معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ} (96)

قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا } . سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للمسلمين : بيت المقدس قبلتنا ، وهو أفضل من الكعبة وأقدم ، وهو مهاجر الأنبياء ، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل ، فانزل الله تعالى { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين . فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا } . وليس شيء من هذه الفضائل لبيت المقدس . واختلف العلماء في قوله تعالى { إن أول بيت وضع للناس للذي } . فقال بعضهم : هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض ، خلقه الله قبل الأرض بألفي عام ، وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحته ، هذا قول عبد الله بن عمر ومجاهد وقتادة والسدي . وقال بعضهم : هو أول بيت بني في الأرض .

روي عن علي بن الحسين : أن الله تعالى وضع تحت العرش بيتاً وهو البيت المعمور ، وأمر الملائكة أن يطوفوا به ، ثم أمر الملائكة الذين هم سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتاً على مثاله وقدرة ، فبنوه واسمه الضراح ، وأمر من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور .

وروي أن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام ، فكانوا يحجونه ، فلما حجه آدم قالت له الملائكة : بر حجك يا آدم ، حججنا هذا البيت قبلك بألف عام ، ويروى عن ابن عباس أنه قال : أراد به ، أنه أول بيت بناه آدم في الأرض وقيل : هو أول بيت مبارك وضع هدى للناس ، يعبد الله فيه ، ويحج إليه ، وقيل : أول بيت جعل قبلة للناس . وقال الحسن والكلبي : معناه أنه أول مسجد ومتعبد وضع للناس ، يروى ذلك عن علي بن أبي طالب . قال الضحاك : أول بيت وضع فيه البركة ، وقيل : أول بيت وضع للناس يعبد الله فيه كما قال الله تعالى : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ) يعني المساجد .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا موسى بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الواحد ، أنا الأعمش ، أخبرنا إبراهيم بن يزيد التيمي عن أبيه قال : سمعت أبا ذر يقول : " قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولاً ؟ قال : المسجد الحرام ، قلت ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى ، قلت : كم كان بينهما ؟ قال : أربعون سنة ، ثم قال : أينما أدركتك الصلاة بعد فصل ، فإن الفضل فيه " . قوله تعالى ( للذي ببكة ) . قال جماعة : هي مكة نفسها ، وهو قول الضحاك ، والعرب تعاقب بين الباء والميم ، فتقول : سيد رأسه وسمده ، وضربه لازب ولازم ، وقال الآخرون بكة موضع البيت في مكة ، ومكة اسم البلد كله . وقيل : بكة موضع البيت والمطاف ، سميت بكة لأن الناس يتباكون فيها ، أي يزدحمون يبك بعضهم بعضا ، ويمر بعضهم بين يدي بعض ، . وقال عبد الله بن الزبير : سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة ، أي تدقها فل يقصدها جبار بسور إلا قصمه الله . وأما مكة سميت بذلك لقلة مائها ، من قول العرب : " مك الفصيل ضرع أمه وأمتكه " إذا امتص كل ما فيه من اللبن ، وتدعى أم رحم لأن الرحمة تنزل بها { مباركاً } نصب على الحال ، أي : ذا بركة { وهدى للعالمين } لأنه قبلة المؤمنين { فيه آيات بينات } قرأ ابن عباس( آية بينة ) على الواحد ، وأراد مقام إبراهيم وحده ، وقرأ الآخرون { آيات بينات } بالجمع ، فذكر منها مقام إبراهيم وهو الحجر الذي قام عليه إبراهيم ، وكان أثر قدميه فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي ، ومن تلك الآيات في البيت الحجر السود ، والحطيم ، وزمزم والمشاعر كلها ، وقيل : مقام إبراهيم جميع الحرم ، ومن الآيات في البيت أن الطير تطير فلا تعلو فوقه ، وأن الجارحة إذا قصدت صيداً فإذا دخل الصيد الحرم كفت عنه ، وإنه بلد صدر إليه الأنبياء والمرسلون والأولياء والأبرار ، وأن الطاعة والصدقة فيها تضاعف بمائة ألف .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أبو محمد بن الحسن بن احمد المخلدي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ، أخبرنا أبو مصعب احمد بن أبي بكر الزهري ، أنا مالك بن أنس ، عن زيد بن رباح ، أخبرنا عبد الله بن عبد الله الأغر ، عن أبي عبد الله الأعمش عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة ، فيما سواه إلا المسجد الحرام " .

قوله تعالى : { ومن دخله كان آمناً } . من أن يهاج فيه ، وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال ( رب اجعل هذا بداً آمناً ) وكانت العرب في الجاهلية يقتل بعضهم بعضاً ، ويغير بعضهم على بعض ، ومن دخل الحرم أمن من القتل والغارة ، وهو المراد من الآية على قول الحسن وقتادة وأكثر المفسرين قال الله تعالى( أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) وقيل : المراد به أن من دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آمناً ، كما قال تعالى ( لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) وقيل : هو خبر بمعنى الأمر تقديره : ومن دخله فأمنوه ، كقوله تعالى( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) أي : لا ترفثوا ولا تفسقوا ، حتى ذهب بعض أهل العلم إلى أن من وجب عليه القتل قصاصاً أو حدا ، ً فالتجأ إلى الحرم فلا يستوفى منه فيه ولكنه لا يطعم ولا يبايع ولا يشارى حتى يخرج منه فيقتل قاله ابن عباس ، وبه قال أبو حنيفة ، وذهب قوم إلى أن القتل الواجب بالشرع يستوفى فيه ، أما إذا ارتكب الجريمة في الحرم فيستوفي فيه عقوبته بالاتفاق . وقيل معناه : ومن دخله معظماً له ، متقرباً إلى الله عز وجل كان آمناً يوم القيامة من العذاب .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ} (96)

ولما أمرهم باتباع ملة إبراهيم في التوحيد وترك الشرك أمرهم باتباعه بتعظيم بيته الحرام بالحج وغيره ، فقال : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }

يخبر تعالى عن شرف هذا البيت الحرام ، وأنه أول بيت وضعه الله للناس ، يتعبدون فيه لربهم فتغفر أوزارهم ، وتقال عثارهم ، ويحصل لهم به من الطاعات والقربات ما ينالون به رضى ربهم والفوز بثوابه والنجاة من عقابه ، ولهذا قال : { مباركا } أي : فيه البركة الكثيرة في المنافع الدينية والدنيوية كما قال تعالى { ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } { وهدى للعالمين } والهدى نوعان : هدى في المعرفة ، وهدى في العمل ، فالهدى في العمل ظاهر ، وهو ما جعل الله فيه من أنواع التعبدات المختصة به ، وأما هدى العلم فبما يحصل لهم بسببه من العلم بالحق بسبب الآيات البينات التي ذكر الله تعالى في قوله{ فيه آيات بينات }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ} (96)

يُخْبر تعالى أن{[5338]} أول بيت وُضع للناس ، أي : لعموم الناس ، لعبادتهم ونُسُكهم ، يَطُوفون به ويُصلُّون إليه ويَعتكِفُون عنده { لَلَّذِي بِبَكَّةَ } يعني : الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل [ عليه السلام ]{[5339]} الذي يَزْعم كل من طائفتي النصارى واليهود أنهم على دينه ومنهجِه ، ولا يَحجُّون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله له في ذلك ونادى الناس إلى حجه . ولهذا قال : { مُبَارَكًا } أي وُضع مباركا { وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ }

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التَّيْميّ ، عن أبيه ، عن أبي ذَر ، رضي الله عنه ، قال قلتُ : يا رسولَ الله ، أيُّ مَسجِد وُضِع في الأرض أوَّلُ ؟ قال : " الْمسْجِدُ الْحَرَامُ " . قلت : ثم أَيُّ ؟ قال : " الْمسجِدُ الأقْصَى " . قلت : كم بينهما ؟ قال : " أرْبَعُونَ سَنَةً " . قلتُ : ثم أَيُّ ؟ قال : ثُم حَيْثُ أدْرَكْت{[5340]} الصَلاةَ فَصَلِّ ، فَكُلُّهَا مَسْجِدٌ " .

وأخرجه البخاري ، ومسلم ، من حديث الأعمش ، به{[5341]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصَّبَّاحِ ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا شَرِيك عن مُجالد ، عن الشَّعْبيّ عن علِيّ في قوله تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا } قال : كانت البيوت قبلة ، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله [ تعالى ]{[5342]} .

[ قال ]{[5343]} وحدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن الربيع ، حدثنا أبو الأحْوَص ، عن سِماك ، عن خالد ابن عَرْعَرة قال : قام رجل إلى عَليّ فقال : ألا تُحَدِّثني عن البيت : أهو أولُ بيت وُضِع في الأرض ؟ قال{[5344]} لا ولكنه أول بيت وضع فيه البركة مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا . وذكر تمام الخبر في كيفية بناء إبراهيم البيت ، وقد ذكرنا ذلك مُستَقصًى في سورة البقرة فأغْنَى عن إعادته{[5345]} .

وزعم السُّدِّي أنه أولُ بيت وضع على وجه الأرض مطلقا . والصحيحُ قولُ علِيّ [ رضي الله عنه ]{[5346]} فأما الحديث الذي رواه البيهقي في بناء الكعبة في{[5347]} كتابه دلائل النبوة ، من طريق ابن لَهِيعة ، عن يَزيد بن أبي حَبيب ، عن أبي الخير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا : " بَعَثَ اللهُ جِبْرِيلَ إلَى آدَمَ وحَوَّاءَ ، فَأمَرَهُمَا بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ ، فَبَنَاهُ آدَمُ ، ثُمَّ أمَرَ بِالطَّوَافِ بِهِ ، وَقِيلَ لَهُ : أنْتَ أوَّلُ النَّاسِ ، وهَذَا أوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ للنَّاسِ " {[5348]} فإنَّهُ كَمَا تَرَى مِنْ مُفْرَدَاتِ ابْنِ لَهِيعة ، وهو ضعيف . والأشْبَهُ ، والله أعلمُ ، أن يكون هذا مَوْقُوفا على عبد الله بن عَمْرو . ويكون من الزاملتين اللتين {[5349]} أصابهما يوم الْيَرْمُوك ، من كلام أهل الكتاب .

وقوله تعالى : { لَلَّذِي بِبَكَّةَ } بَكَّة : من أسماء مكة على المشهور ، قيل{[5350]} سُمِّيت بذلك لأنها تَبُكّ أعناق الظلمة والجبابرة ، بمعنى : يُبَكون{[5351]} بها ويخضعون عندها . وقيل : لأن الناس يَتَبَاكّون فيها ، أي : يزدحمون .

قال قتادة : إن الله بَكَّ به الناس جميعا ، فيصلي{[5352]} النساء أمام الرجال ، ولا يفعل ذلك ببلد غيرها .

وكذا روي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعَمْرو بن شُعَيب ، ومُقاتل بن حَيَّان .

وذكر حَمّاد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : مَكَّة من الفجّ إلى التنعيم ، وبكّة من البيت إلى البطحاء .

وقال شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم : بَكَّة : البيت والمسجد . وكذا قال الزهري .

وقال عكرمة في رواية ، وميمون بن مِهْران : البيت وما حوله بكة ، وما وراء ذلك مكة .

وقال أبو صالح ، وإبراهيم النّخَعي ، وعطية [ العَوْفي ]{[5353]} ومقاتل بن حيان : بكة موضع البيت ، وما سوى ذلك مكة .

وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة : مكة ، وبكة ، والبيت العتيق ، والبيت الحرام ، والبلد الأمين ، والمأمون ، وأُمَّ رُحْم ، وأم القُّرَى ، وصلاح ، والعرْش على وزن بدر ، والقادس ؛ لأنها تطهر من الذنوب ، والمقدسة ، والناسّة : بالنون ، وبالباء أيضا ، والحاطمة ، والنسَّاسة {[5354]} والرأس ، وكُوثى ، والبلدة ، والبَنِيَّة ، والكعبة .


[5338]:في جـ: "بأن".
[5339]:زيادة من و.
[5340]:في أ: "أدركتك".
[5341]:المسند (5/150) وصحيح البخاري برقم (3366، 3425) وصحيح مسلم برقم (520).
[5342]:زيادة من أ، و.
[5343]:زيادة من و.
[5344]:في ر، أ، و: "فقال".
[5345]:تفسير ابن أبي حاتم (2/403).
[5346]:زيادة من أ، و.
[5347]:في أ، و: "من".
[5348]:دلائل النبوة للبيهقي (2/45) وقال البيهقي: "تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعا".
[5349]:في أ: "اللذين".
[5350]:في ر: "وقيل".
[5351]:في و: "يذلون".
[5352]:في جـ، ر: "فتصلي".
[5353]:زيادة من جـ، أ، و.
[5354]:في جـ، ر: "النساسة والحطامة".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ} (96)

{ إن أول بيت وضع للناس } أي وضع للعبادة وجعل متعبدا لهم ، والواضع هو الله تعالى . ويدل عليه أنه قرئ على البناء للفاعل . { للذي ببكة } للبيت الذي { ببكة } ، وهي لغة في مكة كالنبيط والنميط ، وأمر راتب وراتم ولازب ولازم ، وقيل هي موضع المسجد . ومكة البلد من بكة إذا زحمه ، أو من بكة إذا دقه فإنها تبك أعناق الجبابرة روي ( أنه عله الصلاة والسلام سئل عن أول بيت وضع للناس فقال : المسجد الحرام ، ثم بيت المقدس . وسئل كم بينهما فقال أربعون سنة ) . وقيل أول من بناه إبراهيم ثم هدم فبناه قوم من جرهم ، ثم العمالقة ، ثم قريش . وقيل هو أول بيت بناه آدم فانطمس في الطوفان ، ثم بناه إبراهيم . وقيل : كان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح يطوف به الملائكة ، فلما أهبط آدم أمر بأن يحجه ويطوف حوله ورفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السماوات وهو لا يلائم ظاهر الآية . وقيل المراد إنه أول بيت بالشرف لا بالزمان . { مباركا } كثير الخير والنفع لمن حجه واعتمره واعتكف دونه وطاف حوله ، حال من المستكن في الظرف { وهدى للعالمين } لأنه قبلتهم ومتعبدهم ، ولأن فيه آيات عجيبة كما قال :

{ فيه آيات بينات } كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الأعصار ، وأن ضواري السباع تخالط الصيود في الحرم ولا تتعرض لها ، وإن كل جبار قصده بسوء قهره الله كأصحاب الفيل . والجملة مفسرة للهدى ، أو حال أخرى . { مقام إبراهيم } مبتدأ محذوف خبره أي منها مقام إبراهيم ، أو بدل من آيات بدل البعض من الكل . وقيل عطف بيان على أن المراد بالآيات أثر القدم في الصخرة الصماء وغوصها فيها إلى الكعبين ، وتخصيصها بهذه الإلانة من بين الصخار وإبقاؤه دون سائر آثار الأنبياء وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنة . ويؤيده أنه قرئ " آية " بينة على التوحيد . وسبب هذا الأثر أنه لما ارتفع بنيان الكعبة قام على هذا الحجر ليتمكن من رفع الحجارة فغاصت فيه قدماه . { ومن دخله كان آمنا } جملة ابتدائية ، أو شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام لأنه في معنى أمن من دخله أي ومنها أمن من دخله ، أو فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله . اقتصر بذكرهما من الآيات الكثيرة وطوى ذكر غيرهما كقوله عليه السلام " حبب إلي من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة " لأن فيها غنية عن غيرها في الدارين بقاء الأثر مدى الدهر والأمن من العذاب يوم القيامة ، قال عليه السلام : " من مات في أحد الحرمين ، بعث يوم القيامة آمنا " . وعند أبي حنيفة من لزمه القتل بردة أو قصاص أو غيرهما والتجأ إلى الحرم لم يتعرض له ولكن ألجئ إلى الخروج { ولله على الناس حج البيت } قصده للزيارة على الوجه المخصوص . وقرئ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص ( حج ) بالكسر وهي لغة نجد . { من استطاع إليه سبيلا } بدل من الناس بدل البعض من الكل مخصص له ، وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستطاعة " بالزاد والراحلة " وهو يؤيد قول الشافعي رضي الله عنه إنها بالمال ، ولذلك أوجب الاستنابة على الزمن إذا وجد أجرة من ينوب عنه . وقال مالك رحمه الله تعالى إنها بالبدن فيجب على من قدر على المشي والكسب في الطريق . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إنها بمجموع الأمرين . والضمير في إليه للبيت ، أو الحج وكل ما أتى إلى الشيء فهو سبيله . { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } وضع كفر موضع من لم يحج تأكيدا لوجوبه وتغليظا على تاركه ، ولذلك قال عليه السلام " من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا " وقد أكد أمر الحج في هذه الآية من وجوه الدلالة على وجوه بصيغة الخبر ، وإبرازه في الصورة الإسمية وإيراده على وجه يفيد أنه حق واجب لله تعالى في رقاب الناس ، وتعميم الحكم أولا ثم تخصيصه ثانيا فإنه كإيضاح بعد إيهام وتثنية وتكرير للمراد ، وتسمية ترك الحج كفرا من حيث إنه فعل الكفرة ، وذكر الاستغناء فإنه في هذا الموضع مما يدل على المقت والخذلان وقوله : { عن العالمين } يدل عليه لما فيه من مبالغة التعميم والدلالة على الاستغناء عنه بالبرهان والإشعار بعظم السخط ، لأنه تكليف شاق جامع بين كسر النفس وإتعاب البدن وصرف المال والتجرد عن الشهوات والإقبال على الله . روي ( أنه لما نزل صدر الآية جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباب الملل فخطبهم وقال إن الله تعالى : كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وكفرت به خمس ملل فنزل ومن كفر ) .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ} (96)

وقرأ جمهور الناس : «وُضع » على بناء الفعل للمفعول على معنى وضعه الله ، فالآية على هذا ابتداء معنى منقطع من الكلام الأول ، وقرأ عكرمة ، «وَضع » بفتح الواو والضاد ، فيحتمل أن يريد : وضع الله ، فيكون المعنى منقطعاً كما هو في قراءة الجمهور ، ويحتمل أن يريد وضع إبراهيم عليه السلام ، فيكون المعنى متصلاً بالذي قبله ، وتكون هذه الآية استدعاء لهم إلى ملته ، في الحج وغيره على ما روى عكرمة : أنه لما نزلت { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً } الآية : قال اليهود : نحن على الإسلام فقرئت ، { ولله على الناس حج البيت } [ آل عمران : 97 ] قيل له : أحجهم يا محمد ، إن كانوا على ملة إبراهيم التي هي الإسلام .

قال القاضي أبو محمد : ويؤيد هذا التأويل ما قال أبو ذر رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال : المسجد الحرام ، قلت ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى ، قلت : كم بينهما ؟ قال ( أربعون سنة ) {[3337]} ، فيظهر من هذا أنهما من وضع إبراهيم جميعاً ، ويضعف ما قال الزجّاج : من أن بيت المقدس من بناء سليمان بن داود ، اللهم إلا أن يكون جدده ، وأين مدة سليمان ، من مدة إبراهيم ؟ ولا مرية في أن إبراهيم وضع بيت مكة ، وإنما الخلاف هل وضع بدأة أو وضع تجديد ؟ واختلف المفسرون في معنى هذه الأولية التي في قوله : { إن أول } فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : معنى الآية أن أول بيت وضع مباركاً وهدى هذا البيت الذي ببكة وقد كانت قبله بيوت لم توضع وضعه من البركة والهدى ، وقال قوم : بل هو أول بيت خلق الله تعالى ومن تحته دحيت الأرض{[3338]} .

قال الفقيه القاضي أبو محمد : ورويت في هذا أقاصيص من نزول آدم به من الجنة ومن تحديد ما بين خلقه ودحو الأرض ، ونحو ما قال الزجّاج : من أنه البيت المعمور أسانيدها ضعاف فلذلك تركتها ، وعلى هذا القول يجيء رفع إبراهيم القواعد تجديداً ، قال قتادة : ذكر لنا أن البيت أهبط مع آدم ورفع وقت الطوفان{[3339]} ، واختلف الناس في { بكة } ، فقال الضحاك وجماعة من العلماء : «بكة » هي مكة ، فكأن هذا من إبدال الباء بالميم ، على لغة مازن وغيرهم ، وقال ابن جبير وابن شهاب وجماعة كثيرة من العلماء مكة الحرم كله ، و «بكة » مزدحم الناس حيث يتباكون ، وهو المسجد وما حول البيت ، وقال مالك في سماع ابن القاسم من العتبية : «بكة » موضع البيت ، ومكة غيره من المواضع ، قال ابن القاسم : يريد القرية ، قال الطبري : ما خرج عن موضع الطواف فهو مكة لا بكة ، وقال قوم : «بكة » ، ما بين الجبلين ومكة ، الحرم كله ، و { مباركاً } نصب على الحال ، والعامل فيه على قول علي بن أبي طالب إنه أول بيت وضع بهذه الحال ، قوله : { وضع } والعامل فيه على القول الآخر الفعل الذي تتعلق به باء الجر في قوله { ببكة } تقديره : استقر ببكة مباركاً ، وفي وصف البيت ب { هدى } مجازية بليغة ، لأنه مقوم مصلح ، فهو مرشد ، وفيه إرشاد ، فجاء قوله ، { وهدى } بمعنى وذا هدى ، ويحتمل أن يكون { هدى } في هذه الآية ، بمعنى الدعاء ، أي من حيث دعي العالمون إليه .


[3337]:- أخرجه البخاري، ومسلم، وغيرهما- عن أبي ذر (فتح القدير: 1/332)
[3338]:- أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي، في الشعب عن ابن عمر، وأخرج نحوه ابن المنذر عن أبي هريرة. (فتح القدير. 1: 332)
[3339]:- انظر تفسير الطبري 4/8