قوله تعالى : { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم } أي : بين لكم شبهاً بحالكم ، وذلك المثل من أنفسكم ، ثم بين المثل فقال : { هل لكم من ما ملكت أيمانكم } أي : عبيدكم وإمائكم ، { من شركاء فيما رزقناكم } من المال ، { فأنتم } وهم ، { فيه سواء } أي : هل يشارككم عبيدكم في أموالكم التي أعطيناكم ، { تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } أي : تخافون أن يشاركوكم في أموالكم ويقاسموكم كما يخاف الحر شريكه الحر في المال يكون بينهما أن ينفرد فيه بأمر دونه ، وكما يخاف الرجل شريكه في الميراث ، وهو يحب أن ينفرد به . قال ابن عباس : تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضاً فإذا لم تخافوا هذا من مماليككم ولم ترضوا ذلك لأنفسكم ، فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها شركائي وهم عبيدي ؟ . ومعنى قوله : أنفسكم ، أي : أمثالكم من الأحرار كقوله : { ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً } أي : بأمثالهم . { كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون } ينظرون إلى هذه الدلائل بعقولهم .
{ 28 - 29 } { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }
هذا مثل ضربه اللّه تعالى لقبح الشرك وتهجينه مثلا من أنفسكم لا يحتاج إلى حل وترحال وإعمال الجمال .
{ هَلْ لَكُمْ ممَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ } أي : هل أحد من عبيدكم وإمائكم الأرقاء يشارككم في رزقكم وترون أنكم وهم فيه على حد سواء .
{ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } أي : كالأحرار الشركاء في الحقيقة الذين يخاف من قسمه واختصاص كل شيء بحاله ؟
ليس الأمر كذلك فإنه ليس أحد مما ملكت أيمانكم شريكا لكم فيما رزقكم اللّه تعالى .
هذا ، ولستم الذين خلقتموهم ورزقتموهم وهم أيضا مماليك مثلكم ، فكيف ترضون أن تجعلوا للّه شريكا من خلقه وتجعلونه بمنزلته ، وعديلا له في العبادة وأنتم لا ترضون مساواة مماليككم لكم ؟
هذا من أعجب الأشياء ومن أدل شيء على [ سفه ]{[649]} من اتخذ شريكا مع اللّه وأن ما اتخذه باطل مضمحل ليس مساويا للّه ولا له من العبادة شيء .
{ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ } بتوضيحها بأمثلتها { لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } الحقائق ويعرفون ، وأما من لا يعقل فلو فُصِّلَت له الآيات وبينت له البينات لم يكن له عقل يبصر به ما تبين ولا لُبٌّ يعقل به ما توضح ، فأهل العقول والألباب هم الذين يساق إليهم الكلام ويوجه الخطاب .
هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به ، العابدين معه غيره ، الجاعلين له شركاء وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له ، ملك له ، كما كانوا في تلبيتهم يقولون : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك . فقال تعالى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ } أي : تشهدونه وتفهمونه من أنفسكم ، { هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ } أي : لا يرتضي أحد منكم أن يكون عبده شريكًا له في ماله ، فهو وهو فيه على السواء { تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } أي : تخافون أن يقاسموكم الأموال .
قال أبو مِجْلَز : إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك ، وليس له ذاك{[22812]} ، كذلك الله لا شريك له . والمعنى : أن أحدكم يأنف من ذلك ، فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه . وهذا كقوله تعالى : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } [ النحل : 62 ] أي : من البنات ، حيث جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ، وجعلوها بنات الله ، وقد كان أحدهم إذا بُشر بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ، فهم يأنفون من البنات . وجعلوا الملائكة بنات الله ، فنسبوا إليه ما لا يرتضونه لأنفسهم ، فهذا أغلظ الكفر . وهكذا في هذا المقام جعلوا له شركاء من عبيده وخلقه ، وأحدهم يأبى غاية الإباء ويأنف غاية الأنفة من ذلك ، أن يكون عبدهُ شريكَه في ماله ، يساويه فيه . ولو شاء لقاسمه عليه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
قال الطبراني : حدثنا محمود بن الفرج الأصبهاني ، حدثنا إسماعيل بن عمرو البجلي ، حدثنا حماد بن شعيب ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير{[22813]} ، عن ابن عباس قال : كان يلبي أهل الشرك : لبيك اللهم [ لبيك ]{[22814]} ، لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك . فأنزل الله : { هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ }{[22815]} .
ولما كان التنبيه بهذا المثل على براءته تعالى ونزاهته بطريق الأولى والأحرى ، قال : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { ضَرَبَ لَكُمْ مّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لّكُمْ مّن مّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : مثل لكم أيها القوم ربكم مثلاً من أنفسكم ، هل لكم مما ملكت أيمانكم يقول : من مماليككم من شركاء ، فيما رزقناكم من مال ، فأنتم فيه سواء وهم . يقول : فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها لي شركاء في عبادتكم إياي ، وأنتم وهم عبيدي ومماليكي ، وأنا مالك جميعكم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أنْفُسكمْ هَلْ لَكُمْ مِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِيما رَزَقْناكُمْ ، فأنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ قال : مثل ضربه الله لمن عدل به شيئا من خلقه ، يقول : أكان أحدكم مشاركا مملوكه في فراشه وزوجته ، فكذلكم الله لا يرضى أن يعدل به أحد من خلقه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ ممّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِيما رَزَقْناكُمْ ، فأنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ قال : هل تجد أحدا يجعل عبده هكذا في ماله ، فكيف تعمد أنت وأنت تشهد أنهم عبيدي وخلقي ، وتجعل لهم نصيبا في عبادتي ، كيف يكون هذا ؟ قال : وهذا مثل ضربه الله لهم ، وقرأ : كَذلكَ نُفَصّلُ الاَياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أنْفُسَكُمْ فقال بعضهم : معنى ذلك : تخافون هؤلاء الشركاء مما ملكت أيمانكم أن يرثوكم أموالكم من بعد وفاتكم ، كما يرث بعضكم بعضا . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قال : في الاَلهة ، وفيه يقول : تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : تخافون هؤلاء الشركاء مما ملكت أيمانكم أن يقاسموكم أموالكم ، كما تقاسم بعضكم بعضا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت عمران قال : قال أبو مجلز : إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك ، وليس له ذلك ، كذلك الله لا شريك له .
وأولى القولين بالصواب في تأويل ذلك القول الثاني ، لأنه أشبههما بما دلّ عليه ظاهرالكلام ، وذلك أن الله جلّ ثناؤه وبخ هؤلاء المشركين الذين يجعلون له من خلقه آلهة يعبدونها ، وأشركوهم في عبادتهم إياه ، وهم مع ذلك يقرّون بأنها خلقه وهم عبيده ، وعيرهم بفعلهم ذلك ، فقال لهم : هل لكم من عبيدكم شركاء فيما خوّلناكم من نعمنا ، فهم سواء ، وأنتم في ذلك تخافون أن يقاسموكم ذلك المال الذي هو بينكم وبينهم ، كخيفة بعضكم بعضا أن يقاسمه ما بينه وبينه من المال شركة فالخيفة التي ذكرها تعالى ذكره بأن تكون خيفة مما يخاف الشريك من مقاسمة شريكه المال الذي بينهما إياه أشبه من أن تكون خيفة منه بأن يرثه ، لأن ذكر الشركة لا يدلّ على خيفة الوراثة ، وقد يدلّ على خيفة الفراق والمقاسمة .
وقوله : كذلكَ نُفَصّلُ الاَياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يقول تعالى ذكره : كما بيّنا لكم أيها القوم حججنا في هذه الاَيات من هذه السورة على قدرتنا على ما نشاء من إنشاء ما نشاء ، وإفناء ما نحبّ ، وإعادة ما نريد إعادته بعد فنائه ، ودللنا على أنه لا تصلح العبادة إلاّ للواحد القهار ، الذي بيده ملكوت كلّ شيء ، كذلك نبين حججنا في كل حقّ لقوم يعقلون ، فيتدبرونها إذا سمعوها ، ويعتبرون فيتعظون بها .
{ ضرب لكم مثلا من أنفسكم } منتزعا من أحوالها التي هي اقرب الأمور إليكم . { هل لكم من ما ملكت أيمانكم } من مماليككم . { من شركاء فيما رزقناكم } من الأموال وغيرها . { فأنتم فيه سواء } فتكونوا أنتم وهم فيه شرعا يتصرفون فيه كتصرفكم مع أنهم بشر مثلكم وأنها معارة لكم ، و{ من } الأولى للابتداء والثانية للتبعيض والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي . { تخافونهم } أن يستبدوا بتصرف فيه . { كخيفتكم أنفسكم } كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض . { كذلك } مثل ذلك التفضيل . { نفصل الآيات } نبينها فإن التفصيل مما يكشف المعاني ويوضحها . { لقوم يعقلون } يستعملون عقولهم في تدبر الأمثال .
ثم بين تعالى أمر الأصنام وفساد معتقد من يشركها بالله بضربه هذا المثل ، ومعناه أنكم أيها الناس إذا كان لكم عبيد تملكونهم فإنكم لا تشركونهم في أموالكم ومهمّ أموركم ، ولا في شيء على جهة استواء المنزلة ، وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم أو يقاسموكم إياها في حياتكم كما يفعل بعضكم ببعض فإذا كان هذا فيكم فكيف تقولون إن من عبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته ، وتثبتون في جانبه ما لا يليق بكم عندكم بجوانبكم ، هذا تفسير ابن عباس والجماعة .
وجاء هذا المعنى في معرض السؤال والتقرير ، وقرأ الناس «كخيفتكم أنفسَكم » بنصب السين ، وقرأ ابن أبي عبلة «أنفسُكم » بضمها ، وقرأ الجمهور «نفصل » بالنون حملاً على { رزقناكم } ، وقرأ عباس عن أبي عمرو «يفصل » بالياء حملاً على { ضرب لكم مثلاً } .