تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلولا كان}، يعني: لم يكن، {من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد}... {في الأرض}، يقول: لم يكن من القرون من ينهى عن المعاصي في الأرض بعد الشرك، ثم استثنى، فقال: {إلا قليلا ممن أنجينا منهم}، يعني: مع الرسل من العذاب مع الأنبياء، فهم الذين كانوا ينهون عن الفساد في الأرض، {واتبع الذين ظلموا}، يقول: وآثر الذين ظلموا دنياهم، {ما أترفوا فيه}، يعني: ما أعطوا فيه من دنياهم على آخرتهم، {وكانوا مجرمين}، يعني: الأمم الذين كذبوا في الدنيا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فهلا كان من القرون الذين قصصت عليك نبأهم في هذه السورة الذين أهلكتهم بمعصيتهم إياي وكفرهم برسلي من قبلكم.
{أولُو بَقِيّةٍ}، يقول: ذوو بقية من الفهم والعقل، يعتبرون مواعظ الله ويتدبرون حججه، فيعرفون ما لهم في الإيمان بالله وعليهم في الكفر به،
{يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسادِ فِي الأرْضِ}، يقول: ينهون أهل المعاصي عن معاصيهم وأهل الكفر بالله عن كفرهم به في أرضه.
{إلاّ قَلِيلاً مِمّنْ أنجَيْنا مِنْهُمْ}، يقول: لم يكن من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا يسيرا، فإنهم كانوا ينهون عن الفساد في الأرض، فنجاهم الله من عذابه، حين أخذ من كان مقيما على الكفر بالله عذابه، وهم أتباع الأنبياء والرسل...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ظاهر هذا يخرج على المعاتبة والتنبيه والتذكير لأنه يقول: (فلولا كان من القرون) أي لم لا يكون كذا؟ فليس ثم من أولئك من يعاتب أو ينبه. لكنها تخرج على وجهين: أحدهما: (فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ) أي فهلا كانوا ذوي بقية (ينهون عن الفساد في الأرض) معناه، والله أعلم، هلا كثر أهل الإسلام فيهم حتى يقدروا على النهي عن الفساد في الأرض؛ لأنهم إذا كانوا قليلا لم يقدروا على النهي على الفساد، نحو لوط وأهله، وكانوا عددا قليلا، كيف كان يقدر على النهي عن الفساد أو المنع عن ذلك؟ وكنوح أيضا كان معه نفر قليل عددهم، لم يقدر على منع قومه من الفساد، ونحوه. فإذا كان فكأنه، والله أعلم، يقول: هلا كثر أهل الإسلام (أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض)؟ والثاني: (فلولا كان من القرون من قبلكم) أي قد كان منهم أولو بقية، لكنهم لم ينهوا عن الفساد في الأرض، فأهلكوا جميعا (إلا قليلا ممن أنجينا منهم) وذلك القليل قد نهوا عن الفساد في الأرض؛ فيجوز بين أولئك حاصل هذا القليل يخرج على هذين الوجهين اللذين ذكرناهما.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
معنى "فلولا كان "هلا كان، ولم لا، وألا كان، ومعناه النفي وتقديره لم يكن من القرون من قبلكم، فهو تعجيب وتوبيخ لهؤلاء الذين سلكوا سبيل من كان قبلهم في الفساد نحو عاد وثمود، وسائر القرون الذين مر ذكرهم في القرآن، وأخبر الله بهلاكها "أولوا بقية ينهون عن الفساد في الارض" أي كان يجب أن يكون منهم قوم باقون في الأرض ينهون عن الفساد في الأرض مع إنعام الله عليهم بكمال العقل والقدرة، وبعثة الرسل إليهم، وإقامة الحجج. وأولو بقية هم الباقون، فعجب الله نبيه كيف لم يكن منهم بقية في الأرض يأمرون فيها بالمعروف وينهون فيها عن المنكر، وكيف اجتمعوا على الكفر حتى استأصلهم الله بالعذاب والعقوبات لكفرهم بالله ومعاصيهم له ثم استثنى بقوله "إلا قليلا" والمعنى أنهم هلكوا جميعا إلا قليلا ممن أنجى الله منهم، وهم الذين آمنوا مع الرسل، ونجوا معهم من العذاب الذي نزل بقومهم...
وقوله: "واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين" معناه أنهم اتبعوا التلذذ والتنعم بالأموال والنعم التي أعطاهم الله إياها، وقضوا الشهوات وذلك من الحرام. وبين أنهم كانوا بذلك مجرمين عاصين الله تعالى...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
معناه لم يكن فيكم مِنْ هؤلاء الذين كانوا ينهون عن القبائح إلا قليل. وقيل معناه لم يكن فيمن قبلكم من الأمم مَنْ يَنْهى عن الفساد، ويحفظ الدِّين، ويطيعون أنبياءَهم -إلا قليل.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون} فهلا كان... {أُوْلُواْ بَقِيَّتُ} أولو فضل وخير. وسمى الفضل والجودة بقية لأنّ الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله، فصار مثلاً في الجودة والفضل. ويقال: فلان من بقية القوم، أي من خيارهم... ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى، كالتقية بمعنى التقوى، أي: فهلا كان منهم ذوو بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه، وقرئ: «أولو بقية»، بوزن لقية، من بقاه يبقيه إذا راقبه وانتظره... والمعنى: فلو كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله، كأنهم ينتظرون إيقاعه بهم لإشفاقهم. {إِلاَّ قَلِيلاً} استثناء منقطع، معناه: ولكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد، وسائرهم تاركون للنهي. و {مِنْ} في {مّمَّنْ أَنجَيْنَا} حقها أن تكون للبيان لا للتبعيض؛ لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم، بدليل قوله تعالى: {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ} [الأعراف: 165]...
{واتبع الذين ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ} أراد بالذين ظلموا: تاركي النهي عن المنكرات، أي: لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعقدوا هممهم بالشهوات، واتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والتترف، من حب الرياسة والثروة، وطلب أسباب العيش الهنيء. ورفضوا ما وراء ذلك ونبذوه وراء ظهورهم. وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي، «واتبع الذين ظلموا»، يعني: واتبعوا جزاء ما أترفوا فيه. ويجوز أن يكون المعنى في القراءة المشهورة: أنهم اتبعوا جزاء إترافهم. وهذا معنى قويّ لتقدم الإنجاء، كأنه قيل: إلا قليلاً ممن أنجينا منهم وهلك السائر.
فإن قلت: علام عطف قوله: {واتبع الذين ظَلَمُواْ}؟ قلت: إن كان معناه: واتبعوا الشهوات، كان معطوفاً على مضمر، لأنّ المعنى إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد، واتبع الذين ظلموا شهواتهم، فهو عطف على نهوا. وإن كان معناه واتبعوا جزاء الإتراف، فالواو للحال، كأنه قيل: أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم.
فإن قلت: فقوله {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ}؟ قلت: على أترفوا أي: اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين؛ لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام. أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر. أو على اتبعوا، أي اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك. ويجوز أن يكون اعتراضاً وحكماً عليهم بأنهم قوم مجرمون.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{لولا} هي التي للتحضيض -لكن يقترن بها هنا معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم تهتد، وهذا نحو قوله: {يا حسرة على العباد}، و {القرون من قبلكم} هم قوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكره، والقرن من الناس: المقترنون في زمان طويل أكثره- فيما حد الناس -مائة سنة،... وهذه الآية فيها تنبيه لأمة محمد وحض على تغيير المنكر والنهي عن الفساد ثم استثنى الله تعالى القوم الذين نجاهم مع أنبيائهم وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم...
اعلم أنه تعالى لما بين أن الأمم المتقدمين حل بهم عذاب الاستئصال بين أن السبب فيه أمران:
السبب الأول: أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض. فقال تعالى: {فلولا كان من القرون} والمعنى فهلا كان...
والسبب الثاني: لنزول عذاب الاستئصال قوله: {واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه} والترفه النعمة وصبي مترف إذا كان منعم البدن، والمترف الذي أبطرته النعمة وسعة المعيشة وأراد بالذين ظلموا تاركي النهي عن المنكرات أي لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتبعوا طلب الشهوات واللذات واشتغلوا بتحصيل الرياسات.
{واتبع الذين ظلموا ما أترفوا} أي واتبعوا حراما أترفوا فيه، ثم قال: {وكانوا مجرمين} ومعناه ظاهر.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
عجَّب محمداً عليه السلام وأمته أن لم يكن في الأمم التي ذكر الله إهلاكهم في هذه السورة جماعة من أولىِ العقل والدين ينهون غيرهم عن الكفر والمعاصي...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ما تقدم كله مشيراً إلى استبعاد إيمان المعاندين بشيء من تدبير آدمي كما تكاد القصص تنطق به، وكذا الإعلام بأن عبادتهم إنما هي للتقليد وباختلاف قوم موسى في كتابه الذي هو هدى ورحمة، وكل ذلك فطماً عن طلب ما قد يهجس في الخاطر من تمني إجابتهم إلى ما يقترحون أو الكف عن بعض ما يغيظ من الإنذار، وكان من طبع البشر البعد عن الانتهاء عن الخواطر إلا بعد التجربة، كان ذلك ربما أوجب أن يقال: لو أجيبوا إلى سؤالهم لربما رجعوا عن كثير مما هم فيه، فدعاهم ذلك إلى الرشاد، فتسبب عنه أن يقال دفعاً له: {فلولا كان} ويجوز أن يكون مناسبتها أنه لما ذكر إهلاك القرون الماضية والأمم السالفة بما مضى إلى أن ختم بالأمر بالصبر على الإحسان من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان من الجائز أن يقع في فكر الاعتراض بأن يقال: ما الموجب لذلك؟ فبين أن سبب الهلاك الإعراض عن نهي منتهك الحرمات والمجترئ على هتك الأستار الجليلة والرتع في الحمى مع تمكنهم بما أودع فيهم سبحانه من القوى والقدرة على اختيار جانب الخير والإعراض عن جانب الشر فقال تعالى: {فلولا} بصيغة تحتمل التخصيص، وفيها معنى التفجع والتأسف لاعتبار كل من كان على مثل حالهم {من القرون} أي المهلكين الأشداء الكائنين في زمان ما. ولما كان المراد القرون التي تقدم ذكر إهلاكها، وكانت أزمنتهم بعض الزمان الماضي، أتى بالجار فقال: {من قبلكم أولوا} أي أصحاب {بقية} أي حفظ وخير ومراقبة لما يصلحهم، لأن مادة "بقي "تدور على الجمع، ويلزمه القوة والثبات والحفظ، ويلزمه النظر والمراقبة: بقيت الشيء -إذا نظرت إليه ورصدته، ويلزمه الثبات: بقي بقاء- إذا دام، والخير والجودة... {ينهون} أي يجددون النهي في كل حين إشارة إلى كثرة المفسدين {عن الفساد} الكائن {في الأرض} و "لولا" هنا كالتي في يونس توبيخية أو استفامية كما جوزهما الرماني، ويجوز أن تكون تخصيصية كما قال الزمخشري، ويكون للسامع لا للمهلك، لأن الآية لما تضمنت إهلاك المقر على الفساد كان في ذلك أقوى حث لغيرهم على الأمر والنهي و أوفى تهديد زاجر عن ارتكاب مثل حالهم الموقع في أضعاف نكالهم، وفي تعقيب هذه الآية لآية الصبر إشارة إلى أن الصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الذروة العليا، والآية ناظرة إلى قوله تعالى {إنما أنت نذير}. ولما كانت المعاني الثلاثة متضمنة للنفي، كان المعنى: لم يكن من يفعل ذلك، فاتصل الاستثناء في قوله: {إلا قليلاً} أي صالحين {ممن أنجينا منهم} والظاهر أن "من" بيانية، أي هم الذين أنجينا فإنهم نهوا عن الفساد، وعبر بالإنجاء لأنه الدال على الخير الحامل للنهي عن الفساد دون التنجية الدالة على التدريج و الإبلاغ في الإنجاء فلو عبر بها فسد المعنى {واتبع} الأكثر وهم {الذين ظلموا} أي أوقعوا الظلم بترك النهي عن الفساد، وما أحسن إطلاقها عن التقييد ب {منهم} {ما} ولما كان المبطر لهم نفس الترف، بني للمفعول قوله: {أُترفوا فيه} فأبطرتهم النعمة حتى طغوا وتجبروا {وكانوا مجرمين} أي متصفين على سبيل الرسوخ بالإجرام، وهو قطع حبل الله على الدوام، فأهلكهم ربك لإجرامهم، ولولا ذلك لما فعل، فإن إهلاكهم على تقدير الانفكاك عن الإجرام يكون ظلماً على ما يتعارفون.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين (116) وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون (117) ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (119)}
هذه الآيات الثلاث في بيان سنن الله العامة في إهلاك أولئك الأقوام الذين قص على رسوله قصصهم وأمثالهم جاءت بعدما تقدم من بيان عاقبتهم في الدنيا والآخرة، وإنذار قومه صلى الله عليه وسلم بهم، وما يجب عليه وعلى من آمن وتاب معه من الاستقامة والصلاح، واجتناب أهل الظلم والفساد.
قال: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض} لولا تحضيضية بمعنى هلا، والقرون الأمم والأقوام، والقرن في اللغة كما في المصباح:"الجيل من الناس. قيل ثمانون سنة، وقيل سبعون". أقول: ثم اشتهر تقديره بمائة سنة. والبقية من الشيء ما يبقى منه بعد ذهاب أكثره، ومن الناس كذلك، واستعمل في الخيار والأصلح والأنفع، قيل: لأن الناس ينفقون في العادة أردأ ما عندهم وأقربه إلى التلف والفساد أولا، ويستبقون الأجود فالأجود، ونقول: لأن الأحياء يهلك منهم الأضعف فالأضعف أولا ويبقى الأقوى فالأقوى، ومن هذا ما يعرف في علم الاجتماع بسنة الانتخاب الطبيعي، وهو إفضاء تنازع الأحياء إلى بقاء الأمثل والأصلح، كما ورد في المثل الذي ضربه الله للحق والباطل بقوله تعالى: {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} [الرعد: 17] ومن ثم يعبرون عن الخيار بالبقية يقولون: في الزوايا خبايا، وفي الناس بقايا، وبهذا فسرت الآية.
والمعنى: فهلا كان أي وجد من أولئك الأقوام الذين أهلكناهم بظلمهم وفسادهم في الأرض جماعة أصحاب بقية من النهي والرأي والصلاح ينهونهم عن الفساد في الأرض -وهو الظلم واتباع الهوى والشهوات التي تفسد عليهم أنفسهم ومصالحهم- فيحول نهيهم إياهم دون هلاكهم، فإن من سنتنا أن لا نهلك قوما إلا إذا عم الفساد والظلم أكثرهم كما يأتي في الآية التالية.
{إلا قليلا ممن أنجينا منهم} أي لم يكن فيهم بقية من هؤلاء العقلاء الأخيار، الناهين عن المنكر، الآمرين بالمعروف، ولكن كان هنالك قليل من الذين أنجيناهم، أو هم الذين أنجيناهم مع الرسل منهم، وكانوا منبوذين لا يقبل نهيهم وأمرهم، مهددين مع رسلهم بالطرد، والإبعاد، بعد الأذى والاضطهاد.
{واتبع الذين ظلموا} وهم الأكثرون منهم. {ما أترفوا فيه} أي ما رزقناهم وآتيناهم من أسباب الترف والنعيم فبطروا. يقال: أترفته النعمة أي أبطرته وأفسدته، والبطر الطغيان في المرح وخفة النشاط والفرح.
{وكانوا مجرمين} أي متلبسين بالإجرام الذي ولده الترف راسخين فيه، فكان هو المسخر لعقولهم في ترجيح ما أعطوا من ذلك على اتباع الرسل.
روى ابن مردويه في تفسيره عن أبي بن كعب قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم (أولو بقية وأحلام)، والأشبه عندي أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الأحلام تفسيرا لا قرآنا. والمعنى أن العقول السليمة الرشيدة كافية لفهم ما في دعوة الرسل عليهم السلام من الخير والصلاح لو لم يمنع من استعمال هدايتها الافتتان بالترف، والتفنن في أنواعه، بدلا من القصد والاعتدال فيه وشكر الله المنعم به عليه، فالإتراف هو الباعث على الإسراف والفسوق والعصيان، والظلم والإجرام يظهر في الكبراء والرؤساء، ويسري بالتقليد في الدهماء، فيكون سبب الهلاك بالاستئصال، أو فقد الاستقلال، وذلك قوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} [الإسراء: 16] فهذا بيان لسنته تعالى في الأمم قديمها وحديثها، ولا تغني عن شعوب الإفرنج معرفتهم بهذه السنة ومحاولة اتقائهم لها، فحكماؤهم وهم أولو البقية والأحلام الذين ينهونهم عن الفساد في الأرض يصرحون بأنهم سيهلكون كما هلك من قبلهم، ولن تغني عنهم قوتهم، بل تكون هي المهلكة لهم بأيديهم، كما قال تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} [الأنعام: 65] فراجع تفسيرها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يعود السياق إلى تكملة التعليق والتعقيب على مصارع القرى والقرون. فيشير من طرف خفي إلى أنه لو كان في هذه القرون أولو بقية يستبقون لأنفسهم الخير عند الله، فينهون عن الفساد في الأرض، ويصدون الظالمين عن الظلم، ما أخذ تلك القرى بعذاب الاستئصال الذي حل بهم،