الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{۞وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا} (70)

فيه ثلاث مسائل{[10315]} :

الأولى : قوله تعالى : " ولقد كرمنا بني آدم " الآية . لما ذكر من الترهيب ما ذكر بين النعمة عليهم أيضا . " كرمنا " تضعيف كرم ، أي جعلنا لهم كرما أي شرفا وفضلا . وهذا هو كرم نفي النقصان لا كرم المال . وهذه الكرامة يدخل فيها خلقهم على هذه الهيئة في امتداد القامة وحسن الصورة ، وحملهم في البر والبحر مما لا يصح لحيوان سوى بني آدم أن يكون يتحمل بإرادته وقصده وتدبيره . وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس ، وهذا لا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم ؛ لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان ، ويلبسون الثياب ويأكلون المركبات من الأطعمة . وغاية كل حيوان يأكل لحما نيئا أو طعاما غير مركب . وحكى الطبري عن جماعة أن التفضيل هو أن يأكل بيده وسائر الحيوان بالفم . وروي عن ابن عباس ، ذكره المهدوي والنحاس ، وهو قول الكلبي ومقاتل ، ذكره الماوردي . وقال الضحاك : كرمهم بالنطق والتمييز . عطاء : كرمهم بتعديل القامة وامتدادها . يمان : بحسن الصورة . محمد بن كعب : بأن جعل محمدا صلى الله عليه وسلم منهم . وقيل : أكرم الرجال باللحى والنساء بالذوائب . وقال محمد بن جرير الطبري : بتسليطهم على سائر الخلق ، وتسخير سائر الخلق لهم . وقيل : بالكلام والخط . وقيل : بالفهم والتمييز . والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف ، وبه يعرف الله ويفهم كلامه ، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله ، إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب . فمثال الشرع الشمس ، ومثال العقل العين ، فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء . وما تقدم من الأقوال بعضه أقوى من بعض . وقد جعل الله في بعض الحيوان خصالا يفضل بها ابن آدم أيضا ؛ كجري الفرس وسمعه وإبصاره ، وقوة الفيل وشجاعة الأسد وكرم الديك . وإنما التكريم والتفضيل بالعقل كما بيناه . والله أعلم .

الثانية : قالت فرقة : هذه الآية تقتضي تفضيل الملائكة على الإنس والجن من حيث إنهم المستثنون في قوله تعالى : " ولا الملائكة المقربون{[10316]} " [ النساء : 171 ] . وهذا غير لازم من الآية ، بل التفضيل فيها بين الإنس والجن ، فإن هذه الآية إنما عدد الله فيها على بني آدم ما خصهم به من سائر الحيوان ، والجن هو الكثير المفضول ، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول ، ولم تتعرض الآية لذكرهم ، بل يحتمل أن الملائكة أفضل ، ويحتمل العكس ، ويحتمل التساوي ، وعلى الجملة فالكلام لا ينتهي في هذه المسألة إلى القطع . وقد تحاشى قوم من الكلام في هذا كما تحاشوا من الكلام في تفضيل بعض الأنبياء على بعض ؛ إذ في الخبر ( لا تخايروا بين الأنبياء ولا تفضلوني على يونس بن متى ) . وهذا ليس بشيء ؛ لوجود النص في القرآن في التفضيل بين الأنبياء . وقد بيناه في " البقرة " {[10317]} ومضى فيها الكلام في تفضيل الملائكة والمؤمن{[10318]} .

الثالثة : قوله تعالى : " ورزقناهم من الطيبات " يعني لذيذ المطاعم المشارب . قال مقاتل : السمن والعسل والزبد والتمر والحلوى ، وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم من التبن والعظام وغيرها . " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " أي على البهائم والدواب والوحش والطير بالغلبة والاستيلاء ، والثواب والجزاء والحفظ والتمييز وإصابة الفراسة .

الرابعة : هذه الآية ترد ما روي عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( احرموا أنفسكم طيب الطعام فإنما قوي الشيطان أن يجري في العروق منها ) . وبه يستدل كثير من الصوفية في ترك أكل الطيبات ، ولا أصل له ؛ لأن القرآن يرده ، والسنة الثابتة بخلافه ، على ما تقرر في غير موضع . وقد حكى أبو حامد الطوسي قال : كان سهل يقتات من ورق النبق مدة ، وأكل دقاق ورق التين ثلاث سنين . وذكر إبراهيم بن البنا قال : صحبت ذا النون من إخميم إلى الإسكندرية ، فلما كان وقت إفطاره أخرجت قرصا وملحا كان معي ، وقلت : هلم . فقال لي : ملحك مدقوق ؟ قلت نعم . قال : لست تفلح ! فنظرت إلى مزوده وإذا فيه قليل سويق شعير يسف منه . وقال أبو يزيد : ما أكلت شيئا مما يأكله بنو آدم أربعين سنة . قال علماؤنا : وهذا مما لا يجوز حمل النفس عليه ؛ لأن الله تعالى أكرم الآدمي بالحنطة وجعل قشورها لبهائمهم ، فلا يصح مزاحمة الدواب في أكل التبن ، وأما سويق الشعير فإنه يورث القولنج{[10319]} ، وإذا اقتصر الإنسان على خبز الشعير والملح الجريش فإنه ينحرف مزاجه ؛ لأن خبز الشعير بارد مجفف ، والملح يابس قابض يضر الدماغ والبصر . وإذا مالت النفس إلى ما يصلحها فمنعت فقد قوومت حكمة البارئ سبحانه بردها ، ثم يؤثر ذلك في البدن ، فكان هذا الفعل مخالفا للشرع والعقل . ومعلوم أن البدن مطية الآدمي ، ومتى لم يرفق بالمطية لم تبلغ . وروي عن إبراهيم بن أدهم أنه اشترى زبدا وعسلا وخبز حُوارى ، فقيل له : هذا كله ؟ فقال : إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال ، وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال . وكان الثوري يأكل اللحم والعنب والفالوذج{[10320]} ثم يقوم إلى الصلاة . ومثل هذا عن السلف كثير . وقد تقدم منه ما يكفي في المائدة{[10321]} والأعراف{[10322]} وغيرهما . والأول غلو في الدين إن صح عنهم " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم{[10323]} " [ الحديد :27 ] .


[10315]:يلاحظ أن المسائل أربع.
[10316]:راجع ج ص 26.
[10317]:راجع ج 3 ص 261.
[10318]:راجع ج 1 ص 289.
[10319]:القولنج: مرض معوي مؤلم يعسر معه خروج الثفل والريح، معرب.
[10320]:الفالوذج: حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل.وفيه لغات (عن الألفاظ الفارسية).
[10321]:راجع ج 6 ص 260.
[10322]:راجع ج 7 ص 195.
[10323]:راجع ج 17 ص 262 فما بعد.