فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتۡرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجۡرِمِينَ} (116)

هذا عود إلى أحوال الأمم الخالية لبيان أن سبب حلول عذاب الاستئصال بهم أنه ما كان فيهم من ينهى عن الفساد ويأمر بالرشاد ، فقال : { فَلَوْلا } أي : فهلا { كَانَ مِنَ القرون } الكائنة { مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ } من الرأي والعقل والدين { يَنْهَوْنَ } قومهم { عَنِ الفساد فِي الأرض } ويمنعونهم من ذلك ، لكونهم ممن جمع الله له بين جودة العقل ، وقوّة الدين ، وفي هذا من التوبيخ للكفار ما لا يخفى . والبقية في الأصل لما يستبقيه الرجل مما يخرجه ، وهو لا يستبقي إلا أجوده وأفضله ، فصار لفظ البقية مثلاً في الجودة ، والاستثناء في { إِلاَّ قَلِيلاً } منقطع : أي : لكن قليلاً { ممن أنجينا منهم } ينهون عن الفساد في الأرض . وقيل : هو متصل لأن في حرف التحضيض معنى النفي ، فكأنه قال : ما كان في القرون أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم ، ومن في ممن أنجينا بيانية ، لأنه لم ينج إلا الناهون . قيل : هؤلاء القليل هم قوم يونس لقوله فيما مر : { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } وقيل : هم أتباع الأنبياء وأهل الحق من الأمم على العموم { واتبع الذين ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ } معطوف على مقدّر يقتضيه الكلام ، تقديره : إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد . والمعنى : أنه اتبع الذين ظلموا بسبب مباشرتهم الفساد وتركهم للنهي عنه ما أترفوا فيه . والمترف : الذي أبطرته النعمة ، يقال : صبيّ مترف : منعم البدن ، أي صاروا تابعين للنعم التي صاروا بها مترفين من خصب العيش ، ورفاهية الحال وسعة الرزق ، وآثروا ذلك على الاشتغال بأعمال الآخرة واستغرقوا أعمارهم في الشهوات النفسانية ؛ وقيل المراد بالذين ظلموا : تاركو النهي . وردّ بأنه يستلزم خروج مباشري الفساد عن الذين ظلموا وهم أشدّ ظلماً ممن لم يباشر ، وكان ذنبه ترك النهي . وقرأ أبو عمرو في رواية عنه : «وأتبع الذين ظلموا » على البناء للمفعول ، ومعناه : اتبعوا جزاء ما أترفوا فيه ، وجملة : { وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } متضمنة لبيان سبب إهلاكهم ، وهي معطوفة على أترفوا : أي وكان هؤلاء الذين أتبعوا ما أترفوا فيه مجرمين ، والإجرام : الأثام . والمعنى : أنهم أهل إجرام بسبب اتباعهم الشهوات ، واشتغالهم بها عن الأمور التي يحق الاشتغال بها ، ويجوز أن تكون جملة : { وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } معطوفة على واتبع الذين ظلموا : أي اتبعوا شهواتهم ، وكانوا بذلك الاتباع مجرمين .

/خ123