روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{۞وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا} (70)

{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى * ءادَمَ } أي جعلناهم قاطبة برهم وفاجرهم ذوي كرم أي شرف ومحاسن جمة لا يحيط بها نطلق الحصر ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كرمهم سبحانه بالعقل ، وفي رواية بتناولهم الطعام بأيديهم لا بأفواههم كسائر الحيوانات .

وعن الضحاك بالنطق ، وعن عطاء بتعديل القامة وامتدادها ، وعن زيد بن أسلم بالمطاعم واللذات ، وعن يمان بحسن الصورة ، وعن ابن جرير بالتسلط على غيرهم من الخلق وتسخيره لهم ، وعن محمد بن كعب بجعل محمد صلى الله عليه وسلم منهم .

وقيل : بخلق الله تعالى أباهم آدم بيديه ، وقيل : بتدبر المعاش والمعاد ، وقيل : بالخط ، وقيل : باللحية للرجل والذؤابة للمرأة ، وقيل وقيل والكل في الحقيقة على سبيل التمثيل ؛ ومن ادعى الحصر في واحد كابن عطية حيث قال : إنما التكريم بالعقل لا غير فقد ادعى غلطاً ورام شططاً وخالف صريح العقل وصحيح النقل ولذا استدل الإمام الشافعي بالآية على عدم نجاسة الآدمي بالموت { وحملناهم فِى البر والبحر } على أكبار رطبة وأعواد يابسة من الدواب والسفن فهو من حملته على كذا إذا أعطيته ما يركبه ويحمله فالمحمول عليه مقدر بقرينة المقام .

وقيل : المراد من حملهم في البر والبحر جعلهم قارين فيهما بأن لم يخسف بهم الآرض ولم يغرقهم بالماء ، والأول انسب بالتكريم إذ لا يثبت لشيء من الحيوانات سواهم بخلاف الثاني { وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات } أي فنون النعم وضروب المستلذات مما يحصل بصنعهم وبغير صنعهم من المأكولات والملبوسات والمفروشات والمقتنيات وغير ذلك { وفضلناهم } قيل : أي بالتكريم المذكور { على كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } عظيماً ، والمراد أن ذلك مخصوص بهم بالنسبة إلى الكثير فلم يكرم الكثير كما كرموا ، وبحث الإمام في هذا المقام بأنه تعالى قال أولاً : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ } وقال سبحانه هنا : { وفضلناهم } فلا بد من فرق بين التكريم والتفضيل لئلا يلزم التكرار .

والأقرب في ذلك أن يقال : إنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة ثم أنه عز وجل عرضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل فكأنه قيل فضلناهم بالتعريض لاكتساب ما فيه النجاة والزلفى بواسطة ما كرمناهم به من مبادي ذلك فعليهم أن يشكروا ويصرفوا ما خلق لهم لما خلق له فيوحدوا الله تعالى ولا يشركوا به شيئاً ويرفضوا ما هم عليه من عبادة غيره عز وجل ، ويقال نحو هذا على ما سبق أيضاً بقليل تغيير ، وقال الطيبي : قد كرر في الآية ما يبنىء عن غاية المدح من ذكر الكرامة والتفضيل وتسخير الأشياء على سبيل الترقي كأنه قيل : ولقد كرمنا بني آدم بكرامة أبيهم عليه السلام ثم سخرنا لهم الأشياء ورزقناهم من الطيبات ثم فضلناهم تفضيلاً أي تفضيل ولذا عقب بها قوله سبحانه :

{ وَإِذَا قُلْنَا للملائكة اسجدوا } [ الإسراء : 61 ] الخ وهو لبيان كرامة بيهم وما توسطوا بينهما من الآيات كالاستطراد والاعتراض إلى آخر ما قاله ، ويعلم منه دفع التكرار وإن لم يسقه لذلك الغرض ، وفيه تخصيص التكريم ، وكذا فيما قيل إن التكريم بالنعم التي يصح بها التكليف والتفضيل بالتكليف الذي عرضهم به للمنازلة الرفيعة ، والمراد بالكثير من عدا الملائكة عليهم السلام عند الكثير ومنهم الزمخشري وزعم أن الآية صريحة في تفضيل الملك على البشر وشنع على أهل السنة تشنيعاً أقذع فيه .

والحق أنها لا تصلح للاحتجاج على التفضيل المتنازع فيه ، ففي «الكشف » أن الظاهر من سياق الآية أنه حث للإنسان على الشكر وعلى أن لا يشرك به تعالى حيث ذكر ما في البر والبحر من حسن كلاءته سبحانه له وضمن فيه أنه جلا وعلا هداهم إلى الفلك وصنعته وما يترتب عليه من الفوائد في قوله سبحانه : { رَبَّكُمُ الذي * يُزْجِى لَكُمُ الفلك } [ الإسراء : 66 ] الآيات فقال عز وجل : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ } أي هذا النوع من بين سائر الأنواع باصطناعات خصصناهم بها فذكر تعالى منها حملهم في البر والبحر ورزقهم من الطيبات وتفضيلهم على كثير من المخلوقات وهذا التفضيل لا يراد منه عظم الدرجة وزيادة القربة عند الله تعالى وهو المتنازع فيه لأن الحكم للنوع من حيث هو وذكر الله تعالى لذلك موجبات تعم الصالح والطالح فسواء دخل في هذا الكثير الملائكة أو لم يدخل لم يدل على الأفضلية بالمعنى المذكور فلا يصلح لاحتجاج إحدى الطائفتين اه .

ثم إن على فرض أن التفضيل بالمعنى اللمتنازع فيه لا تدل الآية على أن الملك أفضل من البشر إلا بطريق المفهوم وفي حجيته خلاف ، وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لا يقول به على أنه يدل على أنهم فضلوا على الكثير ولم يفضلوا على مقابله وهو يحتمل المساواة وتفضيل المقابلة فليس نصاً في مذهب الزمخشري .

وجعل الطيبي من بيانية كما في قولك بذلت له العريض من جاهي أي فضلناهم على الكثيرين الذين خلقناهم من ذوي العقول كما هو الظاهر من { مِنْ } وهم منحصرون في الملك والجن والبشر فحيث خرج البشر لأن الشيء لا يفضل على نفسه بقي الملك والجن فيكون المراد بيان تفضيل البشر عليهم جميعاً وهو الذي يقتضيه مقام المدح فإن الآية مسوقة له وإذا جعلت للتبعيض كان { مّمَّنْ خَلَقْنَا } بدلاً أي فضلناهم على بعض المخلوقين .

وذكر البعض في هذا المقام يدل على تعظيم المفضل عليه كما قرر في قوله تعالى : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات }

[ البقرة : 253 ] وأي مدح لبني آدم وإثبات للفضل والكرامة بالجملة القسمية إذا جعلوا مفضلين على الجن والشياطين على أن صفة الكثرة إذا جعلت مخصصة لإخراج البعض كانت الملائكة أولى من الجن والشياطين لأنهم هم الموصوفون بالكثرة كما تدل عليه الأخبار الكثيرة كخبر اطيط السماء وخبر نزول قطرات المطر وخبر ما يدخل البيت المعمور في كل يوم من الملائكة إلى غير ذلك ، وإليه ينظر قول صاحب التقريب إنه يحتمل أن يراد بكثير ممن خلقنا الملائكة إذ هم كثير من العقلاء المخلوقين اه .

وتعقب بأن ما ذكره من حمل { مَّنْ خَلَقْنَا } على تعميم ذوي العقول مقبول فإن تفضيلهم على غير ذوي العقول حينئذ آت من طريق مفهوم الموافقة فلا حاجة إلى ارتكاب خلاف الظاهر واعتبار تغليبهم ليعمهم وغيرهم لكن حمل من على البيان غير مقبول فإنه بعيد جداً لأن قيد الكثرة يضيع عليه حمل من على التعميم التغليبي أو الوضعي ولأن استعماله في التبعيض شائع أينما وقع في التنزيل واستعمالات الفصحاء وهو أكثر تعسفاً من حمله على الغاية في قوله تعالى( {[568]} ) : { فامسحوا برؤسكم وأيديكم منه } [ المائدة : 6 ] على ما ذكره الزمخشري فيه وأنه إذا قوبل بشيء آخر دل على القلة في المقابل كما في قوله تعالى : { فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فاسقون } [ الحديد : 26 ] فإنه صرح بأنه يدل على أن الغلبة للفساق للمقابلة . أما ورد ابتداء( {[569]} ) فربما كان الأكثر خلاف ذلك كما في قوله تعالى : { فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ المؤمنين } [ النمل : 15 ] فقوله إن صفة الكثرة إذا جعلت مخصصة الخ كلام لم يصدر عن ثبت ، ولهذه النكتة قال صاحب التقريب : يحتمل دلالة على أنه مرجوح .

هذا ثم إن مسئلة التفضيل مختلف فيها بين أهل السنة ، فمنهم من ذهب إلى تفضيل الملائكة وهو مذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط ، ومنهم من فصل فقال : إن الرسول من البشر أفضل مطلقاً ثم الرسل من الملائكة على من سواهم من البشر والملائكة ثم عموم الملائكة على عموم البشر وهذا ما عليه أصحاب الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة وكثير من الشافعية والأشعرية ، ومنهم من عمم تفضيل الكمل من نوع الإنسان نبياً كان أو ولياً ، ومنهم من فضل الكروبيين من الملائكة مطلقاً ثم الرسل من البشر ثم الكمل منهم ثم عموم الملائكة على عموم البشر .

وهذا ما عليه الإمام الرازي وبه يشعر كلام الغزالي في مواضع عديدة في كتبه ، ومن هذا يعلم أن إطلاق القول بأن أهل السنة يفضلون البشر على الملك ليس على ما ينبغي ، وهذه المسألة ومسألة تفضيل الأئمة ليستا مما يبدع الذاهب إلى أحد طرفيهما على ما في «الكشف » إذ لا يرجع إلى أصل في الاعتقاد ولا يستند إلى قطعي بعد أن يسلم من العطن وما يخل بتعظيم في المسؤلتين لكن المشهور في مسألة تفضيل الأئمة أن القول بخلاف ما استقر عليه رأي أهل السنة ابتداع ومن أنصف قال بما في «الكشف » فهذر الزمخشري على من خالفه محض جهالة إذا لم يكن بتلك الغاية فكيف وهو قد بلغ فيه السفاهة غايتها ومن البذاذة نهايتها وسيري جزاء ذلك .

( ومن باب الإشارة ) :{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ } [ الإسراء : 70 ] الآية قيل كرمهم تعالى بأن خلق أباهم آدم على صورة الرحمن وجعل لهم ذلك بحكم الوراثة وأن الولد سر أبيه وفضلهم على الكثير بأن جعل لهم من النعم ما يستغرق العد وجوز أن يقال : تكريمهم بأن بسط موائد الأنعام لهم وجعل من عداهم طفيلياً ، وتفضيلهم بما ذكر في التكريم أولاً وفيه احتمالات أخر


[568]:- قوله فامسحوا برؤسكم وأرجلكم منه كذا في نسخة المؤلف فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه.
[569]:- قوله وأما ورد ابتداء كذا في نسخة المؤلف ولعله وأما إذا ورد الخ فتأمل.