فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا} (3)

{ فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } هذا جواب الشرط ، وهو العامل فيه ، والتقدير : فسبح بحمد ربك إذا جاء نصر الله . وقال مكي : العامل في «إذا » هو { جاء } . ورجحه أبو حيان وضعف الأوّل بأن ما جاء بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبلها ، وقوله : { بِحَمْدِ رَبّكَ } في محل نصب على الحال ، أي : فقل سبحان الله ملتبساً بحمده ، أو حامداً له . وفيه الجمع بين تسبيح الله المؤذن بالتعجب مما يسره الله له مما لم يكن يخطر بباله ولا بال أحد من الناس ، وبين الحمد له على جميل صنعه له ، وعظيم منته عليه بهذه النعمة التي هي النصر ، والفتح لأمّ القرى التي كان أهلها قد بلغوا في عداوته إلى أعلى المبالغ حتى أخرجوه منها بعد أن افتروا عليه من الأقوال الباطلة ، والأكاذيب المختلفة ما هو معروف من قولهم : هو مجنون ، هو ساحر ، هو شاعر ، هو كاهن ، ونحو ذلك . ثم ضم سبحانه إلى ذلك أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار : أي اطلب منه المغفرة لذنبك هضماً لنفسك ، واستقصاراً لعملك ، واستدراكاً لما فرط منك من ترك ما هو الأولى ،

وقد كان صلى الله عليه وسلم يرى قصوره عن القيام بحق الله ، ويكثر من الاستغفار والتضرّع ، وإن كان قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر . وقيل : إن الاستغفار منه صلى الله عليه وسلم ومن سائر الأنبياء هو تعبد تعبدهم الله به ، لا لطلب المغفرة لذنب كائن منهم . وقيل : إنما أمره الله سبحانه بالاستغفار تنبيهاً لأمته وتعريضاً بهم ، فكأنهم هم المأمورون بالاستغفار . وقيل : إن الله سبحانه أمره بالاستغفار لأمته لا لذنبه . وقيل : المراد بالتسبيح هنا الصلاة . والأولى حمله على معنى التنزيه مع ما أشرنا إليه من كون فيه معنى التعجب سروراً بالنعمة ، وفرحاً بما هيأه الله من نصر الدين ، وكبت أعدائه ونزول الذلة بهم وحصول القهر لهم . قال الحسن : أعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أنه قد اقترب أجله فأمر بالتسبيح والتوبة ليختم له في آخر عمره بالزيادة في العمل الصالح ، فكان يكثر أن يقول : «سبحانك اللَّهم وبحمدك اغفر لي إنك أنت التوّاب » قال قتادة ومقاتل : وعاش صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين . وجملة { إِنَّهُ كَانَ تواباً } تعليل لأمره صلى الله عليه وسلم بالاستغفار ، أي : من شأنه التوبة على المستغفرين له يتوب عليهم ويرحمهم بقبول توبتهم ، وتوّاب من صيغ المبالغة ، ففيه دلالة على أنه سبحانه مبالغ في قبول توبة التائبين . وقد حكى الرازي في تفسيره اتفاق الصحابة على أن هذه السورة دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

/خ3