السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{۞وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا} (70)

ثم إنّ الله تعالى ذكر نعمة أخرى رفيعة جليلة على الإنسان وذكر فيها أربعة أنواع : النوع الأول : قوله تعالى : { ولقد كرّمنا } أي : بعظمتنا تكريماً عظيماً { بني آدم } وحذف متعلق التكريم فلذا اختلف المفسرون فيه فقال ابن عباس : كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم فإنه يأكل بيده . وعن الرشيد أنه حضر طعاماً عنده فدعاه بالملاعق وعنده أبو يوسف فقال له : جاء في تفسير جدّك ابن عباس { ولقد كرّمنا بني آدم } جعلنا لهم أصابع يأكلون بها فأحضرت الملاعق فردّها وأكل بأصابعه . وروي عن ابن عباس أنه قال : بالعقل . وقال الضحاك : بالنطق والتمييز . وقيل على سائر الطين بالنموّ ، وعلى النامي بالحياة وعلى سائر الحيوان بالنطق . وقال عطاء : بتعديل القامة وامتدادها والدواب منكسة على وجوهها . قال بعضهم : وينبغي أن يشترط مع هذا شرط وهو طول القامة مع استكمال القوّة العقلية والحسية والحركية وإلا فالأشجار أطول قامة من الإنسان قيل الرجال باللحى والنساء بالذوائب . وقيل بأن سخر لهم سائر الأشياء وقيل بأنّ منهم خير أمّة أخرجت للناس . وقيل بحسن الصورة . قال تعالى : { وصوّركم فأحسن صوركم } [ غافر ، 64 ] . ولما ذكر الله تعالى خلقة الإنسان وهي { ولقد خلقنا الإنسان } [ الحجر ، 26 ] الآية قال : { فتبارك الله أحسن الخالقين } [ المؤمنون ، 14 ] . قال الرازي : فإن شئت فتأمّل عضواً واحداً من أعضاء الإنسان وهي العين فخلق الحدقة سوداء ثم أحاط بذلك السواد بياض العين ، ثم أحاط بذلك البياض سواد الأشفار ثم أحاط بذلك السواد بياض الأجفان ثم خلق فوق بياض الجفن سواد الحاجبين ، ثم خلق فوق ذلك السواد بياض الجبهة ثم خلق فوق ذلك البياض سواد الشعر . وليكن هذا المثال الواحد أنموذجاً لك في هذا الباب انتهى .

واستدل أيضاً لشرف الإنسان بأنّ الموجود إمّا أن يكون أزلياً وأبدياً وهو الله تعالى وإمّا أن لا يكون لا أزلياً ولا أبدياً وهو عالم الدنيا مع كل ما فيه من المعادن والنبات والحيوان وهذا أحسن الأقسام وإمّا أن يكون أزلياً ولا يكون أبدياً وهذا ممتنع الوجود لأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه ، وإمّا أن لا يكون أزلياً ولكنه يكون أبدياً وهو الإنسان والملك ولا شك أنّ هذا القسم أشرف من الثاني والثالث وذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر المخلوقات .

النوع الثاني : قوله تعالى : { وحملناهم في البرّ } على الدوابّ وغيرها { و } في { البحر } على السفن وغيرها ، من حملته حملاً إذا جعلت له ما يركبه أو حملناهم فيهما حتى لم نخسف بهم الأرض ولم نغرقهم في الماء .

النوع الثالث : قوله تعالى : { ورزقناهم من الطيبات } أي : المستلذات من الثمرات والأقوات ، وذلك لأنّ الأغذية إمّا حيوانية وإمّا نباتية وكلا القسمين فإنّ الإنسان إنما يتغذى بألطف أنواعها وأشرف أقسامها بعد التنقية التامّة والطبخ الكامل والنضج البالغ وذلك مما لا يحصل إلا للإنسان .

النوع الرابع : قوله تعالى : { وفضلناهم } في أنفسهم بإحسان الشكل وفي صفاتهم بالعلم المنتج لسعادة الدارين { على كثير ممن خلقنا } أي : بعظمتنا التي خلقناهم بها . وأكد الفعل بالمصدر إشارة إلى إعراقهم في الفضيلة فقال تعالى : { تفضيلاً } .

تنبيه : ظاهر الآية يدل على فضلهم على كثير من خلقه لا على الكل . وقال قوم : فضلوا على جميع الخلق إلا على الملائكة . وهو قول ابن عباس واختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في بسيطه . وقال الكلبي : فضلوا على جميع الخلائق كلهم إلا على طائفة من الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وأشباههم . وقال قوم : فضلوا على جميع الخلق وعلى جميع الملائكة كلهم وقد يوضع الأكثر موضع الكل كقوله تعالى : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين } [ الشعراء ، 221 ] إلى قوله تعالى : { وأكثرهم كاذبون } [ الشعراء : 222 ]

أي : كلهم .

وروى جابر يرفعه قال : «لما خلق الله تعالى آدم وذرّيته قالت الملائكة : يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة . فقال تعالى : لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه روحي كمن قلت له كن فكان » . والأولى كما قاله بعض المفسرين كالبغوي وابن عادل أن يقال عوامّ الملائكة أفضل من عوام المؤمنين ، وخواص المؤمنين أفضل من خواص الملائكة . قال تعالى : { إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية } [ البينة ، 7 ] . وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : المؤمن أكرم على الله من الملائكة عنده . رواه البغوي ورواه الواحدي في بسيطه . فإن قيل : قال تعالى في أوّل الآية : { ولقد كرّمنا بني آدم } وقال في آخرها : { وفضلناهم } فلا بدّ من الفرق بين التكريم والتفضيل وإلا لزم التكرار ؟ أجيب : بأنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية كالعقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة ثم أنه سبحانه وتعالى عرّضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة .