قوله تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب } . نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم ، كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والمآكل ، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم ، ولما بعث محمد صلى الله عليه وسلم من غيرهم خافوا ذهاب مأكلهم وزوال رياستهم ، فعمدوا إلى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فغيروها ثم أخرجوها إليهم ، فلما نظرت السفلة إلى النعت المغير وجدوه مخالفاً لصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبوته فلم يتبعوه ، فأنزل الله تعالى ( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ) يعني صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته .
قوله تعالى : { ويشترون به } . أي بالمكتوم .
قوله تعالى : { ثمناً قليلاً } . أي عوضاً يسيراً يعني المآكل التي يصيبونها من سفلتهم .
قوله تعالى : { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } . يعني إلا ما يؤديهم إلى النار وهو الرشوة والحرام وثمن الدين ، فلما كان يفضي ذلك بهم إلى النار فكأنهم أكلوا النار وقيل معناه أنه يصير ناراً في بطونهم .
قوله تعالى : { ولا يكلمهم الله يوم القيامة } . أي لا يكلمهم بالرحمة وبما يسرهم إنما يكلمهم بالتوبيخ . وقيل : أراد به أن يكون عليهم غضبان ، كما يقال : فلان لا يكلم فلاناً إذا كان عليه غضبان . { ولا يزكيهم } . أي لا يطهرهم من دنس الذنوب . { ولهم عذاب أليم } .
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ }
هذا وعيد شديد لمن كتم ما أنزل الله على رسله ، من العلم الذي أخذ الله الميثاق على أهله ، أن يبينوه للناس ولا يكتموه ، فمن تعوض عنه بالحطام الدنيوي ، ونبذ أمر الله ، فأولئك : { مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ } لأن هذا الثمن الذي اكتسبوه ، إنما حصل لهم بأقبح المكاسب ، وأعظم المحرمات ، فكان جزاؤهم من جنس عملهم ، { وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } بل قد سخط عليهم وأعرض عنهم ، فهذا أعظم عليهم من عذاب النار ، { وَلَا يُزَكِّيهِمْ } أي : لا يطهرهم من الأخلاق الرذيلة ، وليس لهم أعمال تصلح للمدح والرضا والجزاء عليها ، وإنما لم يزكهم لأنهم فعلوا أسباب عدم التزكية التي أعظم أسبابها العمل بكتاب الله ، والاهتداء به ، والدعوة إليه .
يقول تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ } [ مما يشهد له بالرسالة ]{[3075]} { مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ } يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم ، مما تشهد{[3076]} له بالرسالة والنبوة ، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم إياهم ، فخشوا - لعنهم الله - إن أظهروا ذلك أن يَتَّبعه الناس ويتركوهم ، فكتموا ذلك إبقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك ، وهو نزرٌ يسير ، فباعوا أنفسهم بذلك ، واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله بذلك النزر اليسير ، فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة ؛ أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صِدْقَ رسوله ، بما نصبه وجعله معه من الآيات الظاهرات والدلائل القاطعات ، فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه ، وصاروا عونًا له على قتالهم ، وباؤوا بغضب على غضب ، وذمهم الله في كتابه في غير{[3077]} موضع . من ذلك هذه الآية الكريمة : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا } وهو عرض الحياة الدنيا { أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ } أي : إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق نارا تأجج في بطونهم يوم القيامة . كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [ النساء : 10 ] وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب
والفضة ، إنما يُجَرْجرُ في بطنه نار جهنم " {[3078]} .
وقوله : { وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وذلك لأنه غضبانُ عليهم ، لأنهم كتموا وقد علموا ، فاستحقوا الغضب ، فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم ، أي يثني{[3079]} عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذابا أليما .
وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مَرْدُوَيْه هاهنا [ الحديث الذي رواه مسلم أيضًا من ]{[3080]} حديث الأعمش ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا يكلمهم الله ، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم [ ولهم عذاب أليم ]{[3081]} شيخ زان ، وملك كذاب ، وعائل مستكبر " {[3082]} .
{ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا } عوضا حقيرا . { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } إما في الحال ، لأنهم أكلوا ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه أكل النار كقوله :
أكلت دما إن لم أرعك بضرة *** بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
يعني الدية . أو في المآل أي لا يأكلون يوم القيامة إلا النار . ومعنى في بطونهم : ملء بطونهم . يقال أكل في بطنه وأكل في بعض بطنه كقوله :
{ ولا يكلمهم الله يوم القيامة } عبارة عن غضبه عليهم ، وتعريض بحرمانهم حال مقابليهم في الكرامة والزلفى من الله . { ولا يزكيهم } لا يثني عليهم . { ولهم عذاب أليم } مؤلم .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 174 )
وقوله تعالى : { إن الذين يكتمون } الآية ، قال ابن عباس وقتادة والربيع والسدي : المراد أحبار اليهود الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، و { الكتاب } : التوراة والإنجيل : والضمير في { به } عائد على { الكتاب } ، ويحتمل أن يعود على { ما } وهو جزء من الكتاب ، فيه أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وفيه وقع الكتم لا في جميع الكتاب ، ويحتمل أن يعود على الكتمان ، والثمن القليل : الدنيا والمكاسب ، ووصف بالقلة لانقضائه ونفاده ، وهذه الآية وإن كانت نزلت في الأحبار فإنها تتناول من علماء المسلمين من كتم الحق مختاراً لذلك لسبب دنيا يصيبها( {[1574]} ) .
وذكرت البطون في أكلهم المؤدي إلى النار دلالة على حقيقة الأكل ، إذ قد يستعمل مجازاً في مثل أكل فلان أرضي ونحوه ، وفي ذكر البطن أيضاً تنبيه على مذمتهم بأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له ، وعلى هجنتهم بطاعة بطونهم ، وقال الربيع وغيره : سمي مأكولهم ناراً لأنه يؤول بهم إلى النار( {[1575]} ) ، وقيل : معنى الآية : أن الله تعالى يعاقبهم على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة ، وقوله تعالى : { ولا يكلمهم } قيل : هي عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضى عنهم ، إذ في غير موضع من القرآن ما ظاهره أن الله تعالى يكلم الكافرين ، كقوله { اخسؤوا فيها ولا تكلّمون } ( {[1576]} ) [ المؤمنون : 108 ] ، ونحوه ، فتكون هذه الآية بمنزلة قولك : «فلان لا يكلمه السلطان ولا يلتفت إليه » وأنت إنما تعبر عن انحطاط منزلته لديه ، وقال الطبري وغيره : المعنى ولا يكلمهم بما يحبون ، وقيل : المعنى لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية ، { ولا يزكيهم } معناه : لا يطهرهم من موجبات العذاب ، وقيل : المعنى لا يسميهم أزكياء ، و { أليم } اسم فاعل بمعنى مؤلم .