معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتۡرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجۡرِمِينَ} (116)

قوله تعالى : { فلولا } فهلا ، { كان من القرون } ، التي أهلكناهم ، { من قبلكم } ، والآية للتوبيخ { أولو بقية } ، أي : أولو تمييز . وقيل : أولو طاعة . وقيل : أولو خير . يقال : فلان ذو بقية إذا كان فيه خير . معناه : فهلا كان من القرون من قبلكم من فيه خير ينهى عن الفساد في الأرض ؟ وقيل : معناه أولو بقية من خير . يقال : فلان على بقية من الخير إذا كان على خصلة محمودة .

قوله تعالى : { ينهون عن الفساد في الأرض } ، أي يقومون بالنهي عن الفساد ، ومعناه جحد ، أي : لم يكن فيهم أولو بقية . { إلا قليلاً } ، هذا استثناء منقطع معناه : لكن قليلا ، { ممن أنجينا منهم } ، وهم أتباع الأنبياء كانوا ينهون عن الفساد في الأرض .

قوله تعالى : { واتبع الذين ظلموا ما أترفوا } ، نعموا ، { فيه } ، والمترف : المنعم . وقال مقاتل بن حيان : خولوا . وقال الفراء : عودوا من النعيم واللذات وإيثار الدنيا أي : واتبع الذين ظلموا ما عودوا من النعيم واللذات وإيثار الدنيا على الآخرة . { وكانوا مجرمين } ، كافرين .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتۡرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجۡرِمِينَ} (116)

{ 116 ْ } { فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ْ }

لما ذكر تعالى ، إهلاك الأمم المكذبة للرسل ، وأن أكثرهم منحرفون ، حتى أهل الكتب الإلهية ، وذلك كله يقضي على الأديان بالذهاب والاضمحلال ، ذكر أنه لولا أنه جعل في القرون الماضية بقايا ، من أهل الخير يدعون إلى الهدى ، وينهون عن الفساد والردى ، فحصل من نفعهم ما بقيت به الأديان ، ولكنهم قليلون جدا .

وغاية الأمر ، أنهم نجوا ، باتباعهم المرسلين ، وقيامهم بما قاموا به من دينهم ، وبكون حجة الله أجراها على أيديهم ، ليهلك من هلك عن بيِّنة ويحيا من حيَّ عن بيِّنة{[438]}

{ و ْ } لكن { اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ ْ } أي : اتبعوا ما هم فيه من النعيم والترف ، ولم يبغوا به بدلا .

{ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ْ } أي : ظالمين ، باتباعهم ما أترفوا فيه ، فلذلك حق عليهم العقاب ، واستأصلهم العذاب . وفي هذا ، حث لهذه الأمة ، أن يكون فيهم بقايا مصلحون ، لما أفسد الناس ، قائمون بدين الله ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، ويبصرونهم من العمى .

وهذه الحالة أعلى حالة يرغب فيها الراغبون ، وصاحبها يكون ، إماما في الدين ، إذا جعل عمله خالصا لرب العالمين .


[438]:- جاء في هامش أ ما نصه: (والمعروف في تفسيرها غير هذا المعنى الذي ذكر هنا، وهو أن هذا بمعنى النفي، أي: إنه لم يكن في القرون السالفة أولو بقية ... إلخ، (إلا قليلا ممن أنجينا منهم) أي: لكن بقي قليل بهذه الصفة، وهو قريب من المعنى الذي ذكرنا لكن ما ذكرنا في الأصل...) ثم لم يتضح باقي الكلام لإصابته بالبلل، وهو يسير.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتۡرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجۡرِمِينَ} (116)

يقول تعالى : فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ، ينهون عما كان يقع بينهم من

الشرور والمنكرات والفساد في الأرض .

وقوله : { إِلا قَلِيلا } أي : قد وجد منهم من هذا الضرب قليل ، لم يكونوا كثيرا ، وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غِيَره ، وفجأة نِقَمه ؛ ولهذا أمر تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، كما قال تعالى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ آل عمران : 104 ] . وفي الحديث : " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيّروه ، أوشك أن يَعُمَّهُم الله بعقاب " ؛ ولهذا قال تعالى : { فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ } .

وقوله : { وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ } أي : استمروا على ما هم فيه من المعاصي والمنكرات ، ولم يلتفتوا إلى إنكار أولئك ، حتى فَجَأهم العذابُ ، { وَكَانُوا مُجْرِمِينَ } .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتۡرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجۡرِمِينَ} (116)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرْضِ إِلاّ قَلِيلاً مّمّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } .

يقول تعالى ذكره : فهلا كان من القرون الذين قصصت عليك نبأهم في هذه السورة الذين أهلكتهم بمعصيتهم إياي وكفرهم برسلي من قبلكم . { أولُو بَقِيّةٍ } ، يقول : ذو بقية من الفهم والعقل ، يعتبرون مواعظ الله وبتدبرون حججه ، فيعرفون ما لهم في الإيمان بالله وعليهم في الكفر به ، { يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسادِ فِي الأرْضِ } ، يقول : ينهون أهل المعاصي عن معاصيهم أهل الكفر بالله عن كفرهم به في أرضه . { إلاّ قَلِيلاً مِمّنْ أنجَيْنا مِنْهُمْ } ، يقول : لم يكن من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا يسيرا ، فإنهم كانوا ينهون عن الفساد في الأرض ، فنجاهم الله من عذابه ، حين أخذ من كان مقيما على الكفر بالله عذابه ، وهم أتباع الأنبياء والرسل . ونصب { قليلاً } لأن قوله : { إلاّ قَلِيلاً } استثناء منقطع مما قبله ، كما قال : { إلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا } ، وقد بيّنا ذلك في غير موضع بما أغنى عن إعادته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : اعتذر فقال : { فَلَوْلا كانَ مِنَ القُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ . . . } ، حتى بلغ : { إلاّ قَلِيلاً مِمّنْ أنجَيْنا مِنْهُمْ } ، فإذا هم الذين نجوا حين نزل عذاب الله . وقرأ : { واتّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيه } .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { فَلَوْلا كانَ مِنَ القُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَةٍ . . . } ، إلى قوله : { إلاّ قَلِيلاً مِمّنْ أنجَيْنا مِنْهُمْ } ، قال : يستقلهم الله من كل قوم .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، قال : سألني بلال ، عن قول الحسن في العذر ، قال : فقال : سمعت الحسن يقول : { قِيلَ يا نُوحُ اهْبطْ بَسلامٍ مَنّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعلى أُمَمٍ ممّنْ مَعَكَ وأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمّ يَمَسّهُمْ مِنّا عَذَابٌ أليمٌ } ، قال : بعث الله هودا إلى عاد ، فنجى الله هودا والذين آمنوا معه وهلك المتمتعون . وبعث الله صالحا إلى ثمود ، فنجى الله صالحا وهلك المتمتعون . فجعلت أستقريه الأمم ، فقال : ما أراه إلا كان حسن القول في العذر .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فَلَوْلا كانَ مِنَ القُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسادِ فِي الأرْضِ إلاّ قَلِيلاً مِمّنْ أنجَيْنا مِنْهُمْ } ، أي : لم يكن من قبلكم من ينهى عن الفساد في الأرض ، إلاّ قليلاً ممن أنجينا منهم .

وقوله : { واتّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ } ، يقول تعالى ذكره : واتبع الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بالله ما أترفوا فيه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { واتّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ } ، قال : ما أُنْظروا فيه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { واتّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ } ، من دنياهم .

وكأن هؤلاء وجهوا تأويل الكلام : واتبع الذين ظلموا الشيء الذي أنظرهم فيه ربهم من نعيم الدنيا ولذاتها ، إيثارا له على عمل الاَخرة وما ينجيهم من عذاب الله .

وقال آخرون : معنى ذلك : واتبع الذين ظلموا ما تجبروا فيه من الملك وعتوا عن أمر الله . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { واتّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيه } ، ِ قال : في ملكهم وتجبرهم ، وتركوا الحقّ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه ، إلا أنه قال : وتركهم الحقّ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثل حديث محمد بن عمرو سواء .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أن الذين ظلموا أنفسهم من كل أمة سلفت فكفروا بالله ، اتبعوا ما أنظروا فيه من لذّات الدنيا ، فاستكبروا ، وكفروا بالله ، واتبعوا ما أنظروا فيه من لذّات الدنيا ، فاستكبروا عن أمر الله ، وتجبروا ، وصدّوا عن سبيله ؛ وذلك أن المترف في كلام العرب : هو المنعم الذي قد غَذّى باللذات ، ومنه قول الراجز :

تُهْدِي رُءُوسَ المُتْرَفِينَ الصّدّادْ *** إلى أمِيرِ المُؤمِنِينَ المُمْتادْ

وقوله : وكانُوا مُجْرِمِينَ يقول : وكانوا مكتسي الكفر بالله . )

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتۡرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجۡرِمِينَ} (116)

{ فلولا كان } فهلا كان . { من القرون من قبلكم أولو بقيّةٍ } من الرأي والعقل ، أو أولو فضل وإنما سمي { بقية } لأن الرجل يستبقي أفضل ما يخرجه ، ومنه يقال فلان من بقية القوم أي من خيارهم ، ويجوز أن يكون مصدرا كالتقية أي ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من العذاب ، ويؤيده أنه قرئ { بقية } وهي المرة من مصدر بقاه يبقيه إذا راقبه . { ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممّن أنجينا منهم } لكن قليلا منهم أنجيناهم لأنهم كانوا كذلك ، ولا يصح اتصاله إلا إذا جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض . { واتبع الذين ظلموا ما أُترفوا فيه } ما أنعموا فيه من الشهوات واهتموا بتحصيل أسبابها وأعرضوا عما وراء ذلك . { وكانوا مجرمين } كافرين كأنه أراد أن يبين ما كان السبب لاستئصال الأمم السالفة ، وهو فشو الظلم فيهم واتباعهم للهوى وترك النهي عن المنكرات مع الكفر ، وقوله واتبع معطوف مضمر دل عليه الكلام إذ المعنى : فلم ينهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا وكانوا مجرمين عطف على { اتبع } أو اعترض . وقرئ " واتبع " أي وأتبعوا جزاء ما أترفوا فتكون الواو للحال ، ويجوز أن تفسر به المشهورة ويعضده تقدم الإنجاء .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتۡرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجۡرِمِينَ} (116)

هذا قوي الاتّصال بقوله تعالى : { وكذلك أخذ ربك } [ هود : 102 ] فيجوز أن يكون تفريعاً عليه ويكون ما بينهما اعتراضاً دعا إليه الانتقال الاستطرادي في معان متماسكة . والمعنى فهلاّ كان في تلك الأمم أصحاب بقية من خير فنهوا قومهم عن الفساد لما حلّ بهم ما حلّ . وذلك إرشاد إلى وجوب النهي عن المنكر . ويجوز أن يكون تفريعاً على قوله تعالى : { فاستقم كما أمرت } [ هود : 112 ] والآية تفريع على الأمر بالاستقامة والنهي عن الطغيان وعن الركون إلى الذين ظلموا ، إذ المعنى : ولا تكونوا كالأمم من قبلكم إذ عدموا من ينهاهم عن الفساد في الأرض وينهاهم عن تكذيب الرّسل فأسرفوا في غلوائهم حتى حلّ عليهم غضب الله إلاّ قليلاً منهم ، فإن تركتم ما أمرتم به كان حالكم كحالهم ، ولأجل هذا المعنى أتي بفاء التفريع لأنّه في موقع التفصيل والتعليل لجملة { فاستقم كما أمرت } [ هود : 112 ] وما عطف عليها ؛ كأنّه قيل : وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم فَلَوْلاَ كان منهم بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلى آخره ، أي فاحذروا أن تكونوا كما كانوا فيصيبكم ما أصابهم ، وكونوا مستقيمين ولا تَطغوا ولا تركنوا إلى الظّالمين وأقيموا الصلاة ، فغُيّرَ نظمُ الكلام إلى هذا الأسلوب الذي في الآية لتفنن فوائده ودقائقه واستقلال أغراضه مع كونها آيلة إلى غرض يعمّمها . وهذا من أبدع أساليب الإعجاز الذي هو كردّ العجز على الصدر من غير تكلّف ولا ظهور قصد .

ويقرب من هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وَمَا أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنّما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم "

و ( لولا ) حرف تحضيض بمعنى ( هلاّ ) . وتحضيض الفائت لا يقصد منه إلاّ تحذير غيره من أن يقع فيما وقعوا فيه والعبرة بما أصابهم .

والقرون : الأمم . وتَقَدّم في أوّل الأنعام .

والبقية : الفضل والخير . وأطلق على الفضل البقية كناية غلبت فسارت مسرى الأمثال لأنّ شأن الشيء النفيس أنّ صاحبه لا يفرط فيه .

وبقيّة الناس : سادتهم وأهل الفضل منهم ، قال رويشد بن كثير الطائي :

إنْ تذنبوا ثم تأتيني بقيّتكم *** فَمَا عليّ بذنب منكم فوت

ومن أمثالهم « في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا » . فمن هنالك أطلقت على الفضل والخير في صفات الناس فيقال : في فلان بقية ، والمعنى هنا : أولُو فضل ودين وعلم بالشريعة ، فليس المراد الرّسل ولكن أريد أتباع الرسل وحملة الشرائع ينهون قومهم عن الفساد في الأرض .

والفساد : المعاصي واختلاف الأحوال ، فنهيهم يردعهم عن الاستهتار في المعاصي فتصلح أحوالهم فلا يحق عليهم الوهن والانحلال كما حلّ ببني إسرائيل حين عدموا من ينهاهم . وفي هذا تنويه بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنّهم أولُو بقيّة من قريش يدعونهم إلى الإيمان حتى آمن كلّهم ، وأولُو بقية بين غيرهم من الأمم الذين اختلطوا بهم يدعونهم إلى الإيمان والاستقامة بعد الدخول فيه ويعلّمون الدين ، كما قال تعالى فيهم : { كنتم خيرَ أمّةٍ أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } [ آل عمران : 110 ] .

وفي قوله : { من القرون من قبلكم } إشارة إلى البشارة بأنّ المسلمين لا يكونون كذلك ممّا يومىء إليه قوله تعالى : { مِن قبلكم } .

وقرأ ابن جمّاز عن أبي جعفر « بِقْية » بكسر الباء الموحّدة وسكون القاف وتخفيف التّحتية فهي لغة ولم يذكرها أصحاب كتب اللغة ولعلّها أجريت مجرى الهيئة لما فيها من تخيّل السمت والوقار .

و { إلاّ قليلاً } استثناء منقطع من { أولُوا بقيّة } وهو يستتبع الاستثناء من القرون إذ القرون الذين فيهم { أولوا بقيّة } ليسوا داخلين في حكم القرون المذكورة من قبل ، وهو في معنى الاستدراك لأنّ معنى التحْضيض متوجّه إلى القرون الذين لم يكن فيهم أولو بقية فهم الذين يُنعى عليهم فقدان ذلك الصنف منهم . وهؤلاء القرون ليس منهم من يستثنى إذ كلهم غير ناجين من عواقب الفساد ، ولكن لمّا كان معنى التحضيض قد يوهم أنّ جميع القرون التي كانت قبل المسلمين قد عدموا أولي بقية مع أن بعض القرون فيهم أولو بقيّة كان الموقع للاستدراك لرفع هذا الإيهام ، فصار المستثنى غيرَ داخل في المذكور من قبل ، فلذلك كان منقطعاً ، وعلامة انقطاعه انتصابه لأنّ نصب المستثنى بعد النفي إذا كان المستثنى منه غير منصوب أمارة على اعتبار الانقطاع إذ هو الأفصح . وهل يجيء أفصح كلام إلاّ على أفصح إعْراب ، ولو كان معتبراً اتّصاله لجاء مرفوعاً على البدلية من المذكور قبله .

و ( مِن ) في قوله : { ممن أنجينا } بيانيّة ، بيان للقليل لأنّ الذين أنجاهم الله من القرون هم القليل الذين ينهون عن الفساد ، وهم أتباع الرسل .

وفي البيان إشارة إلى أنّ نهيهم عن الفساد هو سبب إنجاء تلك القرون لأنّ النهي سبب السبب إذ النهي يسبّب الإقلاع عن المعاصي الذي هو سبب النجاة .

ودلّ قوله : { ممّن أنجينا منهم } على أن في الكلام إيجازَ حذففٍ تقديره : فكانوا يتوبون ويقلعون عن الفساد في الأرض فينجون من مسّ النار الذي لا دافع له عنهم .

وجملة { واتّبع الذين ظلموا } معطوفة على ما أفاده الاستثناء من وجود قليل ينهون عن الفساد ، فهو تصريح بمفهوم الاستثناء وتبيين لإجماله . والمعنى : وأكثرهم لم ينهوا عن الفساد ولم ينتهوا هم ولا قومهم واتّبعوا ما أترفوا فيه كقوله تعالى : { فسجدوا إلاّ إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين } [ البقرة : 34 ] تفصيلاً لمفهوم الاستثناء .

وفي الآية عبرة وموعظة للعصاة من المسلمين لأنّهم لا يخلون من ظلم أنفسهم .

واتباعُ ما أترفوا فيه هو الانقطاع له والإقبال عليه إقبال المتّبِع على متبوعه .

وأترفوا : أعطوا التّرف ، وهو السعة والنعيم الذي سهّله الله لهم فالله هو الذي أترفهم فلم يشكروه .

و { كانوا مجرمين } أي في اتّباع الترف فلم يكونوا شاكرين ، وذلك يحقّق معنى الاتّباع لأنّ الأخذ بالترف مع الشكر لا يطلق عليه أنه اتّباع بل هو تمحّض وانقطاع دون شوبه بغيره . وفي الكلام إيجاز حذف آخر ، والتقدير : فحقّ عليهم هلاك المجرمين ، وبذلك تهيّأ المقام لقوله بعده : { وما كان ربك ليهلك الْقُرى بظلم } [ هود : 117 ] .