في ملك الأرض الطويل العريض. وبما ركب في فطرتهم من استعدادات تجعل المخلوق الإنساني فذا بين الخلائق في ملك الله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والتكريم: جعله كريماً، أي نفيساً غير مبذول ولا ذليل في صورته ولا في حركة مشيه وفي بشرته، فإن جميع الحيوان لا يعرف النظافة ولا اللباس ولا ترفيه المضجع والمأكل ولا حسن كيفية تناول الطعام والشراب ولا الاستعداد لما ينفعه ودفع ما يضره ولا شعوره بما في ذاته وعقله من المحاسن فيستزيد منها والقبائح فيسترها ويدفعها، بله الخلو عن المعارف والصنائع وعن قبول التطور في أساليب حياته وحضارته... والحمل: الوضع على المركب من الرواحل. فالراكب محمول على المركوب. وأصله في ركوب البر، وذلك بأن سخر لهم الرواحل وألهمهم استعمالها... وأما الحمل في البحر فهو الحصول في داخل السفينة. وإطلاق الحمل على ذلك الحصول استعارة من الحمل على الراحلة وشاعت حتى صارت كالحقيقة... ومعنى حمل الله الناس في البحر: إلهامه إياهم استعمال السفن والقلوع والمجاذيف، فجعل تيسير ذلك كالحمل... والفرق بين التفضيل والتكريم بالعموم والخصوص؛ فالتكريم منظور فيه إلى تكريمه في ذاته، والتفضيل منظور فيه إلى تشريفه فوق غيره، على أنه فضله بالعقل الذي به استصلاح شؤونه ودفع الأضرار عنه وبأنواع المعارف والعلوم، هذا هو التفضيل المراد... وأما نسبة التفاضل بين نوع الإنسان وأنواع من الموجودات الخفية عنا كالملائكة والجن فليست بمقصودة هنا وإنما تعرف بأدلة توقيفية من قِبل الشريعة... والإتيان بالمفعول المطلق في قوله: {تفضيلاً} لإفادة ما في التنكير من التعظيم، أي تفضيلاً كبيراً...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
في الربع الماضي أشار كتاب الله إلى ما لإبليس من حقد دفين على الإنسان، وعقدة نفسية تجاه ما أكرمه الله به من المزايا والخصائص، وحكى عن إبليس قوله مخاطبا الذات العلية، وهو يتحرق غيظا وكمدا من أجل تكريم الله للإنسان: {قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي} [الآية: 62]. وفي بداية هذا الربع تولى كتاب الله الإعلان عن حقيقة "تكريم الإنسان "بأصرح وأفصح وأقوى بيان، فكان هذا الإعلان الإلهي تحديا صارخا لإبليس وحزبه من طغاة بني الإنسان، الذين استبدوا به واستعبدوه قرونا طوالا...
كل ما في الوجود مسخر لكم من قبل أن توجدوا؛ لأن خلق الله تعالى إما خادم وإما مخدوم، وأنت أيها الإنسان مخدوم من كل أجناس الكون حتى من الملائكة... وهكذا كان لكل واحد منهم ملحظ في التكريم. ولنا في مسألة التكريم هذه ملحظ كنت أود أن يلتفت إليه العلماء، ألا وهو: أن الحق سبحانه خلق الكون كله بكلمة (كن) إلا آدم، فقد خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، قال تعالى: {يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} (سورة ص 75). وقال: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} (سورة الحجر 29): فقمة الفضل والتكريم أن خلق الله تعالى أبانا آدم بيده، بدليل أن الله جعلها حيثية له...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ولم يكن آدم بشخصه موضعاً لهذا التكريم الإلهي، في حفلة الخلق الأولى، وفي حركة الوجود بعد ذلك، وفي امتداده في نطاق الزمن، بل كان آدم الإنسان النوع، في كل مظاهره النوعية وخصائصه الإنسانية؛ من العقل والعلم والقدرة على التنوع في الحركة في مجالات النمو والإبداع، هو سر هذا التكريم...
إنه سيّد الأرض، وحامل الرسالة، ومستودع علم الله الذي يريد للإنسان أن يحمله، وخليفته في إدارة النظام الكوني، بالمقدار الذي يستطيع معه أن يستوعب أسراره، ويملك حركته. وذلك هو الفرق بين الإنسان وبين الحيوان الذي يملك الحياة ويمارس بعض الدور فيها، ولكنه غير قادرٍ على التطوير والتنويع والحركة، لأنه خاضعٌ في حياته للفطرة الذاتية التي تتحرك وتقف بحساب دقيق، دون أن يملك القدرة على الخروج من هذه الدائرة، بل هو في كل حياته خاضعٌ للإنسان، مسخّرٌ له، وواقعٌ في أغلب مجالاته تحت سلطته... أمَّا الجن، فقد يملك بعض الخصائص العقلية، التي نعرفها من خلال مسؤوليته أمام الله عن الإيمان وعن الحركة في اتجاهه، ولكنه على ما يبدو لا يملك هذا النوع من القدرة على الإبداع الذاتي، أو الاختزان الروحي للمسؤولية، ولذا كان الإنسان هو الرسول الذي أرسله الله من أجل أن يهديه ويرشده ويخطط له طريق الهدى، كما حدثنا القرآن عن ذلك في سورة الجن... وقد يخطر في البال، أن لا يكون هذا الإعلان عن تكريم الله لبني آدم مجرد حديث عما أفاض الله على الإنسان من ألطاف التكريم التكويني في طبيعته ودوره في الحياة، بل يتعدّاه إلى الخط التشريعي الذي يوحي بكرامة الإنسان كأصلٍ من أصول النظرة القرآنية إليه، بحيث تؤكد كل تصرّف يكرّس كرامته، وترفض كل ما يؤدي إلى إهانته من موقعه الإنساني، بعيداً عن العناوين الثانوية التي قد تجيز إهانته والتعدي على حرمته، على أساس بعض الأوضاع أو الصفات أو الانتماءات المنحرفة عن خط الله... فتكون لنا من خلال ذلك قاعدةٌ شرعيةٌ، هي احترام الإنسان في نفسه وماله وعرضه، كأصلٍ إسلاميٍّ فقهيٍّ، لا يجوز الخروج عنه إلا بعنوانٍ آخر مخصّصٍ له... أمّا ما ثبت في الشرع من جواز التعدّي على أنفس بعض الناس وأموالهم وأعراضهم، فلأنهم أهدروا احترام إنسانيتهم بالانحراف عن الخط، الذي أراد الله لهم أن يحترموا أنفسهم ودورهم فيه، فابتعدوا عن مواقع الكرامة باختيارهم، فلا مجال لاحترامهم بعد ذلك...
{وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فسخرنا لهم قطع البراري والقفار، وتسلق الجبال، وركوب البحار بالوسائل التي أعدّها الله للركوب، أو التي ألهم الإنسان لمعرفتها والقيام بصنعها، للتخفيف من عناء التنقل وحمل الأثقال، واختصار الزمن، والوصول إلى الغايات الكبرى في الحياة من أقرب طريق. وهذا مظهر حيٌّ من مظاهر تكريم الله للإنسان، لأنه لا يريد له الوقوع في الجهد والمشقّة التي تثقل وضعه وتعطّل كثيراً من حركته في الوجود... والظاهر أن كلمة التكريم واردة على أساس النظرة إلى طبيعة الخصائص الذاتية التي خلقها الله فيه، باعتبارها مظهراً لكرامة الله وإعزازه له، بعيداً عن تفضيله على غيره، إذ لا مانع من أن يكرم الله غيره بما أكرمه به أو بما يماثله في ذلك. أما التفضيل، فهو ناظر إلى المقارنة بين ما وهبه الله له وبين ما وهبه لغيره لإثبات جانب الامتياز فيه، وبذلك كان أحدهما يكمّل الآخر في المعنى، ولا يكتفي بتأكيده له...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الإِنسان سيِّد الموجودات: إِنَّ واحدة مِن أبرز طرق الهداية والتربية، هي التنويه بشخصية الإِنسان وَمكانته وَمواهبه، لذا فإِنَّ القرآن الكريم وَبعد بحوثه عن المشركين والمنحرفين في الآيات السابقة، يقوم هُنا بتبيان الشخصية الممتازة للإِنسان والمواهب التي منحها إِيّاها ربّ العالمين، لكي لا يلوّث الإِنسان جوهره الثمين، وَلا يبيع نفسهُ بثمن بخس، حيث يقول تعالى (وَلقد كرَّمنا بني آدم).
ثمّ تشير الآيات القرآنية إلى ثلاثة أقسام مِن المواهب الإِلهية التي حباها الله لبني البشر، هَذِهِ المواهب هي أوّلا: (وَحملناهم في البر والبحر). ثمّ قوله تعالى: (ورزقناهم مِن الطيبات) و مع الالتفات إلى سعة مفهوم (الطيب) الذي يشمل كل موجود طيب وطاهر تتّضح عظمة وشمولية هذه النعمة الإِلهية الكبيرة. أمّا القسم الثّالث مِن المواهب فينص عليه قوله تعالى: (وَفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)...
والبعض يربط ذلك بالأصابع التي يستطيع الإِنسان القيام بواسطتها بمختلف الأعمال الدقيقة، وأيضاً تمنحهُ القدرة على الكتابة... إِنَّ الإِنسان لهُ امتيازات كثيرة على باقي المخلوقات، وَهَذِهِ الامتيازات الواحدة منها أعظم مِن الأُخرى؛ فمضافاً إلى الامتيازات الجسمية، فإِنَّ روح الإِنسان لها مجموعة واسعة مِن الاستعدادات والقدرات الكبيرة التي تؤهلُهُ لطي مسيرة التكامل بشكل غير محدود... الفرق بين (كرَّمنا) و (فضَّلنا) هُناك آراء كثيرة حول التفاوت بين (كرَّمنا) وَ (فَضَّلنا) فالبعض يقول: إنّ (كرّمنا) هي إِشارة إلى المواهب التي أعطاها الله ذاتاً للإِنسان، بينما (فضَّلنا) إِشارة إلى الفضائل التي اكتسبها الإِنسان بسبب توفيق الله. هُناك احتمال قوي بأنّ (كرّمنا) إشارة إلى الجوانب المادية، أمّا (فضّلنا) فهي إشارة إلى المواهب المعنوية، لأنَّ كلمة (فضَّلنا) غالباً ما تأتي في القرآن بهذا المعنى...
هل إنَّ كلمة (بني آدم) في الآية تنطبق على جميع البشر أم على قسم مِنهم؟ يمكن تلخيص الإِجابة على هذا السؤال في جملة واحدة هي: نعم جميع البشر أفضل، وَلكن بالقوة والاستعداد، يعني أنّ الجميع يملك الأرضية ليكون أفضل، وَلكنَّهم إِذا لم يستفيدوا مِن هَذِهِ الأرضية والقابلية المودعة فيهم، وسقطوا في الهاوية، فإنَّ ذلك يكون بسببهم وَيعود عليهم فقط... وَبالرغم مِن أنَّ أفضلية الإِنسان هي في المجالات المعنوية والإِنسانية، وَلكن بعض العلماء ذكر أنَّ الإِنسان قد يكون أقوى من سائر الإحياء حتى من جهة القوّة الجسمية بالرغم مِن أنَّهُ يعتبر ضعيفاً في مناحي أُخرى. «الكسيس كاريل» مؤلف كتاب (الإِنسان ذلك المجهول) يقول في كتابه واصفاً قدرات الإِنسان: «اِنّ جسم الإِنسان مِن المتانة والإحكام والدّقة بحيث أنَّهُ يقاوم كل أشكال التعب والعقبات التي يتعرض لها الوجود الإِنساني مِن قلّة غذاء؛ وَسهر وَتعب، وهموم زائدة، وأشكال المرض والألم والمعاناة، وَهو في ثباته وَمقاومته للأشكال الآنفة يبدي استعداداً استثنائياً يبعث على الحيرة والعجب، حتى إنّنا نستطيع أن نقول: إِنَّ الوجود الإِنساني في تكوينه الروحي والجسدي هو أثبت الموجودات مِن ذوي الأرواح وأكثرها نشاطاً واستعداداً في مضمار الفاعلية الفكرية والجسدية التي يتضمّنها والتي أدَّت إلى تشييد المدنية الراهنة بكل مظاهرها»...