البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَشۡتَرُونَ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَـٰٓئِكَ مَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ إِلَّا ٱلنَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (174)

البطن : معروف ، وجمعه على فعول قياس ، ويجمع أيضاً على بطنان ، ويقال : بطن الأمر يبطن ، إذا خفي .

وبطن الرجل ، فهو بطين : كبر بطنه .

والبطنة : امتلاء البطن بالطعام .

ويقال : البطنة تذهب الفطنة .

{ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب } : روي عن ابن عباس أنها نزلت في علماء اليهود ، كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا ، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم .

فلما بعث من غيرهم ، غيروا صفته وقالوا : هذا نعت النبي الذي يخرج في آخر الزمان ، حتى لا يتبعوه .

وروي عنه أنه قال : إن الملوك سألوا علماءهم قبل المبعث : ما الذي تجدون في التوراة ؟ فقالوا : نجد أن الله يبعث نبياً من بعد المسيح يقال له محمد ، بتحريم الربا والخمر والملاهي وسفك الدماء .

فلما بعث ، قالت الملوك لليهود : هذا الذي تجدونه في كتابكم ؟ فقالوا ، طمعاً في أموال الملوك : ليس هذا بذلك النبي .

فأعطاهم الملوك الأموال ، فأنزلت إكذاباً لهم .

وقيل : نزلت في كل كاتم حق ، لأخذ غرض أو إقامة غرض من مؤمن ويهودي ومشرك ومعطل .

وإن صح سبب نزول ، فهي عامة ، والحكم للعموم .

وإن كان السبب خاصاً ، فيتناول من علماء المسلمين من كتم الحق مختاراً لذلك ، لسبب دنيا يصيبها .

{ ما أنزل الله من الكتاب } : ظاهره أنه أنزل من علو إلى أسفل ، وأنه تعالى أنزل ملكاً به ، أي بالكتاب على رسوله .

وقيل : معنى أنزل الله ، أي أظهر ، كقوله : { سأنزل مثل ما أنزل الله } ، أي أظهر .

فكون المعنى : أن الذين يكتمون ما أظهر الله ، فيكون الإظهار في مقابلة الكتمان .

وفي المراد بالكتاب هنا أقوال : أحدها : أنه التوراة ، فيكون الكاتمون أحبار اليهود ، كتموا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيروها ، وكتموا آيات في التوراة ، كآية الرجم وشبه ذلك .

وقيل : التوراة والإنجيل ، ووحد اللفظ على المكتوب ، ويكون الكاتمون اليهود والنصارى .

وصف الله نبيه في الكتابين ، ونعته فيهما وسماه فقال : { يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } وقال : { ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } والطائفتان أنكروا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقد شهدت التوراة والإنجيل بذلك ، والنصوص موجودة فيهما ، إلا أن في مواضع منها في التوراة في الفصل التاسع ، وفي الفصل العاشر من السفر الأول ، وفي الفصل العشرين من السفر الخامس .

ومنها في الإنجيل مواضع تدلّ على ذلك ، قد ذكر جميعها ، من تعرض للكلام على ذلك .

وقيل : الكتاب المكتوب ، وهو أعم من التوراة والإنجيل ، فيتناول كل من كتم ما أنزل الله مما يتعلق بالأحكام قديماً وحديثاً ، وكل كاتم لحق وساتر لأمر مشروع .

{ ويشترون به ثمناً قليلاً } : لما تعوضوا عن الكتم شيئاً من سحت الدّنيا ، أشبه ذلك البيع والشراء ، لانطوائهما على عوض ومعوض عنه ، فأطلق عليه اشتراء .

وبه : الضمير عائد على الكتمان ، أو الكتاب ، أو على الموصول الذي هو : ما أقوال ثلاثة ، أظهرها الآخر ، ويكون على حذف مضاف ، أي بكتم ما أنزل الله به .

والفرق بين هذا القول وقول من جعله عائداً على الكتم ، أنه يكون في ذلك القول عائداً على المصدر المفهوم من قوله : { يكتمون } ، وفي هذا عائداً على ما على حذف مضاف ، وتقدم الكلام في تفسير قوله : { ليشتروا به ثمناً قليلاً } فأغنى عن إعادته ، إلا فعل الاشتراء جعل علة هناك وهنا جعل معطوفاً على قوله { يكتمون } ، ورتب الخبر على مجموع الأمرين من الكتم والاشتراء ، لأن الكتم ليست أسبابه منحصرة في الاشتراء ، بل الاشتراء بعض أسبابه .

فكتم ما أنزل الله من الكتاب ، وهو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنكار نبوته وتبديل صفته ، كان لأمور منها البغي ، { بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده } ومنها الخسارة ، لكونه من العرب لا منهم .

ومنها طلب الرياسة ، وأن يستتبعوا أهل ملتهم .

ومنها تحصيل أموالهم ورشاء ملوكهم وعوامهم .

{ أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } : أتى بخبر إن جملة ، لأنها أبلغ من المفرد ، وصدر بأولئك ، إذ هو اسم إشارة دال على اتصاف المخبر عنه بالأوصاف السابقة .

وقد تقدم لنا الكلام في ذلك في قوله : { أولئك على هدى من ربهم } ثم أخبر عن أولئك بأخبار أربعة : الأول : { ما يأكلون في بطونهم إلا النار } ، فمنهم من حمله على ظاهره وقال : إن ذلك يكون في الدنيا ، وإن الرشاء التي هم يأكلونها تصير في أجوافهم ناراً ، فلا يحسون بها إلا بعد الموت .

ومنع تعالى أن يدركوا أنها نار ، استدراجاً وإملاء لهم .

ويكون في هذا المعنى بعض تجوز ، لأنه حالة الأكل لم يكن ناراً ، إنما بعد صارت في بطونهم ناراً .

وقيل : إن ذلك يكون في الآخرة ، فهو حقيقة أيضاً .

واختلفوا فقيل : جميع ما أكلوه من السحت والرشاء في الدنيا يجعل ناراً في الآخرة ، ثم يطعمهم الله إياه في النار .

وقيل : يأمر الزبانية أن تطعمهم النار ليكون عقوبة الأكل من جنسه .

وأكثر العلماء على تأويل قوله : { ما يأكلون في بطونهم إلا النار } ، على معنى : أنهم يجازون على ما اقترفوه من كتم ما أنزل الله ، والاشتراء به الثمن القليل ، بالنار .

وإن ما اكتسبوه بهذه الأوصاف الذميمة مآله إلى النار .

وعبر بالأكل ، لأنه أعظم منافع ما تصرف فيه الأموال .

وذكر في بطونهم ، إما على سبيل التوكيد ، إذ معلوم أن الأكل لا يكون إلا في البطن ، فصار نظير : { ولا طائر يطير بجناحيه } أو كناية عن ملء البطن ، لأنه يقال : فلان أكل في بطنه ، وفلان أكل في بعض بطنه .

أو لرفع توهم المجاز ، إذ يقال : أكل فلان ماله ، إذا بذره ، وإن لم يأكله .

وجعل المأكول النار ، تسمية له بما يؤول إليه ، لأنه سبب النار ، وذلك كما يقولون : أكل فلان الدم ، يريدون الدية ، لأنها بدل من الدم ، قال الشاعر :

فلو أن حياً يقبل المال فدية*** لسقنا إليه المال كالسيل مفعما

ولكن لنا قوم أصيب أخوهم***رضا العار واختاروا على اللبن الدما

وقال آخر :

أكلت دماً إن لم أرعك بضربة*** بعيدة مهوى القرط طيبة النشر

وقال آخر :

تأكل كل ليلة أكافا***

أي ثمن أكاف ، ومعنى التلبس موجود في جميع ذلك .

وتسمية الشيء بما يؤول إليه كثير ، ومن ذلك : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً } ومن ذلك الذي يشرب في آنية الذهب والفضة ، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ، وذكر في بطونهم تنبيهاً على شرهم وتقبيحاً لتضييع أعظم النعم لأجل المطعوم الذي هو أحسن متناول ، قاله الراغب .

وقال ابن عطية نحوه ، قال : وفي ذكر البطن تنبيه على مذهبهم ، بأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له ، وعلى هجنتهم بطاعة بطونهم .

{ ولا يكلمهم الله يوم القيامة } : هذا الخبر الثاني عن أولئك ، وظاهره نفي الكلام مطلقاً ، أعني مباشرتهم بالكلام ، فيكون ما جاء في القرآن ، أو في السنة ، مما ظاهره أنه تعالى يحاورهم بالكلام ، متأولاً بأنه يأمر من يقول لهم ذلك ، نحو قوله تعالى : { قال اخسئوا فيها ولا تكلمون } ويكون في نفي كلامه تعالى إياهم ، دلالة على الغضب عليهم ، ألا ترى أن من غضب على شخص صرمه وقطع كلامه ؟ لأن في التكلم ، ولو كان بشر ، تأنيساً مّا والتفاتاً إلى المكلم .

وقيل : معنى ولا يكلمهم الله : أي يغضب عليهم .

وليس المراد نفي الكلام ، إذ قد جاء في غير موضع ما ظاهره : أنه يكلم الكافرين ، قاله الحسن .

وقيل : المعنى ليس على العموم ، إذ قد جاء في القرآن ما ظاهره أنه يكلمهم ، كقوله : { فوربك لنسألنهم أجمعين } والسؤال لا يكون إلا بالتكليم ، وقال : { قال اخسئوا فيها ولا تكلمون } .

فالمعنى : لا يكلمهم كلام خير وإقبال وتحية ، وإنما يكلمهم كلاماً يشق عليهم .

وقيل : المعنى لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية .

وقيل : ولا يكلمهم الله ، تعريض بحرمانهم حال أهل الجنة في تكرمة الله إياهم بكلامه .

وقيل : المعنى لا يحملهم على الكلام ، لأن من كلمته ، كنت قد استدعيت كلامه ، كأنه قال : لا يستدعي كلامهم فيكون نحو قوله : { ولا يؤذن لهم فيعتذرون } فنفى الكلام ، وهو يراد ما يلزم عنه ، وهو استدعاء الكلام .

{ ولا يزكيهم } : هذا هو الخبر الثالث ، والمعنى : لا يقبل أعمالهم كما يقبل أعمال الأزكياء ، أو لا ينزلهم منزلة الأزكياء .

وقيل : المعنى لا يصلح أعمالهم الخبيثة .

وقيل : المعنى لا يثني عليهم من قولهم : زكى فلاناً ، إذ أثنى عليه ، قاله الزجاج .

وقيل : لا يطهرهم من دنس كفرهم ، وهو معنى قول بعضهم : لا يطهرهم من موجبات العذاب ، قاله ابن جرير .

وقيل : المعنى لا يسميهم أزكياء .

{ ولهم عذاب أليم } : هذا هو الخبر الرابع لأولئك ، وقد تقدم تفسير قوله : { ولهم عذاب أليم } في أول السورة .

وترتب على الكتمان واشتراء الثمن القليل هذه الأخبار الأربعة ، وانعطفت بالواو الجامعة لها .

وعطف الأخبار بالواو ، ولا خلاف في جوازه ، بخلاف أن لا تكون معطوفة ، فإن في ذلك خلافاً وتفصيلاً .

وناسب ذكر هذه الأخبار ما قبلها ، ومناسب عطف بعضها على بعض ، لما نذكره فنقول : متى ذكر وصف ورتب عليه أمر ، فللعرب فيه طريقان : أحدهما : أن تكون تلك الأمور المترتبة على الأوصاف مقابلة لها ، الأول منها لأول تلك الأوصاف ، والثاني للثاني ، فتحصل المقابلة من حيث المعنى ومن حيث الترتيب اللفظي ، حيث قوبل الأول بالأول ، والثاني بالثاني .

وتارة يكون الأول من تلك الأمور مجاوراً لما يليه من تلك الأوصاف ، فتحصل المقابلة من حيث المعنى ، لا من حيث الترتيب اللفظي ، وهذه الآية جاءت من هذا القبيل .

لما ذكر تعالى اشتراءهم الثمن القليل ، وكان ذلك كناية عن مطاعمهم الخسيسة الفانية ، بدأ أولاً في الخبر بقوله : { ما يأكلون في بطونهم إلا النار } .

ثم قابل تعالى كتمانهم الدين والكتمان ، هو أن لا يتكلموا به بل يخفوه بقوله تعالى : { ولا يكلمهم الله } ، فجوزوا على منع التكلم بالدين أن منعوا تكليم الله إياهم ، وابتنى على كتمانهم الدين ، واشترائهم بما أنزل الله ثمناً قليلاً ، أنهم شهود زور وأخبار سوء ، حيث غيروا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وادعوا أن النبي المبتعث هو غير هذا ، فقوبل ذلك كله بقوله : { ولا يزكيهم } .

ثم ذكر أخيراً ما أعد لهم من العذاب الأليم ، فرتب على اشتراء الثمن القليل قوله : { ما يأكلون في بطونهم إلا النار } ، وعلى الكتمان قوله : { ولا يكلمهم الله } ، وعلى مجموع الوصفين قوله : { ولا يزكيهم عذاب أليم } .

فبدأ أولاً : بما يقابل فرداً فرداً ، وثانياً : بما يقابل المجموع .

ولما كانت الجملة الأولى مشتملة على فعل مسند إلى الله ، كان الكلام الذي قابلها فيه فعل مسند إلى الله .

ولما كانت الثانية مسندة إليهم ، ليس فيها إسناد إلى الله ، جاءت الجملة المقابلة لها مسندة إليهم ، ولم يأت ما يطعمهم الله في بطونهم إلا النار .

وناسب ذكر هذه الآية ما قبلها ، لأنه تعالى ذكر في الآية قبلها إباحة الطيبات ، ثم فصل أشياء من المحرمات ، فناسب أن يذكر جزاء من كتم شيئاً من دين الله ، ومما أنزله على أنبيائه ، فكان ذلك تحذيراً أن يقع المؤمنون فيما وقع فيه أهل الكتاب ، من كتم ما أنزل الله عليهم واشترائهم به ثمناً قليلاً .

/خ176