ثم إنه أمره بالتسبيح ، ثم بالحمد ، ثم بالاستغفار ، فكأنه صلى الله عليه وسلم ضاق قلبه عن تأخير النصر كما قال :{ وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } [ البقرة :214 ] ، فأمر بالتسبيح تنزيهاً لله عما لا يليق بكماله ، وحكمته ، وعنايته بخلقه ، وأمر أن يكون التسبيح مقروناً بالحمد ؛ لأن المقام يستدعي تذكير النعمة ، وهي الفتح والنصر ودخول الناس في الدين من غير متاعب الجهاد ومؤن القتال ، ثم أمر بالاستغفار كفارة لما عسى أن يبدو ويدور في الخلد من ملاحظة حاله بعين الكمال ، وكما أن التسبيح المقرون بالحمد نظر من الحق إلى الخلق ، فالاستغفار عكسه ، وهو التفات عن الخلق إلى الحق . وإنما فهمت الصحابة من السورة نعي النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن كل كمال فإنه يدل على زوال ، كما قيل :
إذا تم أمر بدا نقصه *** توقع زوالاً إذا قيل تم
ويمكن أن يقال : إنه أمر بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقاً . ولا يخفى أن الاشتغال بهذه الأعمال يمنع من الاشتغال بأعباء التبليغ ، وبأداء ما كان يواظب عليه من رعاية مصالح الأمة ، فكان هذا كالتنبيه على أن أمر الرسالة قد تم وكمل بسبب الموت والإلزام العزل . روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة كان يكثر أن يقول : " سبحانك اللهم وبحمدك ، أستغفرك وأتوب إليك " ، وفي رواية : كان يكثر أن يقول في ركوعه : " سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم اغفر لي " ، وفي رواية أخرى كان نبي الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ، ولا يذهب ولا يجيء ، إلا قال : " سبحان الله وبحمده " . فقلت : يا رسول الله ، إنك تكثر من قول " سبحان الله وبحمده " قال : " إني أمرت بها " وقرأ السورة . وعن ابن مسعود أنه لما نزلت هذه السورة كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : " سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم اغفر لي ، إنك أنت التواب الرحيم "
وفي الآية تنبيه على أن العاقل إذا قرب أجله وأنذره الشيب أقبل على التوبة والاستغفار ، وتدارك بعض ما فات في أوان الغفلة والاغترار . وفي معنى الباء في قوله { بحمد ربك } وجوه للمفسرين ، منها : أن المراد قل : سبحان الله ، والحمد لله ، تعجباً مما أراك من مقصودك . يقال : شربت اللبن بالعسل ، أي خلطتهما فشربت المخلوط . ومنها أن الباء للآلة ، أي سبحه بواسطة تحميده ؛ لأن الثناء يتضمن التنزيه عن النقائص ، والدليل عليه أنه صلى الله عليه وسلم عند فتح مكة بدأ بالتحميد قائلاً : الحمد لله الذي نصر عبده . ومنها أن المراد : فسبح متلبساً بالحمدنية ؛ لأنك لا يتأتى لك الجمع بينهما لفظاً ، فاجمعهما نية . وقيل : سبحه مقروناً بحمد الله على ما هداك إلى تسبيحه ، كما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول : " الحمد لله على الحمد لله " . وقيل : الباء للبدل ، أي ائت بالتسبيح بدل الحمد الواجب عليك في مقابلة نعمة النصر والفتح ؛ لأن الحمد لا حصر له{ وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها } [ إبراهيم :34 ] . وقيل : فيه إشارة إلى أن التسبيح والحمد لله أمر أن لا يجوز تأخير أحدهما عن الآخر ، لوجوب الإتيان بكل منهما على الفور ، كما لو ثبت له حق الشفعة ، وحق الرد بالعيب ، وجب أن يقول : اخترت الشفعة بردّي ذلك المبيع . وقيل : الباء صلة ، أي طهر محامد ربك عن النقائض والرياء . وفي تخصيص الرب بالمقام إشارة إلى أن التربية هي الموجبة للحمد ، أما الاستغفار فإن كان لأجل الأمة فلا إشكال ، وإن كان لأجل نفسه فإما للاقتداء ، وإما لترك الأولى والأفضل ، وإما بالنظر إلى المرتبة المتجاوز عنها ، فإن السالك يلزمه عند الارتقاء في كل درجة يصل إليها أن يستغفر عما يخلفها . وفي قوله { تواباً } دون أن يقول : " غفاراً " -كما في سورة نوح- إشارة إلى أن هذا النبي صلى الله عليه وسلم ؛ بل هذه الأمة ، امتثلوا فاستغفروا وتابوا ، فوجب على فضل الله قبول توبتهم ، بخلاف قوم نوح .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.