قوله تعالى : { الم } . قال الكلبي والربيع بن أنس وغيرهما : نزلت هذه الآيات في وفد نجران وكانوا ستين راكباً قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم ، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم ، العاقب ، أمير القوم ، وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه ، واسمه عبد المسيح ، والسيد ، ثمالهم ، وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم . وأبو حارثة بن علقمة وهو أسقفهم وحبرهم ، دخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى العصر ، عليهم ثياب الحبرات ، جبب وأردية في جمال رجال ، وإذا بالحارث بن كعب يقول : ما رأينا وفداً مثلهم ، وقد حانت صلاتهم فقاموا للصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " دعوهم " فصلوا إلى المشرق ، فتكلم السيد والعاقب فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم " أسلما " قالا : قد أسلمنا قبلك ، قال : كذبتما ، يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولداً ، وعبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير ، قالا : إن لم يكن ولداً لله فمن أبوه ؟ وخاصموه جميعاً في عيسى فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه ؟ قالوا بلى ، قال : ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت ؟ وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟ قالوا : بلى ، قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه ؟ قالوا : بلى ، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً ؟ قالوا : لا ، قال : ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؟ قالوا : بلى ، قال : فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علم ؟ قالوا : لا ، قال : فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء ، وربنا لا يأكل ولا يشرب ، قالوا : بلى ، قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ؟ ثم غذي كما يغذى الصبي ؟ ثم كان يطعم ويشرب ويحدث ؟ قالوا : بلى ، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟ فسكتوا ، فأنزل الله تعالى صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها ،
هي مدنية ؛ لأن صدرها{[1]} إلى ثلاث وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران ، وكان قدومهم في سنة تسع من الهجرة ، كما سيأتي بيان ذلك ، إن شاء الله تعالى عند تفسير آية المباهلة منها ، وقد ذكرنا ما ورد في فضلها مع سورة البقرة في أول تفسير [ سورة ] {[2]} البقرة . وقد ذكرنا الحديث الوارد في أن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } و { الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } عند تفسير آية الكرسي ،
وتقدم الكلام على قوله تعالى : { الم } في أول سورة البقرة ، بما أغنى عن إعادته ،
{ الله لا إله إلا هو } إنما فتح الميم في المشهور وكان حقها أن يوقف عليها لإلقاء حركة الهمزة عليها ليدل على أنها في حكم الثابت ، لأنها أسقطت للتخفيف لا للدرج ، فإن الميم في حكم الوقف كقولهم واحد اثنان بإلقاء حركة الهمزة على الدال لا لالتقاء الساكنين ، فإنه غير محذور في باب الوقف ، ولذلك لم تحرك الميم في لام . وقرئ بكسرها على توهم التحريك لالتقاء الساكنين . وقرأ أبو بكر بسكونها والابتداء بما بعدها على الأصل . { الحي القيوم } روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور في البقرة الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، وفي آل عمران الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، وفي طه وعنت الوجوه للحي القيوم " .
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم
هذه السورة مدنية بإجماع فيما علمت{[1]}و ذكر النقاش أن اسم هذه السورة في التوراة طيبة{[2]} .
قد تقدم ذكر اختلاف العلماء في الحروف التي في أوائل السور في أول سورة البقرة ، ومن حيث جاء في هذه السورة { الله لا أله إلا هو الحي القيوم } جملة قائمة بنفسها فتتصور تلك الأقوال كلها في { الم } في هذه السورة ، وذهب الجرجاني في النظم إلى أن أحسن الأقوال هنا أن يكون { الم } إشارة إلى حروف المعجم كأنه يقول : هذه الحروف كتابك أو نحو هذا .
ويدل قوله { الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب } على ما ترك ذكره مما هو خبر عن الحروف قال : وذلك في نظمه مثل قوله تعالى : { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } [ الزمر : 21 ] وترك الجواب لدلالة قوله : { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله }{[2896]} تقديره : كمن قسا قلبه . ومنه قول الشاعر{[2897]} : [ الطويل ]
فَلاَ تَدْفِنُوني إنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ . . . عَلَيْكُمْ ، ولكنْ خامري أمَّ عامِرِ
قال : تقديره ولكن اتركوني للتي يقال لها خامري أم عامر .
قال القاضي رحمه الله : يحسن في هذا القول أن يكون { نزل } خبر قوله { الله } حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى . وهذا الذي ذكره القاضي الجرجاني فيه نظر لأن مثله ليست صحيحة الشبه بالمعنى الذي نحا إليه وما قاله في الآية محتمل ولكن الأبرع في نظم الآية أن يكون { الم } لا يضم ما بعدها إلى نفسها في المعنى وأن يكون { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } كلاماً مبتدأ جزماً جملة رادة على نصارى نجران الذين وفدوا على رسول الله عليه السلام فحاجوه في عيسى ابن مريم وقالوا : إنه الله وذلك أن ابن إسحاق والربيع وغيرهما{[2898]} ممن ذكر السير رووا{[2899]} أن وفد نجران قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نصارى ستون راكباً فيهم من أشرافهم أربعة عشر رجلاً في الأربعة عشر{[2900]} ثلاثة نفر إليه يرجع أمرهم ، والعاقب أمير القوم وذو رأيهم واسمه عبد المسيح ، والسيد ثمالهم{[2901]} وصاحب مجتمعهم واسمه الأيهم ، وأبو حارثة بن علقمة أسد بني بكر بن وائل أسقفهم وعالمهم فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد إثر صلاة العصر عليهم الحبرات{[2902]} جبب وأردية فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما رأينا وفداً مثلهم جمالاً وجلالة ، وحانت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله عليه السلام إلى المشرق فقال النبي عليه السلام : دعوهم ثم أقاموا بالمدينة أياماً يناظرون رسول الله عليه السلام في عيسى ويزعمون أنه الله إلى غير ذلك من أقوال بشعة مضطربة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بالبراهين الساطعة وهم لا يبصرون ، ونزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية إلى أن آل أمرهم إلى أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الابتهال{[2903]} وسيأتي تفسير ذلك .
وقرأ السبعة «المَ الله » بفتح الميم والألف ساقطة ، وروي عن عاصم أنه سكن الميم ثم قطع الألف ، روى الأولى التي هي كالجماعة حفص وروى الثانية أبو بكر ، وذكرها الفراء عن عاصم ، وقرأ أبو جعفر الرؤاسي{[2904]} وأبو حيوة-الم- بكسر الميم للالتقاء{[2905]} وذلك رديء لأن الياء تمنع ذلك والصواب الفتح قراءة جمهور الناس . قال أبو علي : حروف التهجي مبنية على الوقف فالميم ساكنة واللام ساكنة فحركت الميم بالفتح كما حركت النون في قولك : «من الله ومنَ المسلمين » إلى غير ذلك .
قال أبو محمد : ومن قال بأن حركة الهمزة ألقيت على الميم فذلك ضعيف لإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل فيما يسقط فلا تلقى حركته ، قاله أبو علي{[2906]} ، وقد تقدم تفسير قوله : { الحي القيوم } في آية الكرسي ، والآية هنالك إخبار لجميع الناس ، وكررت هنا إخباراً بحجج{[2907]} هؤلاء النصارى ، وللرد عليهم أن هذه الصفات لا يمكنهم ادعاؤها لعيسى عليه السلام لأنهم إذ يقولون إنه صلب فذلك موت في معتقدهم لا محالة إذ من البين أنه ليس بقيوم ، وقرأ جمهور القراء «القيوم » وزنه فيعول ، وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وعلقمة بن قيس «القيام » وزنه - فيعال - وروي عن علقمة أيضاً أنه قرأ «القيم » وزنه فيعل ، وهذا كله من قام بالأمر يقوم به إذا اضطلع بحفظه وبجميع ما يحتاج إليه في وجوده ، فالله تعالى القيام على كل شيء بما ينبغي له أو فيه أو عليه .
سميت هذه السورة ، في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة : سورة آل عمران ، ففي صحيح مسلم ، عن أبي أمامة : قال سمعت رسول الله يقول أقرأوا الزهراوين : البقرة وآل عمران وفيه عن النواس بن سمعان : قال سمعت النبي يقول يؤتى بالقرآن يوم القيامة تقدمه سورة البقرة وآل عمران وروى الدارمي في مسنده : أن عثمان بن عفان قال : من قرأ سورة آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة وسماها ابن عباس ، في حديثه في الصحيح ، قال : بت في بيت رسول الله فنام رسول الله حتى إذا كان نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله فقرأ الآيات من آخر سورة آل عمران . ووجه تسميتها بسورة آل عمران أنها ذكرت فيها فضائل آل عمران وهو عمران بن ماتان أبو مريم وآله هم زوجه حنة وأختها زوجة زكريا النبي ، وزكريا كافل مريم إذ كان أبوها عمران توفي وتركها حملا فكفلها زوج خالتها .
ووصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزهراء في حديث أبي أمامة المتقدم .
وذكر الآلوسي أنها تسمى : الأمان ، والكنز ، والمجادلة ، وسورة الاستغفار . ولم أره لغيره ، ولعله اقتبس ذلك من أوصاف وصفت بها هذه السورة مما ساقه القرطبي ، في المسألة الثالثة والرابعة ، من تفسير أول السورة .
وهذه السورة نزلت بالمدين بالاتفاق ، بعد سورة البقرة ، فقيل ، أنها ثانية لسورة البقرة على أن البقرة أول سورة نزلت بالمدينة ، وقيل : نزلت بالمدينة سورة المطففين أولا ، ثم البقرة ، ثم نزلت سورة آل عمران ، ثم نزلت الأنفال في وقعة بدر ، وهذا يقتضي : أن سورة آل عمران نزلت قبل وقعة بدر ، للاتفاق على أن الأنفال نزلت في وقعة بدر ، ويبعد ذلك أن سورة آل عمران اشتملت على التذكير بنصر المسلمين يوم بدر ، وأن فيها ذكر يوم أحد ، ويجوز أن يكون بعضها نزل متأخرا . وذكر الواحدي في أسباب النزول ، عن المفسرين : أن أول هذه السورة إلى قوله { ونحن له مسلمون } نزل بسبب وفد نجران ، وهو وفد السيد والعاقب ، أي سنة اثنين من الهجرة ، ومن العلماء من قالوا : نزلت سورة آل عمران بعد سورة الأنفال ، وكان نزولها في وقعة أحد ، أي شوال سنة ثلاث ، وهذا أقرب ، فقد أتفق المفسرون على أن قوله تعالى { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال } أنه قتال يوم أحد . وكذلك قوله { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } فإنه مشير إلى الإرجاف يوم أحد بقتل النبي صلى الله عليه وسلم .
ويجوز أن يكون أولها نزل بعد البقرة إلى نهاية ما يشير إلى حديث وفد نجران ، وذلك مقدار ثمانين آية من أولها إلى قوله { وإذ غدوت من أهلك } قاله القرطبي في أول السورة ، وفي تفسير قوله { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } الآية . وقد تقدم القول في صدر سورة الفاتحة : إننا بينا إمكان تقارن نزول السور عدة في مدة واحدة ، فليس معنى قولهم : نزلت سورة كذا بعد سورة كذا ، مرادا منه أن المعدودة نازلة بعد أخرى أنها ابتدئ نزولها بعد نزول الأخرى ، بل المراد أنها ابتدئ نزولها بعد ابتداء نزول التي سبقتها .
وقد عدت هذه السورة الثامنة والأربعين في عداد سور القرآن .
وعدد آيها مائتان في عد الجمهور وعددها عند أهل العدد بالشام مائة وتسع وتسعون .
واشتملت هذه السورة ، من الأغراض : على الابتداء بالتنويه بالقرآن ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وتقسيم آيات القرآن ، ومراتب الأفهام في تلقيها ، والتنويه بفضيلة الإسلام وأنه لا يعدله دين ، وأنه لا يقبل دين عند الله ، بعد ظهور الإسلام ، غير الإسلام ، والتنويه بالتوراة والإنجيل ، والإيماء إلى أنهما أنزلا قبل القرآن ، تمهيدا لهذا الدين فلا يحق للناس أن يكفروا به ، وعلى التعريف بدلائل إلهية الله تعالى ، وانفراده ، وإبطال ضلالة الذين اتخذوا آلهة من دون الله : من جعلوا له شركاء ، أو اتخذوا له أبناء ، وتهديد المشركين بأن أمرهم إلى زوال ، وألا يغرهم ما هم فيه من البذخ ، وأن ما أعد للمؤمنين خير من ذلك ، وتهديدهم بزوال سلطانهم ، ثم الثناء على عيسى عليه السلام وآل بيته ، وذكر معجزة ظهوره ، وأنه مخلوق لله ، وذكر الذين آمنوا به حقا ، وإبطال إلهية عيسى ، ومن ثم أفضى إلى قضية وفد نجران ولجاجتهم ، ثم محاجة أهل الكتابين في حقيقة الحنفية وأنهم بعداء عنها ، وما أخذ الله من العهد على الرسل كلهم : أن يؤمنوا بالرسول الخاتم ، وأن الله جعل الكعبة أول بيت وضع للناس ، وقد أعاد إليه الدين الحنيف كما ابتدأه فيه ، وأوجب حجه على المؤمنين ، وأظهر ضلالات اليهود ، وسوء مقالتهم ، وافترائهم في دينهم وكتمانهم ما أنزل إليهم . وذكر المسلمين بنعمته عليهم بدين الإسلام ، وأمرهم بالاتحاد والوفاق ، وذكرهم بسابق سوء حالهم في الجاهلية ، وهون عليهم تظاهر معانديهم من أهل الكتاب والمشركين ، وذكرهم بالحذر من كيدهم وكيد الذين أظهروا الإسلام ثم عادوا إلى الكفر فكانوا مثلا لتمييز الخبيث من الطيب ، وأمرهم بالاعتزاز بأنفسهم ، والصبر على تلقي الشدائد ، والبلاء ، وأذى العدو ، ووعدهم على ذلك بالنصر والتأييد وإلقاء الرعب منهم في نفوس عدوهم ، ثم ذكرهم بيوم أحد ، ويوم بدر ، وضرب لهم الأمثال بما حصل فيهما ، ونوه ، بشأن الشهداء من المسلمين ، وأمر المسلمين بفضائل الأعمال : من بذل المال في مواساة الأمة ، والإحسان ، وفضائل الأعمال ، وترك البخل ، ومذمة الربا وختمت السورة بآيات التفكير في ملكوت الله .
وقد علمت أن سبب نزول هذه السورة قضية وفد نجران من بلاد اليمن .
ووفد نجران هم قوم من نجران بلغهم مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أهل نجران متدينين بالنصرانية ، وهم من أصدق العرب تمسكا بدين المسيح ، وفيهم رهبان مشاهير ، وقد أقاموا للمسيحية كعبة ببلادهم هي التي أشار إليها الأعشى حين مدحهم بقوله :
فكعبة نجران حتم عليكِ *** حتى تناخي بأبوابها
فاجتمع وفد منهم يرأسه العاقب فيه ستون رجلا وأسمه عبد المسيح ، وهو أمير الوفد ، ومعه السيد واسمه الأيهم ، وهو ثمال القوم وولي تدبير الوفد ، ومشيره وذو الرأي فيه ، وفيهم أبو حارثة بن علقمة البكري وهو أسقفهم وصاحب مدارسهم وولي دينهم ، وفيهم أخو أبي حارثة ، ولم يكن من أهل نجران ، ولكنه كان ذا رتبة : شرفه ملوك الروم ومولوه . فلقوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وجادلهم في دينهم ، وفي شأن ألوهية المسيح ، فلما قامت الحجة عليهم أصروا على كفرهم وكابروا ، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة ، فأجابوا ثم استعظموا ذلك ، وتخلصوا منه ، ورجعوا إلى أوطانهم ، ونزلت بضع وثمانون آية من أول هذه السورة في شأنهم كما في سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق . وذكر ذلك الواحدي والفخر ، فمن ظن من أهل السير أن وفد نجران وفدوا في سنة تسع فقد وهِم وهْمًا انجرَّ إليه من اشتهار سنة تسع بأنها سنة الوفود . والإجماع على أن سورة آل عمران من أوائل المدنيات ، وترجيح أنها نزلت في وفد نجران يعينان أن وفد نجران كان قبل سنة الوفود .
لما كان أول أغراض هذه السورة ، الذي نزلت فيه ، هو قضية مجادلة نصارى نجران حين وفدوا إلى المدينة ، وبيان فضل الإسلام على النصرانِيَّة ، لا جرم افتتحت بحروف التهجّي ، المرموز بها إلى تحدّي المكذّبين بهذا الكتاب ، وكان الحظّ الأوفر من التكذيب بالقرآن للمشركين منهم ، ثم للنصارى من العَرب ؛ لأنّ اليهود الذين سكنوا بلاد العرب فتكلّموا بلسانهم لم يكونوا معدودين من أهل اللسان ، ويندر فيهم البلغاء بالعربية مثلُ السَّمَوْأل ، وهذا وما بعده إلى قوله : { إن الله اصطفى ءادم ونوحا } [ آل عمران : 33 ] تمهيد لِما نزلت السورة بسببه وبراعة استهلال لذلك .