غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{۞وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا} (70)

61

ثم أجمل ذكر النعمة بقوله : { ولقد كرمنا بني آدم } وقد ذكر المفسرون في تكريمه وجوهاً منها : الخط فيه يقدر الإنسان على إيداع العلوم التي استنبطها - هو أو غيره - الدفاتر فتبقى على وجه الدهر مصونة عن الاندراس محفوظة عن الانطماس

{ اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم } [ العلق : 3 ، 4 ] ومنها الصورة الحسنة { وصوركم فأحسن صوركم } [ غافر : 64 ] ، ومنها القامة المعتدلة { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [ التين : 4 ] ومنها أن كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم . يحكى عن الرشيد أنه حضر لديه طعام فأحضرت الملاعق - وعنده أبو يوسف - فقال له : جاء في تفسير جدك ابن عباس هذا التكريم هو أنه جعل لهم أصابع يأكلون بها فرد الملاعق وأكل بأصابعه . ومنها ما قال الضحاك : إنه النطق والتمييز فإن الإنسان يمكنه تعريف غيره كل ما عرفه بخلاف سائر الحيوان ، ويدخل الأخرس في هذا الوصف لأنه يعرف بالإشارة أو الكتابة ، ويخرج الببغاء ونحوه لأنه لا يقدر على تعريف جميع الأحوال على الكمال . ومنها تسليطهم على ما في الأرض وتسخيره لهم ، فالأرض لهم كالأم الحاضنة { منها خلقناكم وفيها نعيدكم } [ طه : 55 ] وهي لهم فراش ومهاد ، والماء ينتفعون به في الشرب والزراعة والعمارة وماء البحر ينتفع به في التجارة واستخراج الحلي منه ، والهواء مادة الحياة ولولا هبوب الرياح لاستولى النتن على المعمورة ، والنار ينتفع بها في الطبخ والإنضاج ودفع البرد وغير ذلك ، وانتفاعهم بالمركبات المعدنية والنباتية والحيوانية ظاهر . وبالجملة فهذا العالم بأسره كقرية معمورة أو خوان معد ، والإنسان فيه كالرئيس المخدوم والملك المطاع ، فأي تكريم يكون أزيد من هذا ؟ ولا شك أن الإنسان - لكونه مستجمعاً للقوة العقلية القدسية وللقوتين الشهوية البهيمية والغضبية السبعية ولقوّتي الحس والحركة الإرادية وللقوى النباتية وهي الاغتذاء والنموّ والتوليد - يكون أشرف مما لم يستجمع الجميع سوى المجردات المحضة . وقال بعضهم : إن هذا التكريم هو أنه تعالى خلق آدم بيده وأبدع غيره بواسطة " كن " . يروى عن زيد بن أسلم أن الملائكة قالت : ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك فأعطنا في الآخرة . فقال : وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له " كن " فكان .

ثم خص بعض أنواع التكريم بالذكر فقال : { وحملناهم في البر والبحر } قال ابن عباس : في البر أي على الخيل والبغال والحمير وفي البحر أي على السفن { ورزقناهم من الطيبات } من كل غذاء نباتي أو حيواني ألطفه وأذله . واعلم أن التكريم لا يدل على التفضيل لأن تكريم زيد لا ينافي تكريم غيره بأزيد من ذلك ولذلك ختم التكريم بقوله : { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } فسر بعض الأشاعرة الكثير ههنا بمعنى الجميع فشنع عليه جار الله بأنه شجى في الحلق وقذى في العين لبشاعة قول القائل : وفضلناهم على جميع ممن خلقنا . والإنصاف أن كون الكثير مفيداً لمعنى الجميع لا يوجب هذا التشنيع ، لأنه لا يلزم من إفادة اللفظ معنى لفظ آخر بمعنى أنه يرجع الحاصل إلى ذلك بدلالة الالتزام ، أو بحكم العرف أن يوضع ذلك اللفظ موضعه وينطق به على أن التفسير لا يقوم مقام المفسر ألبتة ، لأن هذا معجز دون ذلك فكيف يبقى الذوق بحاله ؟ وأيضاً فالحاصل هو قولنا على جميع من خلقنا لا على جميع ممن خلقنا ، فإن الدعوى هو أن كثيراً من الشيء أقيم مقام كل ذلك الشيء لا كل من ذلك الشيء حتى تلزم البشاعة من قبل الجمع بين لفظي الكل و " من " التبعيضية . هذا وإن الحق في المسألة هو إجراء الكلام على ظاهره ، وإن الآية تدل على أنه حصل في مخلوقات الله شيء لا يكون للإنسان تفضيل عليه ، لأنه سبحانه ذكر في هذا الكلام في معرض المدح ، ولو كان الإنسان مفضلاً على الكل لم يقع من الله تعالى الاقتصار على ذكر البعض ، وكل من أثبت هذا القسم قال : إنه هو الملائكة : فلزم القول بأن كل الإنسان ليس أفضل من كل الملائكة بل بعض الملائكة أفضل من أكثر الإنسان وإن كان يوجد في خواص الإنسان من هو أفضل من عوام الملائكة بل من خواصهم ، وإلى هذا ذهب ابن عباس واختاره الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط . وأما أن كل الملائكة أفضل من كل البشر - على ما زعم جار الله وأمثاله - فإنه تحكم محض .

/خ72