اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتۡرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجۡرِمِينَ} (116)

قوله تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ } من الآية .

لمَّا بيَّن أنَّ الأمم المتقدمين حلَّ بهم عذاب الاستئصال ، بيَّن أنَّ السبب فيه أمران :

الأول : أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض ، فقال : { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ } ، " لوْلاَ " تحضيضية دخلها معنى التَّفجُّع عليهم ، وهو قريبٌ من مجاز قوله تعالى : { يا حسرة عَلَى العباد } [ يس : 30 ] وما يروى عن الخليل- رحمه الله- أنه قال : كل ما كان في القرآن من " لَوْلاَ " فمعناه " هَلاَّ " إلاَّ التي في الصافات " فلوْلاَ أنَّهُ " ، لا يصحُّ عنه لورودها كذلك في غير الصافات { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ } [ القلم : 49 ] { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ } [ الإسراء : 74 ] { وَلَوْلاَ رِجَالٌ } [ الفتح : 25 ] .

و " مِنَ القُرونِ " يجوز أن يتعلَّق ب " كان " ؛ لأنَّها هنا تامَّة ، إذا المعنى : فهلاَّ وُجِد من القُرونِ ، أو حدث ، أو نحو ذلك ، ويجُوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من : " أُولُوا بقيَّةٍ " لأنه لو تأخَّر عنه لجاز أن يكون نعتاً لهُ ، و " مِن قَبْلِكُم " حالٌ من " القُرُون " و " يَنْهَون " حالٌ من " أولوا بقيَّة " لتخصُّصه بالإضافةِ ، ويجوز أن يكون نعتاً ل " أُولُوا بقيَّّةٍ " وهو أولى .

ويضعفُ أن تكون " كان " هذه ناقصة لبُعْد المعنى من ذلك ، وعلى تقديره يتعيَّن تعلُّق " من القُرونِ " بالمحذُوف على أنَّهُ حالٌ ؛ لأنَّ " كَانَ " النَّاقصة لا تعملُ عند جمهور النُّحاةِ ، ويكون " يَنْهَوْنَ " في محلِّ نصب خبراً ل " كان " .

وقرأ العامَّةُ " بقيَّة " بفتح الباء وتشديد الياءِ ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنَّها صفةٌ على " فَعِيلة " للمبالغةِ ، بمعنى " فاعل " ؛ وذلك دخلت التَّاءُ فيها ، والمرادُ بها حينئذٍ الشيء وخياره ، وإنَّما قيل لجنْدِه وخياره : " بقيَّة " في قولهم : فلان بقيةُ النَّاس ، وبقيةُ الكرام ؛ لأنَّ الرَّجُل يستبقى ممَّا يخرجه أجوده وأفضله والرجل يبقى بعده ذكر جوده وفضله ؛ وعليه حمل بيتُ الحماسِة : [ البسيط ]

إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأتينِي بقِيَّتُكُمْ *** . . . {[19075]}

وفي المثل : " في الزَّويا خبايا ، وفي الرِّجالِ بَقايَا " .

والثاني : أنَّها مصدرٌ بمعنى البقوى . قال الزمخشريُّ ويجوزُ أن تكون البقيَّة بمعنى البَقْوَى كالتقيَّة بمعنى التَّقوى ، أي : فهلا كان منهم ذوو إبقاءٍ على أنفسهم ، وصيانةٍ لها من سخطِ الله وعقابه . والمعنى : فهلاّ كان منهم أولوا مراقبة وخشية من انتقام الله .

وقرأت فرقةٌ{[19076]} " بَقِيَة " بتخفيفِ الياءِ ، وهي اسمٌ فاعل من بقي ك : شَجِيَة من شَجِي ، والتقدير أولُوا طائفةِ بقيةِ أي : باقية وقرأ أبو جعفرٍ{[19077]} وشيبة " بُقْية " بضمِّ الفاء وسكون العين .

وقُرِئَ " بَقْيَة " على المرَّة من المصدر . و " فِي الأرْضِ " متعلقٌ بالفسادِ ، والمصدرُ المقترن ب " أل " يعمل المفاعيل الصريحة فكيف في الظروف ؟ ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذُوفٍ على أنه حالٌ من " الفَسادِ " .

فصل

المعنى : فهلاَّ " كان مِنَ القُرونِ " التي أهلكناهم ، " مِن قَبْلكُمْ " أولُوا تمييز وقيل : أولُوا طاعة وقيل : أولُوا خير ، يقال : فلانٌ على بقيَّةٍ من الخير إذا كان على خصلة محمودة . و " ينْهَوْنَ عن الفسادِ في الأرضِ " أي : يقُومُون بالنَّهْي عن الفسادِ ، ومعناه جحداً ، أي : لم يكن فيهم أولُو بقية .

قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون استثناء منقطعاً ؛ وذلك أن يحمل التحضيض على حقيقته ، وإذا حُمل على حقيقته تعين أن يكون الاستثناءُ منقطعاً لئلاَّ يفسد المعنى .

قال الزمخشريُّ{[19078]} : معناه : ولكن قليلاً ممَّن أنْجينَا من القرون نهوا عن الفساد ، وسائرهُم تاركون النَّهي ثم قال : فإن قلت : هل لوقوع هذا الاستثناء متصلاً وجهٌ يحملُ عليه ؟ قلتُ : إن جعلتهُ متَّصلاً على ما هو عليه ظاهرُ الكلام كان المعنى فاسِداً ؛ لأنَّهُ يكون تحضيضاً لأولي البقية على النَّهي عن الفساد إلاَّ للقليل من النَّاجين منهم ، كما تقولُ : هلا قرأ قومك القرآن إلاَّ الصلحاء منهم ، تريدُ استثناء الصُّلحاء من المحضَّضينَ على قراءة القرآن . فيَئُول الكلام إلى أنَّ الناجين لم يحضُّوا على النَّهْي عن الفاسد ، وهو معنَّى فاسدٌ .

والثاني : أن يكون متًّصِلاً ، وذلك بأن يؤوَّل التحضيض على قراءة القرآن بمعنى النَّفي ، فيصحَّ ذلك ؛ إلاَّ أنَّهُ يُؤدِّي إلى النصب غير الموجب ، وإن كان غير النصب أولى .

قال الزمخشري{[19079]} : فإن قلت : في تحضيضهم على النَّهي عن الفاسد معنى نفيه عنهم ، فكأنَّهُ قيل : ما كان من القُرُونِ أولُوا بقية إلاَّ قليلاً كان استثناءً متصلاً ومعنى صحيحاً ، وكان انتصابهُ على أصل الاستثناء ، وإن كان الأفصحُ أن يرفع على البلد .

ويؤيد أنَّ التحضيض هنا في معنى النَّفْي قراءةُ زيد من عليّ " إلاَّ قليلٌ " بالرفع ، لاحظ معنى النَّفي فأبدل على الأفصحِ ، كقوله : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] .

وقال الفراء : المعنى : فلمْ يكن ؛ لأنَّ في الاستفهام ضَرْباً من الجَحْدِ سمَّى التَّحضيض استفهاماً .

ونُقل عن الأخفش أنه كان يرى تعيُّن اتصال هذا الاستثناء كأنَّهُ لحظَ النَّفْيَ و " مِنْ " في : " مِمَّنْ أنْجَيْنَا " للتبعيض . ومنع الزمخشريُّ أن تكون للتبعيض بل للبيانِ فقال : حقُّها أن تكون للبيانِ لا للتبعيض ؛ لأنَّ النَّجاة إنَّما هي للنَّاهينَ وحدهم ، بدليل قوله : { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [ الأعراف : 165 ] .

فعلى الأول يتعلق بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل " : قَلِيلاً " .

وعلى الثاني : يتعلق بمحذوف على سبيل البيان ، أي : أعني .

قوله : { واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ } هذا السببُ الثاني في نزولِ عذاب الاستئصال .

قرأ العامَّةُ : " اتَّبَعَ " بهمزة وصلٍ وتاءِ مشددةٍ ، وياءٍ ، مفتوحتين ، فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل وفيه وجهان :

أحدهما : أنَّهُ معطوفٌ على مضمرٍ .

والثاني : أنَّ الواو للحالِ لا للعطفِ ، ويتَّضحُ ذلك بقول الزمخشري فإن قلت : علام عطف قوله : { واتبع الذين ظَلَمُواْ } ؟ قلت : إن كان معناه : واتَّبعُوا الشَّّهواتِ كان معطوفاً على مضمرٍ ؛ لأنَّ المعنى : إلاَّ قليلاً ممَّنْ أنجينا منهم نُهُا عن الفسادِ ، واتَّبع الذين ظلمُوا شهواتهم ، فهو عطفٌ على " نُهُوا " وإنْ كان معناه : واتَّبعُوا جزاءَ الإترافِ ، فالواو للحال ، كأنَّه قيل : أنْجَيْنَا القليل ، وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم .

فجوز في قوله : " مَا أتْرِفُوا " وجهين :

أحدهما : أنَّه مفعول من غير حذف مضافِ ، و " مَا " واقعة على الشَّهوات وما بطرُوا بسببه من النِّعم .

والثاني : أنَّهُ على حذف مضاف ، أي : جزاء ما أتْرِفُوا ، ورتَّب على هذين الوجهين القول في " واتَّبَع " .

والإتْراف : إفعالٌ من التَّرف وهو النِّعمة ، يقال : صبيُّ مترفٌ ، أي : مُنْعَم البدن ، وأتْرِفُوا نَعِمُوا وقيل : التَّرفُّهُ : التوسُّع في النِّعمةِ .

وقال مقاتلٌ : " أتْرِفُوا " خُوَّلُوا .

وقال الفراء : عُوِّدُوا ، أي : واتَّبع الذين ظلمُوا ما عُوِّدُوا من النَّعيم ، وإيثار اللذات على الآخرة{[19080]} .

وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي ، وأبو جعفر " وأتْبعَ " بضم همزة القطع وسكون التَّاءِ وكسر الباء مبنيَّا للمفعول ، ولا بدَّ حينئذِ من حذف مضاف ، أي : أتبعُوا جزاء ما أترفُوا فيه .

و " ما " يجوز أن تكون معنى " الذي ، وهو الظَّاهرُ لعودِ الضمير في " فيه " عليه ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : جزاء إترافهم .

قوله " وكانُوا مُجْرمينَ " كافرين . وفيه ثلاثةُ أوجهٍ :

أحدها : أن تكون عطفاً على " أْرِفُوا " إذا جعلنا " ما " مصدرية ، أي : اتَّبعوا إترافهم وكونهم مجرمين .

والثاني : أنه عطفٌ على " اتَّبَعَ " ، أي : اتَّبَعُوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك ، لأنَّ تابعَ الشَّهواتِ مغمورٌ بالآثامِ .

الثالث : أن يكون اعتراضاً وحكماً عليهم بأنَّهُم قومٌ مجرمون . ذكر ذلك الزمخشريُّ .

قال أبو حيَّان{[19081]} : " ولا يُسَمَّى هذا اعتراضاً في اصطلاح النَّحْو ؛ لأنه آخرُ آيةٍ ، فليس بين شيئين يحتاج أحدهما إلى الآخر " .


[19075]:تقدم.
[19076]:ينظر: المحرر الوجيز 3/214 والبحر المحيط 5/271 والدر المصون 4/146، 2/147.
[19077]:ينظر: المحرر الوجيز 3/214 والبحر المحيط 5/271 والدر المصون 4/147.
[19078]:ينظر: الكشاف 2/437.
[19079]:ينظر: الكشاف 2/437.
[19080]:قرأ بها أيضا حفص بن محمد ينظر: المحرر الوجيز 3/214 وقرأ بها أيضا العلاء بن سيابة ينظر: البحر المحيط 5/271، والدر المصون 4/147، 148.
[19081]:ينظر: البحر المحيط 5/271.