السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا} (3)

ولما كمل الدين ، أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يشتغل بنفسه ، فقال عز من قائل : { فسبح } ، أي : نزه بقولك وفعلك -بالصلاة وغيرها- تسبيحاً ملتبساً { بحمد ربك } ، أي : الذي أنجز لك الوعد بإكمال الدين ، وقمع المعتدين ، المحسن إليك بجميع ذلك ؛ لأنّ هذا كله لكرامتك ، وإلا فهو عزيز حميد على كل حال ، تعجباً لتيسير الله تعالى لهذا الفتح الذي لم يخطر ببال أحد حامداً له عليه ، أو فصل له حامداً على نعمه ، قاله ابن عباس . روي أنه صلى الله عليه وسلم «لما دخل مكة بدأ بالسجود ، فدخل الكعبة ، وصلى ثماني ركعات » . { واستغفره } ، أي : اطلب غفرانه ، لتقتدي بك أمّتك في المواظبة على الأمان الثاني ، فإنّ الأمان الأول -الذي هو وجودك بين أظهرهم- قد دنا رجوعه إلى معدنه في الرفيق الأعلى ، والمحل الأقدس ، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله تعالى حق قدره ، كما أشار إلى ذلك الاستغفار عقب الصلاة التي هي أعظم العبادات . وفي الصحيحين عن عائشة أنها قالت : «ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة { إذا جاء نصر الله والفتح } إلا يقول : " استغفر الله وأتوب إليه " ، قال : " فإني أمرت بها " ، ثم قرأ { إذا جاء نصر الله والفتح } إلى آخرها » . وقال عكرمة : لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم قط أشد اجتهاداً في أمور الآخرة ما كان عند نزولها . وقال مقاتل : لما نزلت قرأها النبيّ صلى الله عليه وسلم على أصحابه ، وفيهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص والعباس ، ففرحوا واستبشروا ، وبكى العباس ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك يا عمّ ؟ " قال : نعيت إليك نفسك . قال : " إنه كما قلت " ، فعاش بعدها ستون يوماً ، ما رؤي ضاحكاً مستبشراً » . وقيل : نزلت في منى بعد أيام التشريق في حجة الوداع ، فبكى عمر والعباس ، فقيل لهما : هذا يوم فرح ، فقالا : لا ؛ بل فيه نعي النبيّ صلى الله عليه وسلم . وعن ابن عمر : نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ، ثم نزل { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } [ المائدة : 3 ] ، فعاش صلى الله عليه وسلم بعدها ثمانين يوماً ، ثم نزلت آية الكلالة ، فعاش بعدها خمسين يوماً ، ثم نزلت { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } [ التوبة : 128 ] ، فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً ، ثم نزل : { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } [ البقرة : 281 ] ، فعاش بعدها أحداً وعشرين يوماً . وقال مقاتل : سبعة أيام ، وقيل : غير ذلك . وقال الرازي : اتفق الصحابة على أنّ هذه السورة دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك لوجوه :

أحدها : أنهم عرفوا ذلك لما خطب صلى الله عليه وسلم عقب السورة ، وذكر التخيير ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته لما نزلت هذه السورة : «إنّ عبداً خيره الله بين الدنيا وبين لقائه ، فاختار لقاء الله . فقال أبو بكر رضي الله عنه : فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا » .

ثانيها : أنه لما ذكر حصول النصر والفتح ، ودخول الناس في الدين أفواجاً ، دل ذلك على حصول الكمال والتمام ، وذلك يستعقبه الزوال ، كما قيل :

إذا تمّ أمر بدا نقصه *** توقع زوالاً إذا قيل : تم

ثالثها : أنه تعالى أمره بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقاً ، واشتغاله بذلك يمنعه من الاشتغال بأمر الأمة ، فكان هذا كالتنبيه على أنّ أمر التبليغ قد تم وكمل ، وذلك يقتضي انقضاء الأجل ؛ إذ لو بقي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لكان كالمعزول من الرسالة ، وذلك غير جائز .

وعن ابن عباس : أن عمر كان يدنيه ويأذن له مع أهل بدر ، فقال عبد الرحمن : أتأذن لهذا الفتى معنا ، وفي أبنائنا من هو مثله ؟ فقال : إنه من قد علمتم . قال ابن عباس : فأذن لهم ذات يوم ، وأذن لي معهم ، فسألهم عن قول الله تعالى : { إذا جاء نصر الله والفتح } ، ولا أراه سألهم إلا من أجلي ، فقال بعضهم : أمر الله تعالى نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه ، فقلت : ليس كذلك ، ولكن نعيت إليه نفسه ، فقال عمر : ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم ، ثم قال : كيف تلوموني عليه بعد ما ترون . وروي أنه صلى الله عليه وسلم «دعا فاطمة رضي الله عنها فقال : " يا بنتاه ، إني نعيت إلى نفسي " ، فبكت ، فقال : " لا تبكي ، فإنك أوّل أهلي لحوقاً بي » ، وعن عائشة «كان صلى الله عليه وسلم يكثر قبل موته أن يقول : «سبحانك اللهمّ وبحمدك ، استغفرك وأتوب إليك » ، وعنها أيضاً :«ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح } إلا يقول فيها : " سبحانك اللهمّ وبحمدك ، اللهمّ اغفر لي " » . وقالت أم سلمة رضي الله عنها :«كان النبيّ صلى الله عليه وسلم آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ، ولا يجيء ولا يذهب ، إلا قال : « " سبحان الله وبحمده ، استغفر الله وأتوب إليه " . قال : " فإني أمرتُ بها " ، ثم قرأ { إذا جاء نصر الله والفتح } إلا آخرها » . وقيل : استغفره هضماً لنفسك ، واستصغاراً لعملك ، واستدراكاً لما فرط منك بالالتفات على غيره . وعنه عليه الصلاة والسلام : «إني استغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة » . وقيل : استغفر لأمّتك . وتقديم التسبيح ثم الحمد على الاستغفار على طريق النزول من الخالق إلى الخلق ، كما قيل : ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله .

ولما أمره الله تعالى بالتسبيح والاستغفار أرشده إلى التوبة بقوله تعالى : { إنه } ، أي : المحسن إليك بالنصر والفتح ، وغير ذلك مما لا يدخل تحت الحصر { كان } ، أي : ولم يزل { تواباً } ، أي : رجاعاً بمن ذهب به الشيطان من أهل رحمته ، فهو الذي رجع بأنصارك عما كانوا عليه من الاجتماع على الكفر والاختلاف والعداوات ، فأيدك الله تعالى بدخولهم في الدين شيئاً فشيئاً ، إلى أن دخلت مكة بعشرة آلاف ، وهو أيضاً يرجع بك إلى الحالة التي يزداد بها ظهور رفعتك في الرفيق الأعلى . قال الله تعالى : { وللآخرة خير لك من الأولى } [ الضحى : 4 ] فتفوز بتلك السعادات العالية . وعن ابن مسعود : أنّ هذه السورة تسمى سورة التوديع . قال قتادة ومقاتل : عاش النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين ، وهذا بناء على أنها نزلت قبل فتح مكة ، وهو قول الأكثر ، فإنّ الفتح كان في سنة ثمان ، وأمّا من قال : عاش دون ذلك كما مر ، فبناء على أنها نزلت في حجة الوداع كما مرّ أيضاً .

تنبيه : في الآية سؤالات : أحدها أنّ قوله تعالى : { كان تواباً } يدل على الماضي ، وحاجتنا إلى قبوله في المستقبل . ثانيها : هلا قال : غفاراً ، كما قال في سورة نوح عليه السلام ؟ ثالثها : أنه قال تعالى : { نصر الله } وقال تعالى : { في دين الله } وقال تعالى { بحمد ربك } ولم يقل بحمد الله ؟ أجيب : عن الأوّل بوجوه :

أحدها : أنّ هذا أبلغ ، كأنه يقول : إني تبت على من هو أقبح فعلاً منكم كاليهود ، فإنهم بعد ظهور المعجزات العظيمة كفلق البحر ، ونتق الجبل ، ونزول المنّ والسلوى ، عصوا ربهم وأتوا بالقبائح ، ولما تابوا قبلت توبتهم ، فإذا كنت قابلاً لتوبة أولئك وهم دونكم ، أفلا أقبل توبتكم ، وأنتم خير أمّة أخرجت للناس ؟

ثانيها : إني شرعت في توبة العصاة ، والشروع ملزم على قول النعمان ، فكيف في كرم الرحمن .

ثالثها : كنت تواباً قبل أمركم بالاستغفار ، أفلا أقبل وقد أمرتكم .

رابعها : كأنه أشار إلى تخفيف جنايتهم ، أي : لستم أوّل من جنى وتاب ، والمعصية إذا عمت خفت .

خامسها : كأنه نظير ما يقال : لقد أحسن الله إليك فيما مضى ، كذلك يحسن إليك فيما بقي . وأجيب عن الثاني بوجهين :أحدهما لعله خص هذه الأمة بزيادة الشرف ؛ لأنه لا يقال في صفات العبد : غفار ، ويقال : تواب إذا كان آتياً بالتوبة ، فيقول تعالى : كنت لي سمياً من أوّل الأمر ، أنت مؤمن وأنا مؤمن ، وإن كان المعنى مختلفاً ، فتب حتى تصير سمياً في آخر الأمر ، وأنت تواب وأنا تواب ، ثم التوّاب في حق الله تعالى أنه يقبل التوبة كثيراً ، فيجب على العبد أن يكون إتيانه بالتوبة كثيراً . وثانيهما : أنه تعالى إنما قال : تواباً ؛ لأنّ القائل قد يقول : أستغفر الله ، وليس بتائب ، كقوله عليه الصلاة والسلام : «المستغفر بلسانه ، المصر بقلبه ، كالمستهزئ بربه » .

فإن قيل : قد يقول : أتوب ، وليس بتائب ؟ أجيب بأن ذا يكون كاذباً ؛ لأنّ التوبة اسم للرجوع والندم ، بخلاف الاستغفار ، فإنه لا يكون كاذباً فيه ، فصار تقدير الكلام : واستغفره بالتوبة ، وفيه تنبيه على أنّ خواتيم الأعمال يجب أن تكون بالتوبة والاستغفار ، فكذا خواتيم الأعمار . وأجيب عن الثالث : بأنه تعالى راعى العدل ، فذكر اسم الذات مرّتين ، وذكر اسم الفعل مرّتين : أحدهما الرب ، والثاني التوّاب . ولما كانت التربية تحصل أولاّ ، والتوبة آخراً ، لا جرم ذكر اسم الرب أولاً ، واسم التوبة آخراً . فنسأل الله تعالى من فضله وكرمة أن يمنّ علينا بتوبة نصوح ، لا ننكث بعدها أبداً ، فإنه كريم رحيم .

ختام السورة:

وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم :«من قرأ سورة { إذا نصر الله } أعطي من الأجر كمن شهد مع محمد يوم فتح مكة » حديث موضوع .