محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا} (3)

{ فسبح بحمد ربك } أي فنزه ربك عن أن يهمل الحق ، ويدعه للباطل يأكله ، وعن أن يخلف وعده في تأييده ، وليكن هذا التنزيه بواسطة حمده والثناء عليه ، بأنه القادر الذي لا يغلبه غالب ، والحكيم الذي إذا أمهل الكافرين ليمتحن قلوب المؤمنين فلن يضيع أجر العاملين ، ولا يصلح عمل المفسدين ، والبصير بما في قلوب المخلصين والمنافقين ، فلا يذهب عليه رياء المرائين . { واستغفره } أي اسأله أن يغفر لك ولأصحابك ما كان من القلق والضجر والحزن لتأخر زمن النصر والفتح ، والاستغفار إنما يكون بالتوبة الخالصة ، والتوبة من القلق إنما تكون بتكميل الثقة بوعد الله ، وتغليب هذه الثقة على خواطر النفس التي تحدثها الشدائد ، وهو إن كان مما يشق على نفوس البشر ، ولكن الله علم أن نفس نبيه صلى الله عليه وسلم قد تبلغ ذلك الكمال ، فلذلك أمره به ، وكذلك تقاربه قلوب الكمل من أصحابه وأتباعه عليه السلام ، والله يتقبل منهم . { إنه كان ثوابا } أي إنه سبحانه لا يزال يوصف بأنه كثير القبول للتوبة ؛ لأنه رب يربي النفوس بالمحن ، فإذا وجدت الضعف أنهضها إلى طلب القوة ، وشدد همها بحسن الوعد ، ولا يزال بها حتى تبلغ الكمال ، وهي في كل منزلة تتوب عن التي قبلها ، وهو سبحانه يقبل توبتها ، فهو التواب الرحيم ، وكأن الله يقول : إذا حصل الفتح ، وتحقق النصر ، وأقبل الناس على الدين الحق ، فقد ارتفع الخوف ، وزال موجب الحزن ، فلم يبق إلا تسبيح الله وشكره ، والنزوع إليه ، عما كان من خواطر النفس ، فلن تعود الشدة تأخذ نفوس المخلصين ما داموا على تلك الكثرة في ذلك الإخلاص ، ومن هذا أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر قد تم ، ولم يبق له إلا أن يسير إلى ربه ، فقال له فيما روي عنه : " إنه قد نعيت إليه نفسه " ، هذا ملخص ما أورده الإمام في ( تفسيره ) .

تنبيهات : الأول قال ابن كثير : المراد بالفتح ههنا فتح مكة قولا واحدا ، فإن أحياء العرب كانت تتلوم بإسلامها فتح مكة ، يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبي ، فلما فتح الله عليه مكة ، دخلوا في دين الله أفواجا ، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانا ، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهرا للإسلام ، ولله الحمد والمنة . وقد روى البخاري في ( صحيحه ) {[7569]} عن عمرو بن سلمة : " كنا بماء ممر الناس ، وكان يمر بنا الركبان ، فنسألهم ما للناس ؟ ما للناس ؟ ما هذا الرجل ؟ فيقولون : يزعم أن الله أرسله أوحى إليه ( أو أوحى الله بكذا ) ، فكنت أحفظ ذلك الكلام ، وكأنهما يغزى في صدري ، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح ، فيقولون : اتركوه وقومه ، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق ، فلما كانت واقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم ، وبدر أبي قومي بإسلامهم . . . " الحديث .

الثاني : قال الرازي : إذا حملنا الفتح على فتح مكة ، فللناس في وقت نزول هذه السورة قولان : أحدهما أن فتح مكة كان سنة ثمان ، ونزلت هذه السورة سنة عشر ، وروي أنه عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يوما ، ولذلك سميت سورة التوديع .

ثانيهما : أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة ، وهو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصره على أهل مكة ، وأن يفتحها عليه ، ونظيره {[7570]} { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } ، وقوله :{ إذا جاء نصر الله والفتح } يقتضي الاستقبال ؛ إذ لا يقال فيما وقع ( إذا جاء ) و ( إذا وقع ) ، إذا صح هذا القول صارت هذه الآية من جملة المعجزات ، من حيث أنه خبر وجد مخبره بعد حين مطابقا له ، والإخبار عن الغيب معجزة ، انتهى .

قال الحافظ ابن حجر في ( فتح الباري ) : ولأبي يعلى من حديث ابن عمر : " نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق في حجة الوداع ، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الوداع " .

ثم قال : وسئلت عن قول ( الكشاف ) عن سورة النصر : نزلت في حجة الوداع أيام التشريق ، فكيف صدرت ب { إذا } الدالة على الاستقبال ؟ فأجبت بضعف ما نقله ، وعلى تقدير صحته فالشرط لم يكتمل بالفتح ؛ لأن مجيء الناس أفواجا لم يكن كمل فبقية الشرط مستقبل .

وقد أورد الطيبي السؤال وأجاب بجوابين : أحدهما أن ( إذا ) قد ترد بمعنى ( إذا ) كما في قوله تعالى {[7571]} { وإذا رأوا تجارة . . . } الآية .

ثانيهما : أن كلام الله قديم ، وفي كل من الجوابين نظر لا يخفى . انتهى كلامه .

الثالث : قال الشهاب : المراد ب { الناس } العرب ، ف ( ال ) عهدية ، أو المراد الاستغراق العرفي ، والمراد عبدة الأصنام منهم ؛ لأن نصارى تغلب لم يسلموا في حياته صلى الله عليه وسلم وأعطوا الجزية .

الرابع : روى البخاري {[7572]} عن عائشة رضي الله عنها قالت : " ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه { إذا جاء نصر الله والفتح } إلا يقول فيها : " سبحانك ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي " .

وفيه عنها أيضا{[7573]} : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي " ، يتأول القرآن " .

قال الحافظ ابن حجر : معنى ( يتأول القرآن ) : يجعل ما أمر به من التسبيح والتحميد والاستغفار في أشرف الأوقات والأحوال .

وقال ابن القيم في ( الهدى ) : كأنه أخذه من قوله تعالى { واستغفره } ؛ لأنه كان يجعل الاستغفار في خواتم الأمور ، فيقول إذا سلم من الصلاة : " أستغفر الله ثلاثا " ، وإذا خرج من الخلاء قال " غفرانك " ، وورد الأمر بالاستغفار عند انقضاء المناسك { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله . . . }

الآية .


[7569]:أخرجه في 64- كتاب المغازي 53- باب وقال الليث حديث رقم 1925.
[7570]:38/ القصص / 85.
[7571]:62 / الجمعة / 11.
[7572]:أخرجه في 65- كتاب التفسير، 110 سورة النصر 1- حدثنا الحسن بن الربيع حديث رقم 481.
[7573]:أخرجه في 65- كتاب التفسير، 110 سورة النصر 1- حدثنا عثمان بن أبي شيبة حديث رقم 481.