فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ضَرَبَ لَكُم مَّثَلٗا مِّنۡ أَنفُسِكُمۡۖ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ فَأَنتُمۡ فِيهِ سَوَآءٞ تَخَافُونَهُمۡ كَخِيفَتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (28)

قوله : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً } قد تقدّم تحقيق معنى المثل ، و{ من } في { مّنْ أَنفُسِكُمْ } لابتداء الغاية وهي ومجرورها في محلّ نصب صفة لمثلاً ، أي مثلاً منتزعاً ، ومأخوذاً من أنفسكم ، فإنها أقرب شيء منكم ، وأبين من غيرها عندكم ، فإذا ضرب لكم المثل بها في بطلان الشرك كان أظهر دلالة وأعظم وضوحاً . ثم بين المثل المذكور فقال : { هَلْ لَّكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن شُرَكَاء في مَا رزقناكم } . " من " في { مما ملكت } للتبعيض ، وفي { من شركاء } زائدة للتأكيد ، والمعنى : هل لكم شركاء فيما رزقناكم كائنون من النوع الذي ملكت أيمانكم ؟ وهم العبيد والإماء ، والاستفهام للإنكار ، وجملة { فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء } جواب للاستفهام الذي بمعنى النفي ، ومحققه لمعنى الشركة بينهم وبين العبيد والإماء المملوكين لهم في أموالهم ، أي هل ترضون لأنفسكم ، والحال أن عبيدكم وإماءكم أمثالكم في البشرية أن يساووكم في التصرّف بما رزقناكم من الأموال ، ويشاركوكم فيها من غير فرق بينكم وبينهم ؟ { تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } الكاف نعت مصدر محذوف ، أي تخافونهم خيفة كخيفتكم أنفسكم ، أي كما تخافون الأحرار المشابهين لكم في الحرية وملك الأموال وجواز التصرف ، والمقصود نفي الأشياء الثلاثة : الشركة بينهم وبين المملوكين ، والاستواء معهم ، وخوفهم إياهم . وليس المراد ثبوت الشركة ونفي الاستواء والخوف كما قيل في قولهم : ما تأتينا فتحدّثنا . والمراد : إقامة الحجة على المشركين فإنهم لا بدّ أن يقولوا لا نرضى بذلك ، فيقال لهم : فكيف تنزّهون أنفسكم عن مشاركة المملوكين لكم وهم أمثالكم في البشرية ، وتجعلون عبيد الله شركاء له ؟ فإذا بطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة ؛ بطلت الشركة بين الله وبين أحد من خلقه ، والخلق كلهم عبيد الله تعالى ، ولم يبق إلاّ أنه الربّ وحده لا شريك له . قرأ الجمهور { أنفسكم } بالنصب على أنه معمول المصدر المضاف إلى فاعله ، وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على إضافة المصدر إلى مفعوله { كذلك نُفَصّلُ الآيات } تفصيلاً واضحاً وبياناً جلياً { لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } لأنهم الذين ينتفعون بالآيات التنزيلية والتكوينية باستعمال عقولهم في تدبرها والتفكر فيها .

/خ37