تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{۞وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا} (70)

66

70- { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } .

قال النيسابوري : وقد ذكر المفسرون في تكريمه وجوها منها : تعلم الكتابة ؛ فبها يقدر الإنسان على إبداع العلوم التي استنبطها هو أو غيره في الدفاتر ، فتبقى على وجه الدهر مصونة عن الاندراس ، محفوظة عن الانطماس : { اقرأ وربّك الأكرم . الذي علّم بالقلم } . ( العلق : 4 ، 3 ) .

ومنها : الصورة الحسنة : { وصوركم فأحسن صوركم } ، ومنها : القامة المعتدلة : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } ، ومنها : أن كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم .

يحكى عن الرشيد : أنه حضر إليه طعام فأحضرت الملاعق وعنده أبو يوسف ، فقال له : جاء في تفسير جدك ابن عباس : أن هذا التكريم هو أنه جعل لهم أصابع يأكلون بها ؛ فرد الملاعق وأكل بأصابعه ، ومنها : ما قال الضحاك : أنه النطق والتمييز فإن الإنسان يمكنه تعريف غيره كل ما عرفه بخلاف سائر الحيوانات ، ويدخل الأخرس في هذا الوصف لأنه يعرف بالإشارة أو الكتابة ، ويخرج الببغاء ونحوه ؛ لأنه لا يقدر على تعريف جميع الأحوال على الكمال ، ومنها : تسليطهم على ما في الأرض وتسخيره لهم فالأرض كالأم الحاضنة : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم } وهي لهم فرش ومهاد ، والماء ينتفعون به في الشرب والزراعة والعمارة ، وماء البحر ينتفع به في التجارة استخراج الحلي منها ، والهواء مادة الحياة ولولا هبوب الرياح ؛ لاستولى النتن على المعمورة ، والنار ينتفع بها في الطبخ والإنضاج ودفع البرد وغير ذلك ، وانتفاعهم بالمركبات المعدنية والحيوانية ظاهر ، وبالجملة فهذا العالم بأسره كقرية معمورة والإنسان فيه كالرئيس المخدوم والملك المطاع فأي تكريم يكون أزيد من هذا{[435]} .

{ ورزقناهم من الطيبات } . والإنسان ينسى ما رزقه الله من الطيبات بطول الألفة ، فلا يذكر الكثير من هذه الطيبات التي رزقها إلا حين يحرم منها ، فعندئذ يعرف قيمة ما يستمتع به ، ولكنه سرعان ما يعود فينسى . . هذه الشمس ، هذا الهواء ، هذا الماء ، هذه الصحة ، هذه القدرة على الحركة ، هذه الحواس ، هذا العقل ، هذه المطاعم والمشارب والمشاهد ، هذا الكون الطويل العريض الذي استخلف فيه ، وفيه من الطيبات ما لا يحصيه .

{ وفضلناكم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } . أي : فضلناهم على كثير من المخلوقات بالعقل والتفكير تفضيلا عظيما .

ومن التكريم : أن يكون الإنسان قيما على نفسه ، محتملا تبعة اتجاهه وعمله ، فهذه هي الصفة الأولى التي بها كان الإنسان إنسانا . وهي حرية الاتجاه وفردية التبعة ، وبها استخلف في دار العمل ، فمن العدل أن يلقى جزاء اتجاهه وثمرة عمله في دار الحساب{[436]} .


[435]:- تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري 15/64.
[436]:- في ظلال القرآن بقلم: سيد قطب 15/55.