غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا} (3)

ثم إنه أمره بالتسبيح ، ثم بالحمد ، ثم بالاستغفار ، فكأنه صلى الله عليه وسلم ضاق قلبه عن تأخير النصر كما قال :{ وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } [ البقرة :214 ] ، فأمر بالتسبيح تنزيهاً لله عما لا يليق بكماله ، وحكمته ، وعنايته بخلقه ، وأمر أن يكون التسبيح مقروناً بالحمد ؛ لأن المقام يستدعي تذكير النعمة ، وهي الفتح والنصر ودخول الناس في الدين من غير متاعب الجهاد ومؤن القتال ، ثم أمر بالاستغفار كفارة لما عسى أن يبدو ويدور في الخلد من ملاحظة حاله بعين الكمال ، وكما أن التسبيح المقرون بالحمد نظر من الحق إلى الخلق ، فالاستغفار عكسه ، وهو التفات عن الخلق إلى الحق . وإنما فهمت الصحابة من السورة نعي النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن كل كمال فإنه يدل على زوال ، كما قيل :

إذا تم أمر بدا نقصه *** توقع زوالاً إذا قيل تم

ويمكن أن يقال : إنه أمر بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقاً . ولا يخفى أن الاشتغال بهذه الأعمال يمنع من الاشتغال بأعباء التبليغ ، وبأداء ما كان يواظب عليه من رعاية مصالح الأمة ، فكان هذا كالتنبيه على أن أمر الرسالة قد تم وكمل بسبب الموت والإلزام العزل . روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة كان يكثر أن يقول : " سبحانك اللهم وبحمدك ، أستغفرك وأتوب إليك " ، وفي رواية : كان يكثر أن يقول في ركوعه : " سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم اغفر لي " ، وفي رواية أخرى كان نبي الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ، ولا يذهب ولا يجيء ، إلا قال : " سبحان الله وبحمده " . فقلت : يا رسول الله ، إنك تكثر من قول " سبحان الله وبحمده " قال : " إني أمرت بها " وقرأ السورة . وعن ابن مسعود أنه لما نزلت هذه السورة كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : " سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم اغفر لي ، إنك أنت التواب الرحيم "

وفي الآية تنبيه على أن العاقل إذا قرب أجله وأنذره الشيب أقبل على التوبة والاستغفار ، وتدارك بعض ما فات في أوان الغفلة والاغترار . وفي معنى الباء في قوله { بحمد ربك } وجوه للمفسرين ، منها : أن المراد قل : سبحان الله ، والحمد لله ، تعجباً مما أراك من مقصودك . يقال : شربت اللبن بالعسل ، أي خلطتهما فشربت المخلوط . ومنها أن الباء للآلة ، أي سبحه بواسطة تحميده ؛ لأن الثناء يتضمن التنزيه عن النقائص ، والدليل عليه أنه صلى الله عليه وسلم عند فتح مكة بدأ بالتحميد قائلاً : الحمد لله الذي نصر عبده . ومنها أن المراد : فسبح متلبساً بالحمدنية ؛ لأنك لا يتأتى لك الجمع بينهما لفظاً ، فاجمعهما نية . وقيل : سبحه مقروناً بحمد الله على ما هداك إلى تسبيحه ، كما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول : " الحمد لله على الحمد لله " . وقيل : الباء للبدل ، أي ائت بالتسبيح بدل الحمد الواجب عليك في مقابلة نعمة النصر والفتح ؛ لأن الحمد لا حصر له{ وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها } [ إبراهيم :34 ] . وقيل : فيه إشارة إلى أن التسبيح والحمد لله أمر أن لا يجوز تأخير أحدهما عن الآخر ، لوجوب الإتيان بكل منهما على الفور ، كما لو ثبت له حق الشفعة ، وحق الرد بالعيب ، وجب أن يقول : اخترت الشفعة بردّي ذلك المبيع . وقيل : الباء صلة ، أي طهر محامد ربك عن النقائض والرياء . وفي تخصيص الرب بالمقام إشارة إلى أن التربية هي الموجبة للحمد ، أما الاستغفار فإن كان لأجل الأمة فلا إشكال ، وإن كان لأجل نفسه فإما للاقتداء ، وإما لترك الأولى والأفضل ، وإما بالنظر إلى المرتبة المتجاوز عنها ، فإن السالك يلزمه عند الارتقاء في كل درجة يصل إليها أن يستغفر عما يخلفها . وفي قوله { تواباً } دون أن يقول : " غفاراً " -كما في سورة نوح- إشارة إلى أن هذا النبي صلى الله عليه وسلم ؛ بل هذه الأمة ، امتثلوا فاستغفروا وتابوا ، فوجب على فضل الله قبول توبتهم ، بخلاف قوم نوح .

/خ3