فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا} (3)

{ فسبح بحمد ربك } هذا جواب الشرط ، وهو العامل فيه ، والتقدير : فسبح بحمد ربك إذا جاء نصر الله كما مر ، وقال مكي : العامل في ( إذا ) هو جاء ، ورجحه أبو حيان ، وضعف الأول بأن ما جاء بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبلها .

وقوله { بحمد ربك } في محل نصب على الحال ، أي فقل : سبحان الله ، متلبسا بحمده ، أو حامدا له ، وفيه الجمع بين تسبيح الله المؤذن بالتعجب مما يسره الله له مما يكن لم يخطر بباله ، ولا بال أحد من الناس ، وبين الحمد له على جميل صنعه له ، وعظيم منته عليه ، بهذه النعمة التي هي النصر والفتح لأم القرى التي كان أهلها قد بلغوا في عداوته إلى أعلى المبالغ ، حتى أخرجوه منها بعد أن افتروا عليه من الأقوال الباطلة ، والأكاذيب المختلقة ، ما هو معروف : من قولهم هو مجنون ، هو ساحر ، هو شاعر ، هو كاهن ، ونحو ذلك .

ثم ضم سبحانه إلى ذلك أمره نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالاستغفار ، فقال :{ واستغفره } ، أي اطلب منه المغفرة لذنبك ، وسله الغفران هضما لنفسك ، واستقصارا لعملك ، واستدراكا لما فرط منك من ترك ما هو الأولى .

وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يرى قصوره عن القيام بحق الله ، ويكثر من الاستغفار والتضرع ، وإن كان قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . وقيل : إن الاستغفار منه صلى الله عليه وآله وسلم ومن سائر الأنبياء هو تعبد تعبدهم الله به ، لا لطلب المغفرة لذنب كائن منهم . وقيل : إنما أمره الله سبحانه بالاستغفار تنبيها لأمته ، وتعريضا بهم ، فكأنهم هم المأمورون بالاستغفار .

وقيل : إن الله سبحانه أمره بالاستغفار لأمته لا لذنبه . وقيل : المراد بالتسبيح هنا الصلاة ، والأولى حمله على معنى التنزيه ، مع ما أشرنا إليه من كون فيه معنى التعجب سرورا بالنعمة ، وفرحا بما حباه الله من نصر الدين ، وكبت أعدائه ، ونزول الذلة بهم ، وحصول القهر لهم .

قال الحسن : أعلم الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد اقترب أجله ، فأمره بالتسبيح والتوبة ليختم له في آخر عمره بالزيادة في العمل الصالح ، فكان يكثر أن يقول : " سبحانك اللهم وبحمدك ، اغفر لي ، إنك أنت التواب " .

قال قتادة ومقاتل : وعاش صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين .

وعن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول : " سبحانه الله وبحمده ، وأستغفره وأتوب إليه " ، فقلت : يا رسول الله ، أراك تكثر من قول : " سبحان الله وبحمده ، واستغفر الله وأتوب إليه " ، فقال : " أخبرني ربي أني سأرى علامة من أمتي ، فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده ، وأستغفر الله وأتوب إليه ، فقد رأيتها { إذا جاء نصر الله والفتح } فتح مكة { ورأيت الناس يدخلون } الخ " أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه .

وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : " سبحان اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي " ، يتأويل القرآن ، تعني { إذا جاء نصر الله والفتح } وفي الباب أحاديث .

وقوله : { إنه كان توابا } تعليل لأمره سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار ، أي من شأنه التوبة على المستغفرين له ، يتوب عليه ، ويرحمهم بقبول توبتهم . وتواب من صيغ المبالغة ، ففيه دلالة على أنه سبحانه مبالغ في قبول توبة التائبين .

ختام السورة:

وقد حكى الرازي في تفسير اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على أن هذه السورة دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وعن ابن عمر : نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ، ثم نزل { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت علكم نعمتي } فعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها ثمانين يوما ، ثم نزلت آية الكلالة فعاش بعدها خمسين يوما ، ثم نزل { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما ، وقيل : سبعة أيام ، وقيل غير ذلك .

وكان فتح مكة في رمضان سنة ثمان ، وتوفي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول على رأس العاشرة بالنظر لجعل التاريخ من الهجرة ، وإن كانت لشهرين وشيء مضت من الحادية عشرة إذا اعتبر التاريخ من أول السنة الشرعية وهو المحرم ، فلما هاجر صلى الله عليه وسلم لاثني عشر من ربيع الأول حسبوا الباقي من هذه السنة سنة مع أنها ناقصة شهرين واثني عشر يوما ، فلما كانت وفاته لاثني عشر من ربيع الأول كان الماضي من هذه السنة وهو شهران واثنا عشر يوما مكملا ومتمما لما نقصته السنة الأولى ، فصح قولهم :إنه توفي في العاشرة ، أي على رأسها وحين كمالها بالنظر لجعل التاريخ من الهجرة ، ويصح أن يقال : توفي في الحادية عشرة بالنظر لجعل التاريخ من أول السنة الشرعية . تأمل والله تعالى أعلم .