فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ} (96)

( إن أول بيت ) هذا شروع في بيان شئ آخر مما جادلت فيه اليهود بالباطل ، وذلك انهم قالوا إن بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لكونه مهاجر الأنبياء وأرض المحشر ، وفي الأرض المقدسة وقبلتهم فرد الله ذلك عليهم ، ونبه تعالى بكونه أول متعبد على أنه أفضل من غيره- والأول هو الفرد السابق المتقدم على ما سواه ، وقيل هو إسم للشئ الذي يوجد ابتداء سواء حصل عقبه شئ آخر أو لم يحصل .

قال علي كانت البيوت قبله ، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله قبل خلق آدم بألفي عام ، ووضع بعده الأقصى وبينهما أربعون سنة كما في حديث الصحيحين ، وهذا يقتضي أن الأقصى ، بنته الملائكة أيضا . . وقد اختلف في الباني له في الابتداء فقيل الملائكة ، وقيل آدم ، وقيل إبراهيم ، ويجمع بين ذلك بأن أول من بناه الملائكة ثم جدده آدم ثم إبراهيم .

( وضع للناس ) أي جميعهم كما قال ( سواء العاكف فيه والباد ) وضعه الله موضعا للطاعات والعبادات ، وقبلة للصلاة ومقصدا للحج والعمرة ، ومكانا للطواف تزداد فيه الخيرات وثواب الحسنات وأجر الطاعات .

( للذي ببكة ) بكة علم للبلد الحرام وكذا مكة وهما لغتان ، فإن العرب تعاقب بين الباء والميم كلازب ولازم ، ونبيت ونميت ، إسم موضع ، وراتب وراتم ، وقيل أن بكة إسم لموضع البيت ، ومكة اسم للبلد الحرام ، وقيل بكة للمسجد ومكة للحرم كله ، قيل سميت بذلك لأنها كانت تبك أي تدق أعناق الجبابرة .

و أما تسميتها بمكة فقيل سميت بذلك لقلة مائها . وقيل لأنها تمك المخ من العظم بما ينال سكانها من المشقة ، ومنه مككت العظم إذا أخرجت ما فيه ، ومك الفصيل ضرع أمه وامتكه إذا امتصه ، وقيل سميت بذلك لأنها تمك من ظلم فيها أي تهلكه ، وقيل لأنها تمك الذنوب أي تزيلها وتمحوها .

( مباركا ) يعني ذا بركة ، وأصل البركة النمو والزيادة ، والبركة هنا كثرة الخير الحاصل لمن استقر فيه او يقصده أي الثواب المتضاعف . وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام " أخرجه البخاري ومسلم{[351]} .

( وهدى للعالمين ) أي لأنه قبلة للمؤمنين يهتدون به إلى جهة صلاتهم ، وقيل لأن فيه دلالة على وجود الصانع المختار لما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره ، وقيل هدى لهم إلى الجنة .

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول ، قال : المسجد الحرام ، قلت ثم أي قال المسجد الأقصى ، قلت كم بينهما قال أربعون سنة{[352]} .

وعن ابن عمر قال خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة ، “وكان إذ كان عرشه على الماء زبدة بيضاء وكانت الأرض تحته كأنها حشفة فدحيت الأرض من تحته " أخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب وابن جرير وابن المنذر .


[351]:مسلم 1394 البخاري 646.
[352]:مسلم 520 البخاري 1589.