الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَشۡتَرُونَ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَـٰٓئِكَ مَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ إِلَّا ٱلنَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (174)

قوله تعالى : " إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب " يعني علماء اليهود ، كتموا ما أنزل اللّه في التوراة من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وصحة رسالته . ومعنى " أنزل " : أظهر ، كما قال تعالى : " ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله{[1453]} " [ الأنعام : 93 ] أي سأظهر . وقيل : هو على بابه من النزول ، أي ما أنزل به ملائكته على رسله . " ويشترون به " أي بالمكتوم " ثمنا قليلا " يعني أخذ الرشاء . وسماه قليلا لانقطاع مدته وسوء عاقبته . وقيل : لأن ما كانوا يأخذونه من الرشاء كان قليلا .

قلت : وهذه الآية وإن كانت في الأخبار فإنها تتناول من المسلمين من كتم الحق مختارا لذلك بسبب دنيا يصيبها ، وقد تقدم{[1454]} هذا المعنى .

قوله تعالى : " في بطونهم " ذكر البطون دلالة وتأكيدا على حقيقة الأكل ، إذ قد يستعمل مجازا في مثل أكل فلان أرضي ونحوه . وفي ذكر البطون أيضا تنبيه على جشعهم وأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له . ومعنى " إلا النار " أي إنه حرام يعذبهم اللّه عليه بالنار ، فسمي ما أكلوه من الرشاء نارا لأنه يؤديهم إلى النار ، هكذا قال أكثر المفسرين . وقيل : أي إنه يعاقبهم على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة . فأخبر عن المآل بالحال ، كما قال تعالى : " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا{[1455]} " [ النساء : 10 ] أي أن عاقبته تؤول إلى ذلك ، ومنه قولهم :

لدوا للموت وابنوا للخراب{[1456]}

قال :

فللموت ما تلد الوالدة

آخر :

ودورُنا لخراب الدهر نبنيها

وهو في القرآن والشعر كثير .

قوله تعالى : " ولا يكلمهم الله " عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضا عنهم ، يقال : فلان لا يكلم فلانا إذا غضب عليه . وقال الطبري : المعنى " ولا يكلمهم " بما يحبونه . وفي التنزيل " اخسؤوا فيها ولا تكلمون{[1457]} " [ المؤمنون : 108 ] . وقيل : المعنى ولا يرسل إليهم الملائكة بالتحية . " ولا يزكيهم " أي لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم . وقال الزجاج : لا يثني عليهم خيرا ولا يسميهم أزكياء . " أليم " بمعنى مؤلم ، وقد تقدم{[1458]} . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ( ثلاثة لا يكلمهم اللّه يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم : شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر ) . وإنما خص هؤلاء بأليم العذاب وشدة العقوبة لمحض المعاندة والاستخفاف الحامل لهم على تلك المعاصي ، إذ لم يحملهم على ذلك حاجة ، ولا دعتهم إليه ضرورة كما تدعو من لم يكن مثلهم . ومعنى " لا ينظر إليهم " لا يرحمهم ولا يعطف عليهم . وسيأتي في " آل عمران{[1459]} " إن شاء اللّه تعالى .


[1453]:راجع ج 7 ص 40.
[1454]:راجع ج 1 ص 334، ص 9 من هذا الجزء.
[1455]:راجع ج 5 ص 53.
[1456]:اختلف في أنه حديث أو غير حديث، راجع كشف الخلفاء ج 2 ص 140
[1457]:راجع ج 12 ص 153
[1458]:راجع ج 1 ص 198
[1459]:راجع ج 4 ص 119.