قوله : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } ، { بِحَمْدِ رَبِّكَ } حال ، أي : ملتبساً بحمده .
قال ابن الخطيب{[61033]} : إنه - تعالى - أمره صلى الله عليه وسلم بالتسبيح ، ثم بالحمد ، ثم بالاستغفار ، والفائدة فيه أن تأخير النصر سنين ، مع أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان على الحقّ ، مما يثقل على القلب ، ويقع في القلب أني إذا كنت على الحق فلم لا ينصرني ، ولو سلطت على هؤلاء الكفار . فلأجل الاعتذار عن هذا الخاطر ، أمر بالتسبيح ، أما على قولنا : فالمراد من هذا التنزيه ، أنه تعالى منزَّه عن أن يستحق عليه أحد شيئاً ؛ [ بل كل ما يفعله بحكم المشيئة الإلهية ، فله أن يفعل ما شاء كما يشاء ، ففائدة التسبيح : تنزيه الله تعالى عن أن يستحق عليه أحد شيئاً ]{[61034]} .
وأما على قول المعتزلة ، ففائدة التنزيه : هو أن يعلم العبد أن تنزيه اللهِ تعالى عما لا يليق ولا ينبغي بسبب المصلحة ، لا بسبب ترجيح الباطل على الحق ، ثم إذا فرغ العبد من تنزيه الله ، فحينئذ يشتغل بحمده على ما أعطاه من الإحسان والبر ، ثم حينئذ بالاستغفار بذنوب نفسه .
قال المفسرون : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره } أي : إذا صليت ، فأكثر من ذلك .
وقيل : معنى «سَبِّحْ » صلِّ ، قاله ابن عبَّاس رضي الله عنهما{[61035]} .
[ وقوله : { بِحَمْدِ رَبِّكَ } حامداً له على ما آتاك من الظفر ، والفتح ، واستغفره أي : سلوا الله الغفران .
وقيل : فسبح أي : المراد به التنزيه ، أي : نزهه عما لا يجوز عليه ، مع شكرك له ، وبالاستغفار ، ومداومة الذكر ] .
وروي في «الصحيحين » عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت سورة { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } إلا يقولُ فيها : " سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدِكَ ، اللَّهُمَّ اغفِرْ لِي " {[61036]} .
وقالت أم سلمة - رضي الله عنها - : كان النبي صلى الله عليه وسلم آخر أمره{[61037]} لا يقوم ، ولا يقعد ، ولا يجيء ، ولا يذهب إلاَّ قال : " سُبحانَ اللهِ وبحَمدهِ ، أسْتغْفِرُ الله ، وأتوبُ إليه " قال : " فإنِّي أمرتُ بِهَا " ، ثم قرأ : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح }{[61038]}
وقال عكرمة : لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه قط أشدّ اجتهاداً في أمور الآخرة ما كان عند نزولها .
وقال مقاتل : «لما نزلت ، فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه ، ومنهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص ، ففرحوا ، واستبشروا ، وبكى العباس ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا يُبْكيْكَ يَا عمّ » . قال : نُعيتْ إليك نَفسُكَ ، قال : «إنَّهُ لَكَمَا تقُولُ » ، فعاش بعدها ستين يوماً ، ما رئي فيها إلا ضاحكاً مستبشراً{[61039]} .
وقيل : نزلت في «منى » بعد أيام التشريق ، في حجَّة الوداعِ ، فبكى عمر والعباس ، فقيل لهما : إن هذا يوم فرح ، فقال : لا ، بل فيه نعي النبي صلى الله عليه وسلم . فقالَ النبي صلى الله عليه وسلم : «صدقتما ، نعيت إليَّ نفسي » .
وروى البخاري وغيره ، عن ابن عبَّاس ، قال : كان عمر بن الخطَّاب يأذن لأهل بدر ، ويأذن لي معهم ، قال : فوجد بعضهم من ذلك ، فقالوا : يأذن لهذا الفتى معنا ، ومن أبنائنا من هو مثله ، فقال لهم عمر : إنه من قد علمتم . قال : فأذن لهم ذات يوم ، وأذن لي معهم ، فسألهم عن هذه السورةِ : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } ، فقالوا : أمر الله - جلَّ وعزَّ - نبيه صلى الله عليه وسلم إذا فتح عليه أن يستغفره وأن يتوب إليه ، فقال : ما تقول يا ابن عباس ؟ قلتُ : ليس كذلك ، ولكن أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بحضور أجله فقال : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } فذلك علامة موتك ، { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا } ، فقال عمر - رضي الله عنه - : تلومونني عليه ؟ وفي رواية : قال عمر : «ما أعلم منها إلا ما تقول »{[61040]} .
فإن قيل : فماذا يغفر للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤمر بالاستغفار ؟
فالجواب : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : «ربِّ اغفِرْ لِي خَطيْئَتِي وجَهْلِي ، وإسْرافِي في أمْرِي كُلِّه ، ومَا أنْتَ أَعْلَمُ بِهِ منِّي ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي خَطيئَتِي ، وعمدي ، وجهْلِي وهزلِي ، وكل ذلِكَ عِنْدِي ، اللَّهُمَّ اغفر لِي ما قدَّمْتُ وما أخَّرتُ ، وما أعْلنتُ ، ومَا أسْرَرْتُ ، أنتَ المُقدِّمُ ، وأنتَ المُؤخِّرُ ، إنَّكَ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ » .
[ وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستغفر لنفسه لعظيم ما أنعم الله عليه ، ويرى قصوره عن القيام بحقّ ذلك .
وقيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين .
وقيل : يحتمل أن يكون المعنى : كن متعلقاً به ، سائلاً راغباً متضرعاً على رؤية التقصير في أداء الحقوق .
وقيل : الاستغفار نفسه يجب إتيانه ، لا للمغفرة ؛ بل تعبداً .
وقيل : واستغفر أي : استغفر لأمتك ، إنه كان تواباً على المسبحين والمستغفرين ، يتوب عليهم ويرحمهم ، ويقبل توبتهم ، وإذا كان عليه السلام -وهو معصوم- يؤمر بالاستغفار ، فماذا يظنّ بغيره ]{[61041]} .
قد مرَّ تفسير الحمد ، وأما تفسير قوله تعالى : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } ففيه وجوه :
الأول : قال الزمخشري{[61042]} : قل : سبحان الله ، والحمد لله ، تعجباً مما أراك الله من عجيب إنعامه ، أي : اجمع بينهما ، كقولك : الماءُ باللبن ، أي : اجمع بينهما خلطاً ، وشرباً .
الثاني : أنَّ التسبيح داخل في الحمد ؛ لأنك إذا حمدت الله تعالى ، فقد سبَّحته بواسطته ؛ لأن الثناء عليه ، والشكر له ، يتضمن تنزيهه عن النقائص ، ولذلك جعل الحمد مفتاح القرآن ، فمعنى : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } ، أي : سبحه بواسطته ، أن تحمده ، وأن تسبحه بهذا الطريق .
الثالث : أن يكون حالاً ، أي : سبحه مقدراً أن تحمد بعد التسبيح ، كأنك تقول : لا يتأتى لك الجمع بينهما لفظاً ، فاجمعهما نية كما تنوي الصلاة يوم النحر مقدراً أنك تنحر بعدها ، فيجتمع لك الثواب في تلك الحالة .
الرابع : أن هذه الباء كهي في قولك : فعلت هذه بفضل الله ، أي : بحمده ، أي : إنه الذي هداك لرشدك لا تجد غيره ، كقوله صلى الله عليه وسلم : «الحَمدُ للهِ على الحَمْدِ » .
الخامس : قال السديُّ : «بحمدِ ربِّك » ، أي : بأمر ربك{[61043]} .
السادس : أن تكون الباء زائدة ، والتقدير : سبح حمد ربك ، أي : طهر محامد ربك عن الرياء والسمعة ، أو اختر له أطهر المحامد ، وأذكاها ، وأحسنها ، أو ائْتِ بالتسبيح والتنزيه بدلاً عن الحمد .
السابع : فيه إشارة إلى أن التسبيح والحمد لا يتأخر أحدهما عن الآخر ، ولا يمكن أن يؤتى بهما معاً ، ونظيره : من ثبت له حق الشفعة ، وحق الرد بالعيب ، وجب أن يقول : اخترت الشفعة بردي ذلك المبيع ، كذا هاهنا ، قال : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } ليقع معاً ، فيصير مسبحاً حامداً في وقت واحد معاً .
[ فإن قيل : التوبة مقدمة على جميع الطَّاعات ، ثم الحمد مقدم على التسبيح ؛ لأن الحمد على النعم ، والنعم سابقة أيضاً ، والاستغفار سابق ، ثم التسبيح ؟ فالجواب لعله بدأ بالأشرف تنبيهاً على أن النزول من الخالق إلى الخلق أشرف من الصعود من الخلق إلى الخالق ، أو نبّه بذلك على أن التسبيح والحمد الصادرين من العبد ، إذا قابلا جلال الحقّ وعزته استوجبا الاستغفار ، ولأن التسبيح والحمد إشارة إلى تعظيم أمر الله ، والاستغفار إشارة إلى الشفقة على خلق الله ، فالأول كالصلاة ، والثاني كالزكاة ، فكما أن الصلاة مقدمة على الزكاة ، فكذا هاهنا ]{[61044]} .
فإن قيل : قوله تعالى : { كَانَ تَوَّابَا } بدل من الماضي ، وحاجتنا إلى قبوله في المستقبل ، وأيضاً : هلا قال سبحانه : { غَفَّاراً } [ نوح : 10 ] ، كما قال تعالى في سورة نوح عليه الصلاة والسلام .
وأيضاً قال تعالى : { نَصْرُ الله } ، وقال : { فِي دِينِ الله } ، وقال : { بِحَمْدِ رَبِّكَ } ، ولم يقل : بحمد الله .
فالجواب عن الأول : أن هذا أبلغ ، كأنه يقول : إني أثنيت على من هو أقبح فعلاً منهم كاليهود ، فإنهم بعد ظهور المعجزات الظاهرة العظيمة ، كفلق البحر ، ونتق الجبل ، ونزول المنِّ والسلوى ، عصوا ربَّهم ، وأتوا بالقبائح ، ولما تابوا قبلت توبتهم ، فإذا كنت قابلاً لتوبة أولئك ، وهم دونكم ، أفلا أقبل توبتكم ، وأنتم خير أمة أخرجت للنَّاس ؟ أو لأني شرعت في توبة العصاة ، والشروع ملزم ، أو هو إشارة إلى تخفيف جنايتهم ، أي : لستم أول من جنى ، والمصيبة إذا عمت خفت ؛ أو كما قيل : [ المتقارب ]
5339- كَما أحْسنَ اللهُ فِيما مَضَى*** كَذلِكَ يُحسِنُ فِيمَا بَقِي{[61045]}
والجواب عن الثاني : لعله خص هذه الأمة بمزيد الشرفِ ؛ لأنه لا يقال في صفات العبد : غفار أو يقال : تواب ، ويقال إذا كان آتياً بالتوبة ، فكأنه تعالى يقول : كنت لي سمياً من أول الأمر ، أنت مؤمن ، وأنا مؤمن ، وإن اختلف المعنى فتب حتى صرت سمياً في آخر الأمر ، فأنت تواب ، وأنا تواب ، ثم التواب في حق الله تعالى أنه يقبل التوبة كثيراً ، فيجب على العبد أن يكون إتيانه بالتوبة كثيراً .
[ وأنه إنما قال : { تواباً } ؛ لأن القائل قد يقول : أستغفر الله ، وليس بتائب ، كقول المستغفر بلسانه ، المصر بقلبه ، كالمستهزئ .
فإن قيل قد يقول : أتوب ، وليس بتائب .
قلنا : فإذن يكون كاذباً ، فإن التوبة اسم للرجوع ، أو الندم بخلاف الاستغفار ، فإنه لا يكون كاذباً فيه ، فيكون تقدير الكلام : وأستغفر الله بالتوبة ، وفيه تنبيه على خواتم الأعمال ] .
والجواب عن الثالث : أنه راعى العدل ، فذكر اسم الذَّات مرتين ، وذكر اسم الفعل مرتين ؛ أحدهما : الرب ، والثاني : التواب ، فلما كانت التربية تحصل أولاً ، والتوبة آخراً ، لا جرم ذكر اسم الرب أولاً ، واسم التوبة آخراً .
قال ابن عمر - رضي الله عنهما - نزلت هذه السورة ب «منى » في حجة الوداع ، ثُمَّ نزلت : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } فعاش صلى الله عليه وسلم بعدها خمسين يوماً ، ثم نزل : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } [ التوبة : 128 ] فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً ، ثم نزلت : { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } [ البقرة : 281 ] فعاش بعدها صلى الله عليه وسلم أحداً وعشرين يوماً{[1]} .
وقال مقاتل : سبعة أيام{[2]} .
قال ابن الخطيب{[3]} : اتفق الصحابة - رضي الله عنهم - على أن هذه السورة دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : كيف دلت السورة على هذا المعنى ؟ .
أحدها : قال بعضهم : إنما عرفوا ذلك لما روي أنه صلى الله عليه وسلم خطب عقيب السورة ، وذكر التخيير .
وثانياً : أنه لما ذكر حُصول النَّصر ، ودخول النَّاس في دين الله أفواجاً ، دل ذلك على حصول التمام ، والكمال ، وذلك يستعقبه الزَّوال ؛ كما قيل : [ المتقارب ]
5340- إذَا تَمَّ شَيءٌ بَدَا نَقصهُ *** تَوقَّعْ زَوالاً ، إذا قِيلَ : تَمْ{[4]}
وثالثها : أنه جل ذكره أمر بالتسبيح ، والحمد ، والاستغفار ، مطلقاً ، واشتغاله صلى الله عليه وسلم بذلك يمنعه من الاشتغال بأمر الأمة ، فكان هذا كالتنبيه على أنّ التبليغ قد تم وكمل ، وذلك يوجب الموت ؛ لأنه لو بقي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ، لكان كالمعزول عن الرسالة ، وهذا غير جائزٍ .
ورابعها : قوله : «واسْتَغْفِرْهُ » تنبيه على قرب الأجل ، كأنه يقول : قرب الأجل ودنا الرحيل فتأهّبْ . ونبه على أن سبيل العاقل إذا قرب أجله يستكثر من التوبة .
وخامسها : كأنه قيل : كان منتهى مطلوبك في الدنيا هذا الذي وجدته ، وهو النصر والفتح ، والله تعالى وعدك بقوله : { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى } [ الضحى : 4 ] فلما وجدت أقصى مرادك في الدنيا ، فانتقل إلى الآخرة لتفوز بتلك السعادة العالية .
روى الثعلبي عن أبيّ- رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَرَأَ سُورةَ : «النصر » فَكَأنَّمَا شَهِدَ مَع مُحمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام فَتْح مَكَّة »{[5]} .