محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتۡرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجۡرِمِينَ} (116)

وقوله تعالى :

/ [ 116 ] { فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين 116 } .

{ فلولا كان } أي فهلا وجد { من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض } أي بعمل الشرور والمنكرات ، فإنه لو كان منهم ناهون لم يؤخذ الباقون { إلا قليلا ممن أنجينا منهم } استثناء منقطع . أي لكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد ، وسائرهم تاركون للنهي .

لطيفة :

( البقية ) إما بمعنى الباقية ، والتأنيث لمعنى الخصلة أو القطعة . أو بقية من الرأي والعقل . أو بمعنى الفضيلة ، والتاء للنقل إلى الاسمية كالذبيحة . وأطلق على الفضل ( بقية ) استعارة من البقية التي يصطفيها المرء لنفسه ، ويدخرها مما ينفقه ، فإنه يفعل ذلك بأنفسها . ولذا قيل : ( في الزوايا خبايا ، وفي الرجال بقايا ) ، و ( فلان من بقية القوم ) أي من خيارهم . وجوّز كون ( البقية ) مصدرا بمعنى ( البقوى ) ، كالتقية بمعنى التقوى . أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء على أنفسهم ، وصيانة لها من سخطه تعالى وعقابه .

{ واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه } أي ما صاروا منعمين فيه من الشهوات ، حتى فجأهم العذاب ، واتباعه كناية عن الاهتمام به ، وترك غيره ، كما هو دأب التابع للشيء . و { الذين ظلموا } أعم من المباشرين بأنفسهم للفساد ، ومن تاركي النهي عنه . وقصره الزمخشري على الثاني ، لأنهم المقصود بالنعي قبله ، حيث قال : أراد ب { الذين ظلموا } تاركي النهي عن المنكرات ، أي لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعقدوا هممهم بالشهوات ، واتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والتترف ، من حب الرئاسة والثروة ، وطلب أسباب العيش الهنيء ، ورفضوا ما وراء ذلك ، ونبذوه وراء ظهورهم .

{ وكانوا مجرمين } أي باتباعهم المذكور ، أو كافرين . قال القاضي : كأنه أراد أن يبين ما كان السبب لاستئصال الأمم السالفة ، وهو فشو الظلم فيهم ، واتباعهم للهوى ، وترك النهي عن المنكرات مع الكفر ، وقد أشير لذلك بقوله تعالى : { وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } .