اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ} (96)

في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه :

الأول : أن المرادَ منه : الجواب عن شبهةٍ أخْرَى من شُبَهِ اليهود في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لمَّا حُوِّل إلى الكعبةِ ، طَعَنَ اليهودُ في نبوَّتِهِ ، وقالوا : إنَّ بيتَ المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال ؛ لأنه وُضِع قبل الكعبة ، وهو أرضُ المحشَر ، وقبلةُ جُملة الأنبياء ، وإذا كان كذلك فتحويل القبلةِ منه إلى الكعبة باطل ، وأجابهم الله بقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } هو الكعبة ، فكان جَعْلُه قِبْلَةً أوْلَى .

الثاني : أن المقصود من الآيةِ المتقدمةِ بيان النسخ ، هل يجوز أم لا ؟ واستدلَّ - عليه السلام - على جوازه ، بأن الأطعمة كانت مُباحةً لبني إسرائيلَ ، ثم إن الله تعالى حرَّم بعضَها ، والقوم نازعوه فيه ، وأعظم الأمور التي أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخه هو القبلة ، فذكر الله - في هذه الآيات - بيان ما لأجله حُوِّلَت القبلة إلى الكعبة ، وهو كَوْنُ الكعبة أفضلَ من غيرها .

الثالث : أنه - تعالى - لما قال في الآية المتقدمةِ : { فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 95 ] ، وكان من أعظم شعائر ملة إبراهيمَ الحَجُّ - ذكر في هذه الآية فضل البيت ؛ ليُفَرِّعَ عليه إيجابَ الحَجِّ .

الرابع : أنه لما تقدَّم مناظرة اليهود والنصارى ، وزعموا أنهم على ملة إبراهيم ، فبيّن الله كذبهم في هذه الآية من حيث إن حَجَّ الكعبةِ كان ملةَ إبراهيمَ ، وهم لا يَحُجُّون ، فدل ذلك على كذِبهم .

قوله : { وُضِعَ لِلنَّاسِ } هذه الجملة في موضع خفض ؛ صفة ل " بَيْتٍ " .

وقرأ العامة " وُضِعَ " مبنيًّا للمفعول . وعكرمة وابن السميفع " وضَعَ " مبنيًّا للفاعل{[5739]} .

وفي فاعله قولان :

أحدهما : - وهو الأظهر - أنه ضمير إبراهيم ؛ لتقدُّم ذِكْرِه ؛ ولأنه مشهور بعمارته .

والثاني : أنه ضمير الباري تعالى ، و " لِلنَّاسٍ " متعلق بالفعل قبله ، واللام فيه للعلة .

و " للذي " بِبَكَّة " خبر " إنَّ " وأخبر - هنا - بالمعرفة - وهو الموصول - عن النكرة - وهو " أول بَيْتٍ " - لتخصيص النكرة بشيئين : الإضافة ، والوصف بالجملة بعده ، وهو جائز في باب " إن " ، ومن عبارة سيبويه : إن قريباً منك زيدٌ ، لما تخصص " قريباً " بوصفه بالجار بعده ساغ ما ذكرناه ، وزاده حُسْناً - هنا - كونه اسماً ل " إنَّ " ، وقد جاءت النكرة اسماً ل " إنَّ " - وإن لم يكن تخصيص - كقوله : [ الطويل ]

وَإنَّ حَرَاماً أن أسُبَّ مُجَاشِعاً *** بِآبَائِيَ الشُّمِّ الْكِرَامِ الخَضَارِمِ{[5740]}

وببكة صلة ، و الباء فيه ظرفية ، أي : في مكة .

وبكة فيها أربعة أوجه :

أحدها : أنها مرادفة ل " مكة " فأبدلت ميمها باءً ، قالوا : والعرب تُعَاقِب بين الباء والميم في مواضع ، قالوا : هذا على ضربة لازم ، ولازب ، وهذا أمر راتب ، وراتم ، والنبيط والنميط وسبد رأسه وسمَدَها ، وأغبطت الحمى ، وأغمطت .

وقيل : إنها اسم لبطن مكة ، ومكة اسم لكل البلد .

وقيل : إنها اسم لمكان البيت .

وقيل : إنها اسم للمسجد نفسه ، وأيدوا هذا بأن التباكّ وهو : الازدحام إنما يحصل عند الطواف ، يقال : تباكَّ الناسُ - أي : ازْدَحموا ، ويُفْسِد هذا القولَ أن يكون الشيء ظرفاً لنفسه ، كذا قال بعضهم ، وهو فاسد ، لأن البيت في المسجد حقيقةً .

وقال الأكثرون : بكة : اسم للمسجد والمطاف ، ومكة : اسم البلد ، لقوله تعالى : { لَلَّذِي بِبَكَّةَ } فدل على أن البيت مظروف في بكة ، فلو كان بكة اسماً للبيت لبطل كون بكةَ ظرفاً له .

وسميت بكة ؛ لازدحام الناس ، قاله مجاهد وقتادة{[5741]} ، وهو قول محمد بن علي الباقر .

وقال بعضهم : رأيت محمد بن علي الباقر يصلي ، فمرت امرأة بين يديه ، فذهبت أدْفَعها ، فقال : دعها ، فإنها سُمِّيَتْ بكةَ ، لأنه يبكُّ بعضُهم بعضاً ، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي ، والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي ، ولا بأس بذلك هنا{[5742]} .

وقيل : لأنها تبكُّ أعناق الجبابرة - أي : تدقها .

قال قطرب : تقول العرب : بَكَكْتهُ ، أبُكُّهُ ، بَكًّا ، إذا وضعت منه .

وسميت مكة - من قولهم : مَكَكْتُ المخ من العظم ، إذا استقصيته ولم تترك فيه شيئاً .

ومنه : مَكَّ الفصيل ما في ضَرْعِ أمِّه - إذا لم يترك فيه لبناً ، ورُويَ أنه قال : " لا تُمَكِّكُوا عَلَى غُرَمَائِكُمْ{[5743]} " .

وقيل : لأنها تَمُكُّ الذنوبَ ، أي : تُزيلها كلَّها .

قال ابن الأنباري : وسُمِّيَتْ مكة لِقلَّةِ مائِها وزرعها ، وقلة خِصْبها ، فهي مأخوذة من مكَكْت العَظْم ، إذا لم تترك فيه شيئاً .

وقيل : لأن مَنْ ظَلَم فيها مَكَّهُ اللهُ ، أي : استقصاه بالهلاك .

وقيل : سُمِّيت بذلك ؛ لاجتلابها الناسَ من كل جانب من الأرض ، كما يقال : امتكّ الفصيلُ - إذا استقصى ما في الضَّرْع .

وقال الخليل : لأنها وسط الأرض كالمخ وسط العظم .

وقيل : لأن العيونَ والمياه تنبع من تحت مكة ، فالأرض كلها تمك من ماء مكة ، والمكوك : كأس يشرب به ، ويُكال به - ك " الصُّوَاع " .

قال القفال : لها أسماء كثيرة ، مكة ، وبكة ، وأمّ رُحْم ، - بضم الراء وإسكان الحاء - قال مجاهد : لأن الناس يتراحمون فيها ، ويتوادَعُون - والباسَّة ؛ قال الماوَرْدِي : لأنها تبس من ألْحَد فيها ، أي : تُحَطِّمه وتُهْلكه ، قال تعالى : { وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً } [ الواقعة : 5 ] .

ويروى : الناسَّة - بالنون - قال صاحبُ المطالع : ويقال : الناسَّة - بالنون - . قال الماوَرْدِيُّ : لأنها تنس من ألحد فيها - أي : تطرده وتَنْفِيه .

ونقل الجوهري - عن الأصمعي - : النَّسّ : اليبس ، يُقال : جاءنا بخُبْزَة ناسَّة ، ومنه قيل لمكةَ : الناسَّة ؛ لقلة مائها . والرأس ، والعرش ، والقادس ، و المقدَّسة - من التقديس - وصَلاَحِ - بفتح الصاد وكسر الحاء - مبنيًّا على الكسر كقَطَامِ وحَذَامِ ، والبلد ، والحاطمة ؛ لأنها تحطم من استخَفَّ بها ، وأم القرى ؛ لأنها أصل كل بلدة ، ومنها دحيت الأرض ، ولهذا المعنى تُزَار من جميع نواحي الأرض .

فصل

الأوَّلُ : هو الفرد السابق ، فإذا قال : أوَّلُ عبد أشتريه فهو حُرّ ، فلو اشترى عبدَيْن في المرة الأولى لم يُعْتَقْ واحدٌ منهما ؛ لأن الأول هو الفرد ، ثم لو اشترى بعد ذلك ما شاء لم يعتق ؛ لأن شرط الأوَّليَّة قد عُدِمَ .

إذا عُرِفَ هذا ، فقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } لا يدل على أنه أوَّلُ بَيْتٍ خلقه الله تعالى ، ولا أنه أول بيت ظهر في الأرض ، بل يدل على أنه أول بيت وُضِعَ للناس ، فكونه موضوعاً للناس يقتضي كونه مشتركاً فيه بين جميع الناس ، وكونه مشتركاً فيه بين كل الناس ، لا يحصل إلا إذا كان البيت موضعاً للطاعات ، وقِبْلَةً للخلق ، فدلَّت الآية على أن هذا البيت وَضَعه الله - تعالى - للطاعات والعبادات ، فيدخل فيه كونه قِبْلَةً للصلوات ، وموضِعاً للحجِّ .

فإن قيل : كونه أولاً في هذا الوَصْف يقتضي أن يكون له ثانٍ ، فهذا يقتضي أن يكون بيتُ المقدس يشاركه في هذا الصفات ، التي منها وجوبُ حَجِّه ، ومعلوم أنه ليس كذلك .

فالجواب من وجهين :

الأول : أن لفظ " الأوًّل " - في اللغة - اسم للشيء الذي يُوجَد ابتداءً ، سواء حصل بعده شيء آخرُ ، أو لم يحصل ، يقال : هذا أول قدومي مكة ، وهذا أول مال أصَبْتُه ، ولو قال : أول عبدٍ أملكه فهو حُرٌّ ، فملك عبداً عُتِق - وإن لم يملك بعده آخر - فكذا هنا .

الثاني : أن المراد منه : أول بيت وُضِع لطاعات الناس وعباداتهم ، وبيت المقدس يُشاركه في كونه موضوعاً للطاعاتِ والعباداتِ ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلاَّ لِثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ : المَسْجِد الْحَرَامِ ، والمسْجِدِ الأقْصَى ، ومَسْجِدِي هَذَا " ، وهذا القدر يكفي في صدق كَوْنِ الكعبةِ أول بيتٍ وضع للناس ، فأما أن يكون بيتُ المقدسِ مشاركاً له في جميع الأمور ، حتى في وجوبِ الحَجِّ ، فهذا غير لازم .

فصل

قوله تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ } يحتمل أن يكون المراد : أنه أول في الموضع والبناء ، وأن يكون أولاً في كونه مباركاً وهُدًى ، وفيه قولان للمفسرين .

فعلى الأول فيه أقوال :

أحدها : روى الواحدي في البسيط عن مجاهد أنه قال : خلق الله البيت قبل أن يخلقَ شيئاً من الأرضين .

وفي رواية : " خَلَقَ اللهُ مَوْضِعَ هَذَا البَيْتِ قَبْلَ أنْ يَخْلُق شَيْئاً مِنَ الأرضِينَ بِألْفي سَنَةٍ ، وَإنَّ قَوَاعِدَه لَفِي الأرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى " .

وروى النووي - في مناسكه - عن الأزْرَقِي - في كتاب مكة - عن مجاهد قال : إن هذا البيتَ أحد أربعة عشر بيتاً ، في كل سماء بيتٌ ، وفي كل أرض بيت ، بعضهن مقابل بعض .

وروى أيضاً عن علي بن الحُسَيْن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - عن النبي صلى الله عليه وسلم - عن الله - تعالى - قال : " إنَّ اللهَ بَعَثَ مَلاَئكةً ، فَقَالَ : ابْنُوا لِي فِي الأرْضِ بَيْتاً عَلَى مِثَالِ البَيْتِ المَعْمُورِ ، فبنوا له بيتاً على مثالِه ، واسْمُه الضُّرَاح ، وَأمَرَ اللهُ مَنْ فِي الأرْضِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ - الَّذِينَ هُمْ سُكَّانُ الأرْضِ - أنْ يَطُوفُوا بِهِ كَمَا يَطُوفُ أهْلُ السَّمَاءِ بِالْبَيْتِ المَعْمُورِ وَهَذَا كَانَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ بِألفَيْ عَامٍ وَكَانُوا يَحُجُّونَهُ ، فَلَمَّا حَجَّه آدَمُ ، قَالَتِ المَلاَئِكَةُ : بَرَّ حَجُّك ، حَجَجْنَا هَذَا البَيْتَ قَبْلَكَ بِألْفَي عَامٍ{[5744]} " ، ورُوِي عن عبد الله بن عمر ومجاهد و السُّدِّيّ : أنه أول بيت وُضِعَ على وجه الماء ، عند خلق الأرض والسماء ، وقد خلقه الله قبل خلق الأرض بألفي عام ، وكان زَبَدَةً بيضاء على الماء ، ثم دُحِيَت الأرض من تحته{[5745]} .

قال القفال في تفسيره : روى حَبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس ، قال ، وُجِدَ في كتاب - في المقام ، أو تحت المقام - أنا الله ، ذو بكَّةَ ، وضعتُها يومَ وضعتُ الشمسَ والقمرَ ، وحرَّمْتُها يوم وَضَعْتُ هذين الحجرَيْن وحفَفْتُها بسبعة أملاك حُنَفَاء {[5746]} .

روي : أن آدم لما أهْبِط إلى الأرض شكا الوحشةَ ، فأمره الله - تعالى - ببناء الكعبةِ ، وطاف بها وبقي ذلك إلى زمان نوح صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أرسلَ اللهُ الطوفانَ ، رفع البيت إلى السماء السابعة - حيال الكعبة - تتعبد عنده الملائكة ، يدخله كلَّ يوم سبعون ألف مَلَك ، سوى مَنْ دخل قبلُ فيه ، ثم بعد الطوفان اندرس موضعُ الكعبةِ ، وبقي مُخْتَفِياً إلى أن بعث الله جبريلَ إلى إبراهيم ، ودلَّه على مكان البيت ، وأمره بعمارته .

قال القاضي : القول بأنه رُفِع - زمانَ الطوفان - إلى السماء بعيد ؛ لأن موضِعَ التشريف هو تلك الجهة المعينة ، والجهة لا يمكن رفعها إلى السماء ، ألا ترى أن الكعبة لو انهدمت - والعياذ بالله - ونُقِلت الحجارة بعد الانهدام ، ويجب على كل مسلم أن يُصَلِّيَ إلى تلك الجهةِ بعينها ، وإذا كان كذلك ، فلا فائدة في رفع تلك الجدرانِ إلى السماء .

انتهى .

فدلت هذه الأقوال المتقدمة على أن الكعبة ، كانت موجودةً في زمان آدم - عليه السلام - ويؤيده أن الصلوات كانت لازمةً في جميع أديان الأنبياء ، لقوله : { أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً } [ مريم : 58 ] .

ولما كانوا يسجدون لله ، فالسجود لا بد له من قِبْلَةٍ ، فلو كانت قبلة شيث وإدريس ونوح موضعاً آخر سوى القبلة لبطل قوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } ، فدلَّ ذلك على أن قبلةَ أولئك الأنبياء هي الكعبةُ .

القول الثاني : أنَّ المرادَ بالأوليَّةِ : كونه مباركاً وهدًى ، قالوا : لأنه رُوِي أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن أول مسجد وُضِعَ للنَّاس ، فقال : " المَسْجِدُ الحَرَامُ ، ثُمَّ بَيْتُ المَقْدسِ ، فَقِيلَ : كَمْ بَيْنَهُمَا ؟ قال : أرْبَعُونَ سَنَةً ، وأينما أدْرَكَتْك الصلاةُ فَصَلِّ فهو مسجدٌ " .

وعن علي : أن رجلاً قال له : هو أول بيتٍ ؟ قال : لا ، كان قبلَه بيوتٌ ، أول بيت وُضِعَ للناس ، مباركاً ، فيه الهُدَى والرحمةُ والبركةُ ، أول مَنْ بناه إبراهيم ، ثم بناه قوم من العرب من جُرْهُم ، ثم هُدِم ، فبنته العمالقةُ ، وهم ملوك من أولاد عمليق بن سام بن نوح ، ثم هدم فبناه قريش . ودلالة الآية على الأولية في الشرف أمر لا بد منه ؛ لأن المقصود الأصلي من هذه الأولية ترجيحه على بيت المقدس ، وهذا إنما يتم بالأوليةِ في الفضيلةِ والشرفِ ، ولا تأثيرَ للأوليَّة في البناء في هذا المقصودِ ، إلا أن ثبوتَ الأوليةِ بسبب الفضيلةِ لا ينافي ثبوتَ الأولية في البناء .

فصل في بيان فضيلته

اتفقتِ الأمَمُ على أن باني هذا البيت هو الخليل - عليه السلام - وباني بيت المقدس سليمان - عليه السلام - فمن هذا الوجه ، تكون الكعبة أشرف ، فكان الآمر بالعمارة هو الله ، والمبلغُ والمهندسُ جبريل ، والبانِي هو الخليلَ ، والتلميذُ المُعِينُ هو إسماعيل ؛ فلهذا قيل : ليس في العالم بِنَاءٌ أشرف من الكعبة .

وأيضاً مقام إبراهيم ، وهو الحَجَر الذي وَضَع إبراهيمُ قدمه عليه ، فجعل الله ما تحت قدم إبراهيم من ذلك الحجر - دون سائر أجزائه - كالطين ، حتى غاصَ فيه قدمُ إبراهيم من ذلك الحَجَر ، وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله ، ولا يُظْهِره إلا على الأنبياء ، ثم لمَّا رفع إبراهيمُ قدمه عنه ، خلق اللهُ فيه الصلابة الحجريَّةَ مرةً أخرى ، ثم إنه أبْقَى ذلك الحجرَ على سبيل الاستمرار والدوام ، فهذه أنواع من الآيات العجيبة ، والمعجزات الباهرةِ .

وأيضاً قلّة ما يجتمع من حَصَى الجمار فيه ، فإنه منذ آلاف السنين ، وقد يبلغ من يرمي في كل سنة خمسمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاةً ، ثم لا يُرَى هناك إلا ما لو اجتمع في سنةٍ واحدةٍ لكان غير كثير ، وليس الموضع الذي تُرْمَى إليه الجمرات مَسِيل ماء ، ولا مَهَبَّ رِياحٍ شديدةٍ ، وقد جاء في الأثر : أن مَنْ قُبِلَتْ حَجَّتُهُ رُفِعَتْ جَمَرَاتُهُ إلى السَّمَاءِ .

وأيضاً فإن الطيور لا تمر فوقَ الكعبةِ عند طيرانها في الهواء بل تنحرف عنه إذا وصلت إلى ما فوقه .

وأيضاً فالوحوش إذا اجتمعت عنده لا يُؤذي بعضُهم بعضاً - كالكلاب والظباء - ولا يصطاد فيه الظباءَ الكلاب والوحوشُ ، وتلك خاصِّيَّةٌ عظيمةٌ ، ومن سكن مكة أمِن من النهب والغارة ، بدعاء إبراهيمَ وقوله : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً } [ إبراهيم : 35 ] ، وقال : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] ، وقال : { رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 3-4 ] .

وأيضاً فالأشرم - صاحب الفيل - لما قاد الجيوش والفيل إلى الكعبة ، وعجز قريش عن مقاومته ، وفارقوا مكةَ وتركوا له الكعبة ، فأرسلَ الله - تعالى - عليهم طيراً أبابيلَ ، ترميهم بحجارةٍ ، والأبابيل : هم الجماعة من الطير بعد الجماعة ، وكانت صِغَاراً ، تحمل أحجاراً ترميهم بها ، فهلك الملك والعسكر بتلك الأحجار - مع أنها كانت في غاية الصغَر - وهذه آيةٌ باهرةٌ دالةٌ على شرف الكعبة .

فإن قيل : ما الحكمة في أن الله - تعالى - وَضَعَها بوادٍ غيرِ ذِي زرع ؟

فالجواب من وجوه :

أحدها : أنه - تعالى - قطع بذلك رجاءَ أهل حَرَمه وسَدَنَةِ بيته عَمَّنْ سواه ، حتى لا يتكلوا إلا على الله تعالى .

وثانيها : أنه لا يسكنها أحد من الجبابرة والأكاسرة ، فإنهم يُحبُّونَ طيبات الدنيا ، فإذا لم يجدوها هناك تركوا ذلك الموضِعَ ، والمقصود تنزيه ذلك الموضع عن لوث وجود أهل الدنيا .

وثالثها : أنه فعل ذلك ؛ لئلا يقصدها أحدٌ للتجارة ، بل يكون ذلك لمحض العبادة والزيارة .

ورابعها : أن الله - تعالى - أظهر بذلك شَرَف الفَقْر ، حيث وَضَعَ أشرف البيوت ، في أقل المواضع نصيباً من الدنيا ، فكأنه قال : جعلت أهل الفقر في الدنيا أهل البلد الأمينَ ، فكذلك أجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين ، لهم في الدنيا بيتُ الأمْن ، وفي الآخرة دارُ الأمْن .

فصل

وللكعبة أسماء كثيرة :

أحدها : الكعبة ، قال تعالى : { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ } [ المائدة : 97 ] ، وهذا الاسم يدل على الإشراف والارتفاع ، وسمي الكعب كعباً ؛ لإشرافه على الرسغ ، وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعباً لارتفاع ثدييها ، فلما كان هذا البيت أشرف بيوت الأرض ، وأقدمها زماناً ، سُمي بهذا الاسم .

وثانيها : البيت العتيق ، قال تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [ الحج : 33 ] وسُمي العتيقَ ؛ لأنه أقدم بيوت الأرض .

وقيل : لأنه خُلِق قبل الأرض والسماء ؛ وقيل : لأن الله - تعالى - أعْتَقَه من الغَرَق .

وقيل : لأن كُلَّ من قَصَد تخريبه أهلكه الله - مأخوذ من قولهم : عتق الطائر - إذا قَوِي في وَكْرِه .

وقيل : لأن كل من زَارَه أعتقه اللهُ من النار .

وثالثها : المسجد الحرام ، قال تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَا } [ الإسراء : 1 ] وسُمِّيَ بذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته - يوم فتح مكة - : " ألاَ إنَّ اللهَ حرَّم مكّة يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ، لا يُعْضَد شَجَرُها ولا يختلى خلاؤها ، ولا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إلا لمُنْشِدها " .

فإن قيل : كيف الجمع بين قوله : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ } [ الحج : 26 ] ، وقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 96 ] فهناك أضافه إلى نفسه ، وهنا أسندَه إلى الناس ؟

فالجواب : كأنه قال : البيت لي ، ولكن وضعته ليكون قبلة للناس .

قوله : { مُبَارَكاً وَهُدًى } حالان ، إما من الضمير في " وُضِعَ " كذا أعربه أبو البقاء وغيره ، وفيه نظر ؛ من حيث إنه يلزم الفصل بين الحال بأجنبيّ - وهو خبر " إنَّ " - وذلك غير جائز ؛ لأن الخبر معمول ل " إنَّ " فإن أضمرت عاملاً بعد الخبر أمكن أن يعمل في الحال ، وكان تقديره : أول بيت وُضِعَ للناس للذي ببكة وُضِعَ مباركاً ، والذي حمل على ذلك ما يُعْطيه تفسير أمير المؤمنين من أنه وُضِعَ أولاً بقيد هذه الحال .

وإما أن يكون العاملُ في الحال هو العامل في " بِبَكَّةَ " أي استقر ببكة في حال بركته ، وهو وجه ظاهر الجواز . والظاهر أن قوله : " وَهُدًى " معطوف على " مُبَارَكاً " والمعطوف على الحال حال .

وجوز بعضهم أن يكونَ مرفوعاً ، على أنه خبر مبتدأ محذوف - أي : وهو هدى - ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار .

والبركة : الزيادة ، يقال : بارك الله لك ، أي : زادك خيراً ، وهو مُتَعَدٍّ ، ويدل عليه قوله تعالى : { أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } [ النمل : 8 ] و " تبارك " لا يتَصَرف ، ولا يُستعمل إلا مُسْنداً لله تعالى ، ومعناه - في حقه تعالى - : تزايد خيرُه وإحسانه .

وقيل : البركة ثبوت الخير ، مأخوذ من مَبْرَك البعير .

وإما من الضمير المستكن في الجار وهو " ببكة " لوقوعه صلة ، والعامل فيها الجار بما تضمنه من الاستقرار أو العامل في الجار ويجوز أن ينصب على إضمار فعل المدح أو على الاختصاص ، ولا يضر كونه نكرة وقد تقدم دلائل ذلك . و " للعالمين " كقوله : " للمتقين " أول البقرة .

فصل

البركة لها معنيان .

أحدهما : النمو والتزايُد .

والثاني : البقاء والدوام ، يقال : تبارك الله ؛ لثبوته ولم يزل ولا يزال .

والبركة : شبه الحوض ؛ لثبوت الماء فيها ، وبَرَكَ البعير إذا وضع صَدْرَه على الأرض وثَبت واستقرَّ ، فإن فسرنا البركة بالنمو والتزايد ، فهذا البيت مبارَك فيه من وجوه :

أحدها : أن الطاعات يزداد ثوابُها فيه ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " فَضْلُ المَسْجِدِ الحَرَامِ عَلَى مَسْجِدِي فَضْلُ مَسْجِدِي عَلَى سَائِرِ المَسَاجِدِ " ، ثُمَّ قال : " صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أفْضَلُ مِنْ ألْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ " هذا في الصلاة ، وأمَّا في الحج فقد قال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ ، ولَمْ يَرْفُثْ ، ولم يَفْسُق ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِِهِ كَيَوْم وَلَدَتْهُ أمُّهُ " ، وفي حديث آخر : " الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الجَنَّةَ " ، ومعلوم أنه لا أكثر بركةً مما يجلب المغفرة والرحمة .

ثانيها : قال القَفَّالُ : ويجوز أن يكون بركته ، ما ذكر في قوله تعالى :

{ يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً } [ القصص : 57 ] فيكون كقوله : { إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] .

وثالثها : أن العاقل يجب أن يستحضرَ في ذهنه أنَّ الكعبةَ كالنقطة ، وليتصور أن صفوف المتوجهين في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز ، وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة ، ولا شكَّ أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم عُلْويَّة ، وقلوبهم قدسية ، وأسرارهم نورانية ، وضمائرهم ربانية ، ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة ، وأجسادهم توجَّهت إلى هذه الكعبة الحسية ، فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه ، فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه ، ويَعْظُم لمعان الأضواء الروحانية في سِرِّه ، وهذا بَحْرٌ عظيم ، ومقام شريف ، وهو ينبهك على معنى كونه مباركاً . وإن فسرنا البركةَ بالدوام فالكعبة لا تنفك من الطائفين والراكعين والساجدين والعاكفين . وأيضاً فالأرض كرة ، وإذا كان كذلك فكل زمان يُفْرَض فهو صُبْح لقوم ، وظهر لآخرين ، وعَصر لثالث ، ومغرب لرابع ، وعشاء لخامس ، وإذا كان الأمر كذلك ، لم تنفك الكعبةُ عن توجُّه قوم إليها من طرَفٍ من أطراف العالم ؛ لأداء فرض الصلاة ، فكان الدوام حاصلاً من هذه الجهة ، وأيضاً بقاء الكعبة على هذه الحالة ألُوفاً من السنين دوام – أيضاً- .

وأما كونه هدًى للعالمين ، فقيل : لأنه قبلة يهتدون به إلى جهة صلاتهم .

وقيل : هُدًى ، أي : دلالة على وجود الصانع المختار ، وصدق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ، بما فيه من الآيات والعجائب التي ذكرناها .

وقيل : هُدًى للعالمين إلى الجنة ؛ لأن من أقام الصلاة إليه استوجب الجنة .


[5739]:انظر: البحر المحيط 3/7، والدر المصون 2/168.
[5740]:البيت للفرزدق ينظر ديوانه 2/300، وخزانة الأدب 9/285، والدرر 2/74، وشرح أبيات سيبويه 1/191، والمقتضب 4/74، وهمع الهوامع 1/119، والدر المصون 2/168.
[5741]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/24) عن قتادة.
[5742]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/24) عن أبي جعفر دون ذكر محمد بن علي الباقر.
[5743]:ذكره ابن الأثير في النهاية 4/349.
[5744]:ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (8/125) عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[5745]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/20) عن عبد الله بن عمرو والبيهقي في "شعب الإيمان" (3983) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/93) وزاد نسبته لابن المنذر والطبراني. وأخرجه الطبري في "تفسيره" (7/21- 22) عن مجاهد والسدي مثله.
[5746]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/94) وعزاه للأزرقي في "تاريخ مكة" من طريق حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس.