{ فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً } فإنك حينئذ لاحق به .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو النعمان ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فقال بعضهم : لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال : إنه ممن قد علمتم . قال : فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم ، قال : وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني ، فقال : ما تقولون في قوله تعالى : { إذا جاء نصر الله والفتح } حتى ختم السورة ؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا جاء نصرنا وفتح علينا ، وقال بعضهم : لا ندري ، ولم يقل بعضهم شيئاً ، فقال لي : يا ابن عباس ، أكذلك تقول ؟ قلت : لا . قال : فما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه به ، { إذا جاء نصر الله والفتح } فتح مكة ، فذلك علامة أجلك { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً } فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي " ، يتأول القرآن " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثني عبد الأعلي ، حدثنا داود عن عامر ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول : " سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه : ، قالت : فقلت يا رسول الله ، أراك تكثر من قول : " سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه : ؟ فقال : " أخبرني ربي أني سأرى علامةً في أمتي ، فإذا رأيتها أكثر من قول : سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه ، فقد رأيتها : { إذا جاء نصر الله والفتح } فتح مكة ، { ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } " . قال ابن عباس : لما نزلت هذه السورة علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه نعيت إليه نفسه . قال الحسن : أعلم أنه قد اقترب أجله ، فأمر بالتسبيح والتوبة ، ليختم له بالزيادة في العمل الصالح . قال قتادة ومقاتل : عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة سبعين يوما .
فأمر رسوله أن يشكر ربه على ذلك ، ويسبح بحمده ويستغفره ، وأما الإشارة ، فإن في ذلك إشارتين : إشارة لأن يستمر النصر لهذا الدين{[1488]} ، ويزداد عند حصول التسبيح بحمد الله واستغفاره من رسوله ، فإن هذا من الشكر ، والله يقول : { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ } ، وقد وجد ذلك في زمن الخلفاء الراشدين ، وبعدهم في هذه الأمة لم يزل نصر الله مستمرًا ، حتى وصل الإسلام إلى ما لم يصل إليه دين من الأديان ، ودخل فيه ، ما لم يدخل في غيره ، حتى حدث من الأمة من مخالفة أمر الله ما حدث ، فابتلاهم{[1489]} الله بتفرق الكلمة ، وتشتت الأمر ، فحصل ما حصل .
[ ومع هذا ] فلهذه الأمة ، وهذا الدين ، من رحمة الله ولطفه ، ما لا يخطر بالبال ، أو يدور في الخيال .
وأما الإشارة الثانية ، فهي الإشارة إلى أن أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرب ودنا ، ووجه ذلك أن عمره عمر فاضل ، أقسم الله به .
وقد عهد أن الأمور الفاضلة تختم بالاستغفار ، كالصلاة والحج ، وغير ذلك .
فأمر الله لرسوله بالحمد والاستغفار في هذه الحال ، إشارة إلى أن أجله قد انتهى ، فليستعد ويتهيأ للقاء ربه ، ويختم عمره بأفضل ما يجده صلوات الله وسلامه عليه .
فكان صلى الله عليه وسلم يتأول القرآن ، ويقول ذلك في صلاته ، يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : " سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم اغفر لي " .
قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عَوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : كان عمر يُدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وَجَد في نفسه ، فقال :
لم يَْخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال عمر : إنه ممن قد علمتم{[30667]} ، فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم ، فما رُؤيتُ أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليُريهم ، فقال : ما تقولون في قول الله عز وجل : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } ؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نَحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفُتح علينا . وسكت بعضهم فلم يقل شيئًا ، فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت : لا . فقال : ما تقول ؟ فقلت : هو أجلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له ، قال : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } فذلك علامة أجلك ، { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } فقال عمر بن الخطاب : لا أعلم منها إلا ما تقول . تفرد به البخاري{[30668]}
وروى ابن جرير ، عن محمد بن حُمَيد ، عن مِهْران ، عن الثوري ، عن عاصم ، عن أبي رَزِين ، عن ابن عباس ، فذكر مثل هذه القصة ، أو نحوها{[30669]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن فُضَيل ، حدثنا عطاء ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نُعِيَت إليّ نفسي " . . بأنه مقبوض في تلك السنة . تفرد به أحمد{[30670]} .
وروى العوفي ، عن ابن عباس ، مثله . وهكذا قال مجاهد ، وأبو العالية ، والضحاك ، وغير واحد : إنها أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نُعِي إليه .
وقال ابن جرير : حدثني إسماعيل بن موسى ، حدثنا الحسين بن عيسى الحنفي{[30671]} عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن أبي حازم ، عن ابن عباس قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة إذ قال : " الله أكبر ، الله أكبر ! جاء نصر الله والفتح ، جاء أهل اليمن " . قيل : يا رسول الله ، وما أهل اليمن ؟ قال : " قوم رقيقة قلوبهم ، لينة طباعهم ، الإيمان يمان ، والفقه يمان ، والحكمة يمانية " {[30672]}
ثم رواه عن ابن عبد الأعلى ، عن ابن ثور ، عن معمر ، عن عكرمة ، مرسلا .
وقال الطبراني : حدثنا زكريا بن يحيى ، حدثنا أبو كامل الجَحْدَريّ ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن هلال بن خَبَّاب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } حتى ختم السورة ، قال : نُعِيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه حين نزلت ، قال : فأخذ بأشد ما كان قط اجتهادًا في أمر الآخرة . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك : " جاء الفتحُ ونصر الله ، وجاء أهل اليَمن " . فقال رجل : يا رسول الله ، وما أهل اليمن ؟ قال : " قوم رقيقة قلوبهم ، لينة قلوبهم ، الإيمان يمان ، والفقه يَمان " {[30673]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكيع ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رَزين ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد نُعِيت إليه نفسه ، فقيل : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } السورة كلها{[30674]} .
حدثنا وَكيع ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رَزِين : أن عمر سأل ابن عباس عن هذه الآية : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } قال : لما نزلت نُعيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه{[30675]}
وقال الطبراني : حدثنا إبراهيم بن أحمد بن عُمَر الوكيعي ، حدثنا أبي ، حدثنا جَعفر بن عون ، عن أبي العُمَيس ، عن أبي بكر بن أبي الجهم ، عن عُبَيد الله بن عَبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس قال : آخر سورة نزلت من القرآن جميعًا : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } {[30676]} .
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مُرّة ، عن أبي البَختُري الطائي{[30677]} ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لما نزلت هذه السورة : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها ، فقال : " الناس حيز ، وأنا وأصحابي حيز " . وقال : " لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية " . فقال له مَرْوان : كذبت - وعنده رافع بن خَديج ، وزيد بن ثابت ، قاعدان معه على السرير - فقال أبو سعيد : لو شاء هذان لحدثاك ، ولكن هذا يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه ، وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة . فرفع مروان عليه الدرة ليضربه ، فلما رأيا ذلك قالا : صدق {[30678]} .
تفرد به أحمد ، وهذا الذي أنكره مروان على أبي سعيد ليس بمنكر ، فقد ثبت من رواية ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح : " لا هجرة ، ولكن جهاد ونية ، ولكن إذا استنفرتم فانفروا " . أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما{[30679]} .
فالذي فسر به بعض الصحابة من جلساء عمر ، رضي الله عنهم أجمعين ، مِنْ أنه قد أمرنا إذا فتح الله علينا المدائن والحصون أن نحمد الله ونشكره ونسبحه-يعني نصلي ونستغفره - معنى مليح صحيح ، وقد ثبت له شاهد من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وقت الضحى ثماني ركعات ، فقال قائلون : هي صلاة الضحى . وأجيبوا بأنه لم يكن يواظب عليها ، فكيف صلاها ذلك اليوم وقد كان مسافرًا لم يَنْو الإقامة بمكة ؟ ولهذا أقام فيها إلى آخر شهر رمضان قريبًا من تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة ويُفطر هو وجميع الجيش ، وكانوا نحوًا من عشرة آلاف . قال هؤلاء : وإنما كانت صلاة الفتح ، قالوا : فيستحب لأمير الجيش إذا فتح بلدًا أن يصلي فيه أول ما يدخله ثماني ركعات .
وهكذا فعل سعد بن أبي وقاص يوم فتح المدائن ، ثم قال بعضهم : يصليها كلها بتسليمة واحدة . والصحيح أنه يسلم من كل ركعتين ، كما ورد في سنن أبي داود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم يوم الفتح من كل ركعتين .
وأما ما فسر به ابن عباس وعمر ، رضي الله عنهما ، من أن هذه السورة نُعِي فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه{[30680]} الكريمة ، واعلم أنك إذا فتحت مكة - وهي قريتك التي أخرجتك - ودخل الناس في دين الله أفواجًا ، فقد فرغ شغلنا بك في الدنيا ، فتهيأ للقدوم علينا والوفود إلينا ، فالآخرة خير لك من الدنيا ، ولسوف يعطيك ربك فترضى ، ولهذا قال : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } .
قال النسائي : أخبرنا عمرو بن منصور ، حدثنا محمد بن محبوب ، حدثنا أبو عوانة ، عن هلال ابن خباب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } إلى آخر السورة ، قال : نُعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسُه حين أنزلت ، فأخذ في أشدّ ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك : " جاء الفتح ، وجاء نصر الله ، وجاء أهل اليمن " . فقال رجل : يا رسول الله ، وما أهل اليمن ؟ قال : " قوم رقيقة قلوبهم ، لَيِّنة قلوبهم ، الإيمان يَمانٍ ، والحكمة يمانية ، والفقه يمان " {[30681]} .
وقال البخاري : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جَرير ، عن منصور ، عن أبي الضحَى ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي " يتأول القرآن .
وأخرجه بقية الجماعة إلا الترمذي ، من حديث منصور ، به{[30682]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : قالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قول : " سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه " . وقال : " إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي ، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره ، إنه كان توابا ، فقد رأيتها : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا }
ورواه مسلم من طريق داود - وهو ابن أبي هند - به{[30683]} .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو السائب ، حدثنا حفص ، حدثنا عاصم ، عن الشعبي ، عن أم سلمة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ، ولا يذهب ولا يجيء ، إلا قال : " سبحان الله وبحمده " . فقلت : يا رسول الله ، إنك تكثر من سبحان الله وبحمده ، لا تذهب ولا تجيء ، ولا تقوم ولا تقعد إلا قلت : سبحان الله وبحمده ؟ قال : " إني أمرت بها " ، فقال : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } إلى آخر السورة{[30684]} .
غريب ، وقد كتبنا حديث كفارة المجلس من جميع طرقه وألفاظه في جزء مُفرد ، فيكتب هاهنا{[30685]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عُبَيدة ، عن عبد الله قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } كان يكثر إذا قرأها - ورَكَعَ - أن يقول : " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي ، إنك أنت التواب الرحيم " ثلاثا{[30686]} .
تفرد به أحمد . ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه ، عن عمرو بن مُرّة ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، به .
والمراد بالفتح هاهنا فتح مكة قولا واحدًا ، فإن أحياء العرب كانت تَتَلَوّم بإسلامها فتح مكة ، يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبي . فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجًا ، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانًا ، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام ، ولله الحمد والمنة . وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال : لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت الأحياء تَتَلَوّمُ بإسلامها فتح مكة ، يقولون : دعوه وقومه ، فإن ظهر عليهم فهو نبي . الحديث{[30687]} وقد حَرّرنا غزوة الفتح في كتابنا : السيرة ، فمن أراد فليراجعه هناك ، ولله الحمد والمنة .
وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا أبو إسحاق ، عن الأوزاعي ، حدثني أبو عمار ، حدثني جار لجابر بن عبد الله قال : قدمت من سفر فجاءني جابر بن عبد الله ، فسلم عليّ{[30688]} ، فجعلت أحدّثهُ عن افتراق الناس وما أحدثوا ، فجعل جابر يبكي ، ثم قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الناس دخلوا في دين الله أفواجًا ، وسيخرجون منه أفواجًا " {[30689]} .
[ آخر تفسير سورة " إذا جاء نصر الله والفتح " ولله الحمد والمنة ]{[30690]}
{ فسبح بحمد ربك } فتعجب لتيسير الله ما لم يخطر ببال أحد حامدا له ، أو فصل له حامدا على نعمه . روي أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة بدأ بالمسجد ، فدخل الكعبة ، وصلى ثماني ركعات . أو فنزهه تعالى عما كانت الظلمة يقولون فيه ، حامدا له على أن صدق وعده . أو فأثن على الله تعالى بصفات الجلال ، حامدا له على صفات الإكرام .
واستغفره هضما لنفسك واستقصارا لعملك واستدراكا لما فرط منك من الالتفات إلى غيره وعنه عليه صلى الله عليه وسلم إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة وقيل استغفره لأمتك وتقديم التسبيح على الحمد ثم الحمد على الاستغفار على طريق النزول من الخالق إلى الخلق كما قيل ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله إنه كان توابا لمن استغفره مذ خلق المكلفين .
والأكثر على أن السورة نزلت قبل فتح مكة ، وأنه نعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لما قرأها بكى العباس رضي الله عنه ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك " ؟ فقال : نعيت إليك نفسك . فقال : " إنها لكما تقول " ، ولعل ذلك لدلالتها على تمام الدعوة ، وكمال أمر الدين ، فهي كقوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم } ، أو لأن الأمر بالاستغفار تنبيه على دنو الأجل ، ولهذا سميت سورة التوديع . وعنه صلى الله عليه وسلم : " من قرأ سورة ( إذا جاء ) أعطي من الأجر كمن شهد مع محمد صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة " شرفها الله تعالى .
وقوله : { إنه كان تواباً } بعقب و{ استغفره } ترجية عظيمة للمستغفرين ، جعلنا الله منهم . وحكى النقاش عن ابن عباس أن «النصر » صلح الحديبية ، وأن { الفتح } فتح مكة . وقال ابن عمر : نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم بمنى في وسط أيام التشريق في حجة الوداع ، وعاش بعدها ثمانين يوماً ، أو نحوها . صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم .