لطائف الإشارات للقشيري - القشيري  
{۞وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا} (70)

المراد من قوله : { بَنِى ءَادَمَ } هنا المؤمنون لأنه قال في صفة الكفار : { وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِّن مُّكْرِمٍ } [ الحج :18 ] والتكريم التكثير من الإكرام ، فإذا حَرَمَ الكافرَ الإكرامَ . . . فمتى يكون له التكريم ؟

ويقال إنما قال : { كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ } ولم يقل المؤمنين أو العابدين أو أصحاب الاجتهاد توضيحاً بأن التكريم لا يكون مقابلَ فِعْلِ ، أو مُعَلَّلاً بِعِلةٍ ، أو مُسَبّباً باستحقاقٍ يوجب ذلك التكريم .

ومن التكريم أنهم متى شاءوا وقفوا معه على بساط المناجاة .

ومن التكريم أنه على أي وصف كان من الطهارة وغيرها إذا أراد أن يخاطبه خَاطَبَه ، وإذا أراد أن يسأل شيئاً سأله .

ومن التكريم أنه إذا تاب ثم نقض توبته ثم تاب يقبل توبته ، فلو تكرر منه جُرْمُه ثم توبته يضاعف له قبولَه التوبة وعفوَه .

ومن التكريم أنه إذا شَرَعَ في التوبة أَخَذَ بيده ، وإذا قال : لا أعود - يقبل قولَه وإِنْ عَلِمَ أنه ينقض توبته .

ومن التكريم أنه زَيَّنَ ظاهرَهم بتوفيق المجاهدة ، وحَسَّنَ باطنَهم بتحقيق المشاهدة .

ومن التكريم أنه أعطاهم قبل سؤالهم ، وغفر لهم قبل استغفارهم ، كذا في الأثر : " أعطيكم قبل أن تسألوني ، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني " .

ومن تكريم جملتهم أنه قال لهم : { فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة :152 ] ولم يقل ذلك للملائكة ولا للجن .

وكما خَصّ بني آدم بالتكريم خصَّ أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - منهم بتكريم مخصوص ، فمن ذلك قوله تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة :54 ] و { رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } [ المائدة :119 ] وقوله { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ } [ البقرة :165 ] .

ومن التكريم قوله : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً } [ النساء : 110 ]

ومن التكريم ما ألقى عليهم من محبة الخالق حتى أحبوه .

ومن التكريم لقوم توفيقُ صِدْق القَدَم ، ولقوم تحقيقُ علوِّ الهِمَم . قوله : { وَحَمَلْنَاهُمْ فِى البَّرِ وَالبَحْرِ } : سَّخر البحر لهم حتى ركبوا في السفن ، وسَّخر البرَّ لهم حتى قال : { لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ } [ فصلت :37 ] .

ويقال محمولُ الكرامِ لا يقع ، فإنْ وَقَعَ وَجَدَ مَنْ يأخذ بيده .

ويقال الإشارة في حملهم في البرِّ ما أوصل إليهم جهراً ، والإشارة بحديث البحر . ما أفردهم به من لطائف الأحوال سِرَّا .

ويقال لمّا حَمَلَ بنو آدم الأمانة حملناهم في البر ، فَحَمْلٌ هو جزاءُ حَمْلٍ ، حَمْلٌ هو فِعْلُ مَنْ لم يكن وحَمْلٌ هو فَضْلُ من لم يَزَل .

قوله : { وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطيبات } : الرزق الطيب ما كان على ذكر الرازق ؛ فَمَنْ لم يكن غائباً بقلبه ولا غافلاً عن ربَّه استطاب كُلَّ رزقٍ ، وأنشدوا :

يا عاشقي إني سَعِدْتُ شراباً *** لو كان حتى علقماً أو صابا

قوله : { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلْقْنَا تَفْضِيلاً } : أي الذين فضلناهم على خلقِ كثير ، وليس يريد أن قوماً بقوا لم يفضلهم عليهم ، ولكن المعنى أنا فضلناهم على كلِّ مَنْ خَلَقْنا ، وذلك التفضيل في الخِلْقة . ثم فَاضَلَ بين بني آدم في شيء آخر هو الخُلق الحسن ، فَجَمَعهم في الخُلقة - التي يفضلون بها سائر المخلوقات- ومَايَزَ بينهم في الخُلق .

ويقال : { كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ } : هذا اللفظ للعموم ، والمراد منه الخصوص ، وهم المؤمنون ، وبذلك يفضل قومٌ على الباقين ، ففَضَّل أولياءَه على كثير ممن لم يبلغوا استحقاقَ الولاية .

ويقال فضَّلهم بألاَّ ينظروا إلى نفوسهم بعين الاستقرار ، وأن ينظروا إلى أعمالهم بعين الاستصغار .