التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{ضَرَبَ لَكُم مَّثَلٗا مِّنۡ أَنفُسِكُمۡۖ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ فَأَنتُمۡ فِيهِ سَوَآءٞ تَخَافُونَهُمۡ كَخِيفَتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (28)

وبعد هذا التطواف المتنوع فى آفاق الأنفس ، وفى أعماق هذا الكون ، ضرب - سبحانه - مثلا لا مجال للجدل فيه ، لوضوحه واعتماده على المنطق السليم ، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يمضى فى طرييقه المستقيم ، كما أمر المؤمنين بأن يلتجئوا إليه - سبحانه - وحده وأن يصونوا أنفسهم عن كل ما يغضبه ، فقال - تعالى - : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً . . . . لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } .

و { مِّنْ } فى قوله - سبحانه - : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ } ابتدائية ، والجار والمجرور فى محل نصب ، صفة لقوله : { مَّثَلاً } .

أى : ضرب لكم - أيها الناس - مثلا ، يظهر منه بطلان الشكر ظهورا واضحا ، وهذا المثل كائن من أحوال أنفسكم ، التى هى أقرب شئ لديكم .

قال القرطبى : والآية نزلت فى كفار قريش ، كانوا يقولون فى التلبية : " لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك . . " .

وقوله - تعالى - : { هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ } تصوير وتفضيل للمثل ، والاستفهام للإِنكار والنفى . و { مِّن } الأولى للتبعيض ، والثانية لتأكيد النفى ، وقوله { شُرَكَآءَ } مبتدأ ، وخبره { لَّكُمْ } وقوله : { مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } متعلق بمحذوف حال من شركاء .

وقوله : { فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } جواب للاستفهام الذى هو بمعنى النفى . والجملة مبتدأ وخبر . وقوله : { تَخَافُونَهُمْ } خبر ثان لأنتم ، وقوله : { كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } صفة لمصدر محذوف ، أى : تخافونهم خيفة كائنة مثل خيفتكم من هو من نوعكم .

والمعنى : ضرب الله - تعالى - لكم - أيها الناس - مثلا منتزعا من أنفسكم التى هى أقرب شئ إليكم ، وبيان هذا المثل : أنكم لا ترضون أن يشارككم فى أموالاكم التى رزقناكم إياها ، عبيدكم وإماؤكم ، مع أنهم مثلكم فى البشرية ، ونحن الذين خلقناهم كما خلقناكم ، بل إنكم لتخافون على أموالكم منهم ، أن يشاركوكم فيها ، كما تخافون عليها من الأحرار المشابهين لكم فى الحرية وفى جواز التصرف فى تلك الأموال . فإذا كان هذا شأنكم مع عبيدكم - الذين هم مثلكم فى البشرية ، والذين لم تخلقوهم بل نحن الذين خلقناكم وخلقناهم - فكيف أجزتم لأنفسكم أن تشركوا مع الله - تعالى - آلهة أخرى فى العبادة ، مع أنه - سبحانه - هو الخالق لكم ولهم ، والرازق لكم ولهم ؟ ! !

إن تصرفكم هذا ظاهر التناقض والبطلان ، لأنكم لم ترضوا أن يشارككم غيركم فى أموالكم ، ورضيتم أن تشركوا مع الله - تعالى - : غيره فى العبادة ، مع أنه - سبحانه - هو الخالق والرازق لكل شئ .

فالمقصود من الآية الكريمة ، إبطال الشرك بأبلغ أسلوب ، وأوضح بيان ، وأصدق حجة ، وأقوى دليل .

ولذا ختمها - سبحانه - بقوله : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أى : مثل ذلك التفصيل الجلى الواضح ، نفصل الآيات الدالة على وحدانيتنا ، لقوم يعقلون هذه الأمثال ، وينتفعون بها فى إخلاص العبادة لله الواحد القهار .

قال الإِمام القرطبى : قال بعض العلماء : هذه الآية أصل فى الشركة بين المخلوقين ، لافتقار بعضهم إلى بعض ، ونفيها عن الله - سبحانه - وذلك أنه قال - سبحانه - : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ } فيجب أن يقولوا : ليس عبيدنا شركاءنا فيما رزقتنا ، فيقال لهم : فكيف يتصور أن تنزهوا أنفسكم عن مشاركة عبيدكم ، وتجعلوا عبيدى شركائى فى خلقى ، فهذا حكم فاسد ، وقلة نظر وعمى قلب ! !

فإذا أبطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة ، والخلق كلهم عبدي الله - تعالى - فيبطل أن يكون شئ من العالم شركا لله - تعالى - فى شئ من أفعاله .

ثم قال - رحمه الله - : وهذه المسألة أفضل للطالب ، من حفظ ديوان كامل فى الفقه ، لأن جميع العبادات البدنية ، لا تصح إلا بتصحيح هذه المسألة فى القلب فافهم ذلك .