قوله سبحانه : { إن أول بيت وضع للناس } قال مجاهد : هو جواب عن شبهة أخرى لليهود وذلك أنهم قالوا : بيت المقدس أفضل من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء وأرض المحشر وقبلة الأنبياء . فكان تحويل القبلة منه إلى الكعبة كالطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : إن الآية المتقدمة سيقت لجواز النسخ ، وإن أعظم الأمور التي أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخها هو القبلة ، فذكر عقيب ذلك ما لأجله حولت القبلة إلى الكعبة . وقيل : لما انجر الكلام في الآية المتقدمة إلى قوله : { فاتبعوا ملة إبراهيم } وكان الحج من أعظم شعائر ملته ، أردفها بفضيلة البيت ليفرع عليها إيجاب الحج . وقيل : زعم كل من اليهود والنصارى أنه على ملة إبراهيم ، فبين الله تعالى ما يدل على كذبهم من حيث إن حج البيت كان من ملة إبراهيم وأهل الكتاب لا يحجون .
قالت العلماء : الأول هو الفرد السابق ، فلو قال : أول عبد أشتريه فهو حر . فلو اشترى عبدين في المرة الأولى لم يعتق واحد منهما لفقد قيد الفرد . ولو اشترى في المرة الثانية عبداً واحداً لم يعتق أيضاً لفقدان قيد السابق . ومعنى كونه موضوعاً للناس أنه جعل متعبدهم وموضع طاعتهم يتوجهون نحوه من جميع الأقطار ، وليس كل أول يقتضي أن يكون له ثانٍ فضلاً أن يشاركه في جميع خواصه ، فلا يلزم من كونه أول أن يكون بيت المقدس مثلاً ثانياً له ولا مشاركاً في وجوب الحج والاستقبال وغيرهما من الخواص . ثم إن كونه أول بيت وضع للناس يحتمل أن يكون المراد أنه أول في البناء والوضع ، ويحتمل أن يراد أنه أول في الوضع وإن كان متأخراً في البناء ، فلا جرم حصل فيه للمفسرين قولان : الأول أنه أول في بنائه ووضعه جميعاً . روى الواحدي رحمه الله في البسيط بإسناده عن مجاهد أنه قال : خلق الله هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً من الأرضين . وفي رواية أخرى : خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً من الأرض بألفي سنة ، وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى ، وروى أيضاً عن محمد بن عبي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن آبائه قال : إن الله تعالى بعث ملائكة فقال : ابنوا لي في الأرض بيتاً على مثال البيت المعمور . وأمر الله تعالى من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور . وهذا كان قبل خلق آدم وقد ورد في سائر كتب التفسير عن عبد الله بن عمر ومجاهد والسدي أنه أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق الأرض والسماء ، وقد خلقه الله قبل الأرض بألفي عام ، وكان زبدة بيضاء على الماء ثم دحيت الأرض من تحته . وعن الزهري قال : بلغني أنهم وجدوا في مقام إبراهيم ثلاثة صفوح في كل صفح منها كتاب . في الصفح الأول : " أنا الله ذو بكة وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء وباركت لأهلها في اللحم واللبن " . وفي الثاني : " أنا الله ذو بكة ، خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي . من وصلها وصلته ، ومن قطعها قطعته " . وفي الثالث : " أنا الله ذو بكة خلقت الجن والإنس فطوبى لمن كان الخير على يديه وويل لمن كان الشر على يديه " . وقد يستدل على صحة هذا القول بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة " ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض " . وتحريم مكة لا يمكن إلا بعد وجودها ولأنه تعالى سماها أم القرى ، وهذا يقتضي سبقها على سائر البقاع ، ولأن تكليف الصلاة كان ثابتاً في أديان جميع الأنبياء .
وأيضاً قال تعالى في سورة مريم { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم } إلى قوله :{ خروا سجداً }[ مريم :58 ] والسجدة لا بد لها من قبلة . فلو كانت قبلتهم غير الكعبة لم تكن هي أول بيت وضع للناس هذا محال خلف . القول الثاني : روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أول مسجد وضع للناس ؟ فقال : " المسجد الحرام ثم بيت المقدس فسئل كم بينهما ؟ قال : أربعون سنة " وعن علي أن رجلاً قال له : هو أول بيت ؟ قال : لا . قد كان قبله بيوت ، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً ، فيه الهدى والرحمة والبركة . واعلم أن الغرض الأصلي من ذكر هذه الأوّلية بيان الفضيلة وترجيحه على بيت المقدس . ولا تأثير لأولية البناء في هذا المقصود ، وإن كان الأرجح ثبوت تلك الأولية أيضاً كما روينا آنفاً ، وفي سورة البقرة أيضاً من الأخبار والآثار . فمن فضائل البيت أن الآمر ببنائه الرب الجليل ، والمهندس جبرائيل ، وبانية إبراهيم الخليل وتلميذة ابنه إسماعيل . ومنها أنه محل إجابة الدعوات ومهبط الخيرات والبركات ، ومصعد الصلوات والطاعات ، ومنها مقام إبراهيم كما يجيء ، ومنه قلة ما يجتمع من حصى الجمار فيه فإنه منذ ألف سنة يرمي في كل سنة خمسمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاة ثم لا يرى هناك إلا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير . وليس الموضع الذي يرمي إليه الجمرات مسيل ماء أو مهب رياح شديدة ، وقد جاء في الآثار أن كل من كانت حجته مقبولة رفعت جمراته إلى السماء . ومنها أن الطيور تترك المرور فوق الكعبة وتنحرف عنها ألبتة إذا وصلت إلى محاذاتها . ومنها أن الحيوانات المتضادة في الطبائع لا يؤذي بعضها بعضاً عنده كالكلاب والظباء ، ومنها أمن سكانها فلم ينقل ألبتة أن ظالماً هدم الكعبة أو خرب مكة بالكلية ، وأما بيت المقدس فقد هدمه بختنصر بالكلية ، وقصة أصحاب الفيل سوف تجيء في موضعها إن شاء العزيز ، ومنها أنه تعالى وضعها بواد غير ذي زرع لفوائد منها : أنه قطع بذلك رجاء أهل حرمه وسدنة بيته عمن سواه حتى لا يتوكلوا إلا على الله . ومنها أنه مع كونه كذلك يجبى إليه ثمرات كل شيء وذلك بدعوة خليلة إبراهيم صلى الله عليه وسلم وإنه من أعظم الآيات ، ومنها أن لا يسكنها أحد من الجبابرة لأنهم يميلون إلى طيبات الدنيا ، فيبقى ذلك الموضع المنيف والمقام الشريف مطهراً عن لوث وجود أرباب الهمم الدنية . ومنها أن لا يقصدها الناس للتجارة بل يأتون لمحض العبادة والزيارة . ومنها أنه تعالى أظهر بذلك شرف الفقر حيث وضع أشرف البيت في أقل المواضع نصيباً من الدنيا فكأنه تعالى يقول : جعلت الفقراء في الدنيا أهل البلد الأمين لأجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين .
ومنها كأنه قيل : كما لم أجعل الكعبة إلا في موضع خال عن جميع نعم الدنيا فكذا لا أجعل كعبة المعرفة إلا في قلب خال عن محبة الدنيا { للذي ببكة } . للبيت الذي ببكة . قال في الكشاف : وهي علم للبلد الحرام . ومكة وبكة لغتان كراتب وراتم . وضربة لازم ولازب مما يعتقب فيه الميم والباء لتقارب مخرجهما . وقيل : مكة البلد وبكة موضع المسجد . وفي الصحاح بكة اسم لبطن مكة . وأما اشتقاق بكة فمن قولهم بكة إذا زحمه ودفعه ، وعن سعيد بن جبير : سميت بكة لأنهم يتباكون فيها أي يزدحمون في الطواف وهو قول محمد بن علي الباقر ومجاهد وقتادة . قال بعضهم : رأيت محمد بن علي الباقر يصلي . فمرت امرأة بين يديه فذهبت أدفعها فقال : دعها فإنها سميت بكة لأنه يبك بعضهم بعضاً ، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي ولا بأس بذلك في هذا المكان . ويؤكد هذا القول من قال : إن بكة موضع المسجد لأن المطاف هناك وفيه الازدحام . ولا شك أن بكة غير البيت لأن الآية تدل على أن البيت حاصل في بكة ، والشيء لا يكون ظرفاً لنفسه ، وقيل : سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها ، لم يقصدها جبار بسوء إلا اندقت عنقه . وأما مكة فاشتقاقها من قولك أمتك الفصيل ضرع أمه إذا امتص ما فيه واستقصى ، فسميت بذلك لأنها تجذب الناس من كل جانب وقطر أو لقلة مائها كأن أرضها امتصت ماءها . وقيل : إن مكة وسط الأرض ، والعيون والمياه تنبع من تحتها ، فكأن الأرض كلها تمك من ماء مكة . ثم إنه تعالى وصف البيت بكونه مباركاً وهدى للعالمين . أما انتصابه فعلى الحال عن الضمير المستكن في الظرف ، لأن التقدير للذي ببكة هو والعامل فيه معنى الاستقرار . وأما معناه فالبركة إما النمو والتزايد وكثرة الخير ، وإما البقاء والدوام . وكل شي ثبت ودام فقد برك ، ومنه برك البعير إذا وضع صدره على الأرض والبركة شبه الحوض لثبوت الماء فيها ، وتبارك الله لثبوته لم يزل ولا يزال ، والبيت مبارك لما يحصل لمن حجه واعتمره وعكف عنده وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب . قال صلى الله عليه وسلم : " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " وقال صلى الله عليه وسلم : " الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " ولو استحضر العاقل في نفسه أن الكعبة كالنقطة وصفوف المتوجهين إليها في الصلوات في أقطار الأرض وأكنافها ولعمري إنها غير محصورة كالدوائر المحيطة بالمركز ، ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية ، وقلوبهم قدسية ، وأسرارهم نورانية ، وضمائرهم ربانية ، علم أنه إذا توجهت تلك الأرواح الصافية إلى كعبة المعرفة واستقبلت أجسادهم هذه الكعبة الحسية ، اتصلت أنوار أولئك الأرواح بنوره وعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره .
قال القفال : يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله :{ يجبى إليه ثمرات كل شيء }[ القصص :57 ] فيكون كقوله :{ إلى الأرض }[ الأنبياء :71 ] المقدسة { التي باركنا فيها }[ الأنبياء :71 ] وإن فسرنا البركة بالدوام فلا شك أنه لا تنفك الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود . وإذا كانت الأرض كرة وكل آن يفرض فإنه صبح لقوم ظهر لآخرين وعصر لغيرهم أو مغرب أو عشاء ، فلا تخلو الكعبة عن توجه قوم إليها ألبتة . وأيضاً بقاء الكعبة على هذه الحالة ألوفاً من السنين دوام . وأما كونه هدى للعالمين فلأنه قبلتهم ومتعبدهم أو لأنه يدل على وجود الصانع وصدق محمد صلى الله عليه وسلم بما فيه من الآيات والأعاجيب ، أو لأنه يهدي إلى الجنة . ومعنى هدى هادياً أو ذا هدى قاله الزجاج ، وجوز أن يكون محله رفعاً أي وهو هدى