قوله تعالى : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان } ، لا يضلنكم الشيطان .
قوله تعالى : { كما أخرج أبويكم } ، أي : كما فتن أبويكم آدم وحواء فأخرجهما .
قوله تعالى : { من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما } ، أي ليرى كل واحد سوأة الآخر .
قوله تعالى : { إنه يراكم } ، يعني أن الشيطان يراكم يا بني آدم .
قوله تعالى : { هو وقبيله } ، جنوده ، قال ابن عباس : هو وولده ، وقال قتادة : قبيله الجن والشياطين .
قوله تعالى : { من حيث لا ترونهم } ، قال مالك بن دينار : إن عدواً يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصم الله .
قوله تعالى : { إنا جعلنا الشياطين أولياء } ، قرناء وأعواناً .
قوله تعالى : { للذين لا يؤمنون } وقال الزجاج : سلطانهم عليهم يزيدون في غيهم كما قال : { إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا } [ مريم :83 ] .
{ 27 } { يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ }
يقول تعالى ، محذرا لبني آدم أن يفعل بهم الشيطان كما فعل بأبيهم : { يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ } بأن يزين لكم العصيان ، ويدعوكم إليه ، ويرغبكم فيه ، فتنقادون له { كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ } وأنزلهما من المحل العالي إلى أنزل منه ، فأنتم يريد أن يفعل بكم كذلك ، ولا يألو جهده عنكم ، حتى يفتنكم ، إن استطاع ، فعليكم أن تجعلوا الحذر منه في بالكم ، وأن تلبسوا لَأْمَةَ الحرب بينكم وبيْنه ، وأن لا تغفُلوا عن المواضع التي يدخل منها إليكم .
ف { إِنَّهُ } يراقبكم على الدوام ، و { يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ } من شياطين الجن { مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } فعدم الإيمان هو الموجب لعقد الولاية بين الإنسان والشيطان .
{ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ }
( يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ، ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما ، إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ، إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون . وإذا فعلوا فاحشة قالوا : وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها . قل : إن الله لا يأمر بالفحشاء ، أتقولون على الله ما لا تعلمون ؟ قل : أمر ربي بالقسط ، وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ، وادعوه مخلصين له الدين ، كما بدأكم تعودون . فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة ، إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ، ويحسبون أنهم مهتدون ) . .
إنه النداء الثاني لبني آدم ، في وقفة التعقيب على قصة أبويهم ، وما جرى لهما مع الشيطان ؛ وعلى مشهد العري الذي أوقفهما فيه عدوهما ، بسبب نسيانهما أمر ربهما والاستماع إلى وسوسة عدوهما .
وهذا النداء يصبح مفهوماً بما قدمناه من الحديث عن تقاليد الجاهلية العربية في حكاية العري عند الطواف بالبيت ؛ وزعمهم أن ما وجدوا عليه آباءهم هو من أمر الله وشرعه !
لقد كان النداء الأول تذكيراً لبني آدم بذلك المشهد الذي عاناه أبواهم ؛ وبنعمة الله في إنزال اللباس الذي يستر العورة والرياش الذي يتجمل به . . أما هذا النداء الثاني فهو التحذير لبني آدم عامة وللمشركين الذين يواجههم الإسلام في الطليعة . أن يستسلموا للشيطان ، فيما يتخذونه لأنفسهم من مناهج وشرائع وتقاليد ؛ فيسلمهم إلى الفتنة - كما فعل مع أبويهم من قبل إذ أخرجهما من الجنة ونزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما - - فالعري والتكشف الذي يزاولونه - والذي هو طابع كل جاهلية قديماً وحديثاً - هو عمل من أعمال الفتنة الشيطانية ، وتنفيذ لخطة عدوهم العنيدة في إغواء آدم وبنيه ؛ وهوطرف من المعركة التي لا تهدأ بين الإنسان وعدوه . فلا يدع بنو آدم لعدوهم أن يفتنهم ؛ وأن ينتصر في هذه المعركة ، وأن يملأ منهم جهنم في نهاية المطاف ( يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما ) .
وزيادة في التحذير ، واستثارة للحذر ، ينبئهم ربهم أن الشيطان يراهم هو وقبيله من حيث لا يرونهم .
وإذن فهو أقدر على فتنتهم بوسائله الخفية ؛ وهم محتاجون إلى شدة الاحتياط ، وإلى مضاعفة اليقظة ، وإلى دوام الحذر ، كي لا يأخذهم على غرة :
( إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) . .
ثم الإيقاع المؤثر الموحي بالتوقي . . إن الله قدر أن يجعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون . . ويا ويل من كان عدوه وليه ! إنه إذن يسيطر عليه ويستهويه ويقوده حيث شاء ، بلا عون ولا نصير ، ولا ولاية من الله :
أعيد خطاب بني آدم ، فهذا النّداء تكملة للآي قبله ، بُني على التّحذير من متابعة الشّيطان إلى إظهار كيده للنّاس من ابتداء خلقهم ، إذ كاد لأصلهم .
والنّداء بعنوان بني آدم : للوجه الذي ذكرتُه في الآية قبلها ، مع زيادة التّنويه بمنّة اللّباس توكيداً للتّعريض بحماقة الذين يحجّون عُراة . وقد نهوا عن أن يفتنهم الشّيطان ، وفتون الشّيطان حصول آثار وسوسته ، أي لا تمكّنوا الشّيطان من أن يفتنكم ، والمعنى النّهي عن طاعته ، وهذا من مبالغة النّهي ، ومنه قول العرب لاَ أعْرِفَنَّك تفعل كذا : أي لا تَفْعَلَن فأعْرِفَ فعلك ، لا أرَيَنَّكَ هنا : أي لا تحضرن هنا فأراك ، فالمعنى لا تطيعوا الشّيطان في فتْنِهِ فيفتنَكم ومثل هذا كناية عن النّهي عن فعل والنّهي عن التّعرّض لأسبابه .
وشُبّه الفتون الصّادر من الشّيطان للنّاس بِفَتنِهِ آدمَ وزوجَه إذْ أقدمهما على الأكل من الشجّرة المنهي عنه ، فأخرجهما من نعيم كانا فيه ، تذكيراً للبشر بأعظم فتنة فتن الشّيطان بها نوعهم ، وشملتْ كلّ أحد من النّوع ، إذ حُرم من النّعيم الذي كان يتحقق له لو بقي أبواه في الجنّة وتناسلا فيها ، وفي ذلك أيضاً تذكير بأنّ عداوة البشر للشّيطان موروثة ، فيكون أبعث لهم على الحذر من كيده .
و ( ما ) في قوله : { كما أخرج } مصدريّة ، والجار والمجرور في موضع الصّفة لمصدر محذوف هو مفعول مطلق ليفتننّكم ، والتّقدير : فُتوناً كإخراجه أبويكم من الجنّة ، فإنّ إخراجه إياهما من الجنّة فتون عظيم يشبه به فتون الشّيطان حين يراد تقريب معناه للبشر وتخويفهم منه .
والأبوان تثنية الأب ، والمراد بهما الأبُ والأمّ على التّغليب ، وهو تغليب شائع في الكلام وتقدّم عند قوله تعالى : { ولأبويه } في سورة النّساء ( 11 ) . وأطلق الأب هنا عن الجدّ لأنّه أب أعلى ، كما في قول النبي : أنا ابن عبدِ المطّلب .
وجملة : { ينزع عنهما لباسهما } في موضع الحال المقارنة من الضّمير المستتر في : { أخرج } أو من : { أبويكم } والمقصود من هذه الحال تفظيع هيئة الإخراج بكونها حاصلة في حال انكشاف سَوْآتهما لأنّ انكشاف السوءة من أعظم الفظائع في متعارف النّاس .
والتّعبير عمّا مضى بالفعل المضارع لاستحضار الصّورة العجيبة من تمكّنه من أن يتركهما عريانين .
واللّباسُ تقدّم قريباً ، ويجوز هنا أن يكون حقيقة وهو لباسٌ جلَّلهما الله به في تلك الجنّة يحجب سوآتهما ، كما روي أنّه حِجاب من نور ، وروي أنّه كقشر الأظفار وهي روايات غير صحيحة . والأظهر أنّ نزع اللّباس تمثيل لحال التّسبّب في ظهور السوءة .
وكرّر التّنويه باللّباس تمكيناً للتّمهيد لقوله تعالى بعده : { خذوا زينتكم عند كل مسجد } [ الأعراف : 31 ] .
وإسناد الإخراج والنّزع والإراءة إلى الشّيطان مجاز عقلي ، مبني على التّسامح في الإسناد بتنزيل السّبب منزلة الفاعل ، سواء اعتبر النّزع حقيقة أم تمثيلاً ، فإنّ أطراف الإسناد المجازي العقلي تكون حقائق ، وتكون مجازات ، وتكون مختلفة ، كما تقرّر في علم المعاني .
واللاّم في قوله : { ليريهما سوآتهما } لام التّعليل الادّعائي ، تبعاً للمجاز العقلي ، لأنّه لمّا أسند الإخراج والنّزع والإراءة إليه على وجه المجاز العقلي ، فجعل كأنّه فاعل الإخراجِ ونزعِ لباسهِما وإراءتِهما سوآتِهما ، ناسب أن يجعل له غرض من تلك الأفعال وهو أن يُريهما سَوآتهما ليَتِم ادّعاء كونه فاعلَ تلك الأفعال المضرّة ، وكونِه قاصداً من ذلك الشّناعة والفظاعة ، كشأن الفاعلين أن تكون لهم علل غائية من أفعالهم إتماماً للكيد ، وإنّما الشّيطان في الواقع سبب لرؤيتهما سوآتهما ، فانتظم الإسناد الادّعائي مع التّعليل الادّعائي ، فكانت لام العلّة تقوية للإسناد المجازي ، وترشيحاً له ، ولأجل هذه النّكتة لم نجعل اللاّم هنا للعاقبة كما جعلناها في قوله : { فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووُري عنهما من سوآتهما } [ الأعراف : 20 ] إذ لم تقارن اللاّم هنالك إسناداً مجازياً .
وفي الآية إشارة إلى أنّ الشّيطان يهتم بكشف سوأة ابن آدم لأنّه يسرّه أن يراه في حالة سوء وفظاعة .
وجملة : { إنه يريكم هو وقبيله } واقعة موقع التّعليل للنّهي عن الافتتان بفتنة الشّيطان ، والتّحذير من كيده ، لأنّ شأن الحَذِرِ أن يَرصد الشّيء المخوف بنظره ليحترس منه إذا رأى بَوادره ، فأخبر الله النّاس بأنّ الشّياطين تَرى البشر ، وأنّ البشر لا يرونها ، إظهاراً للتّفاوت بين جانب كيدهم وجانب حذر النّاس منهم ، فإنّ جانب كيدهم قويّ متمكّن وجانب حذر النّاس منهم ضعيف ، لأنّهم يأتون المكيد من حيث لا يدري .
فليس المقصود من قوله : { إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } تعليم حقيقة من حقائق الأجسام الخفيّة عن الحواس وهي المسمّاة بالمجرّدات في اصطلاح الحكماء ويسمّيها علماؤنا الأرواح السفليّة إذ ليس من أغراض القرآن التّصدّي لتعليم مثل هذا إلاّ ما له أثر في التّزكية النّفسية والموعظة .
والضّمير الذي اتّصلت به ( إنّ ) عائد إلى الشّيطان وعُطف : { وقبيله } على الضّمير المستتر في قوله : { يريكم } ولذلك فصل بالضّمير المنفصل . وذُكر القبيل ، وهو بمعنى القبيلة ، للدّلالة على أنّ له أنصاراً ينصرونه على حين غفلة من النّاس ، وفي هذا المعنى تقريب حال عداوةِ الشّياطين بما يعهده العرب من شدّة أخذِ العدوّ عدوّه على غرّة من المأخوذ ، تقول العرب : أتَاهم العَدوّ وهم غَارّون .
وتأكيد الخبر بحرف التّوكيد لتنزيل المخاطبين في إعراضهم عن الحذر من الشّيطان وفتنته منزلة من يتردّدون في أنّ الشيطان يراهم وفي أنّهم لا يرونه .
و { من حيث لا ترونهم } ابتداء مكان مبهم تنتفي فيه رؤية البشر ، أي من كلّ مكان لا ترونهم فيه ، فيفيد : إنّه يراكم وقبيلهُ وأنتم لا ترونه قريباً كانوا أو بعيداً ، فكانت الشّياطين محجوبين عن أبصار البشر ، فكان ذلك هو المعتاد من الجنسين ، فرؤية ذوات الشّياطين منتفية لا محالة ، وقد يخول الله رؤية الشّياطين أو الجنّ متشكّلة في أشكال الجسمانيات ، معجزةً للأنبياء كما ورد في الصّحيح : " إنّ عفريتاً من الجنّ تَفَلَّت عليّ اللّيلةَ في صلاتي فَهَمَمْت أن أوثقه في سارِية من المسجد " الحديث ، أو كرامةً للصّالحين من الأمم كما في حديث الذي جاء يسرق من زكاة الفطر عند أبي هريرة ، وقول النّبيء صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة : " ذلك شيطان " كما في « الصّحيحين » ، ولا يكون ذلك إلاّ على تشكل الشّيطانِ أو الجنّ في صورة غير صورته الحقيقيّة ، بتسخير الله لتتمكّن منه الرّؤية البشريّة ، فالمرئيّ في الحقيقة الشّكل الذي ماهيةُ الشّيطان من ورائه ، وذلك بمنزلة رؤية مكاننٍ يُعلم أنّ فيه شيطاناً ، وطريق العلم بذلك هو الخبر الصّادق ، فلولا الخبر لما عُلم ذلك .
وجملة : { إنا جعلنا الشيطان أولياء للذين لا يؤمنون } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً قصد منه الانتقال إلى أحوال المشركين في ائتمارهم بأمر الشّيطان ، تحذيراً للمؤمنين من الانتظام في سلكهم ، وتنفيراً من أحوالهم ، والمناسبة هي التّحذير وليس لهذه الجملة تعلّق بجملةِ : { إنه يريكم هو وقبيله } .
وتأكيد الخبر بحرف التّأكيد للاهتمام بالخبر بالنّسبة لمن يسمعه من المؤمنين . والجعل هنا جعل التّكوين ، كما يعلم من قوله تعالى : { بعضكم لبعض عدو } [ الأعراف : 24 ] بمعنى خلقنا الشّياطين .
و { أولياءَ } حال من { الشياطين } وهي حال مقدرة أي خلقناهم مُقدرة وَلايتُهم للّذين لا يؤمنون ، وذلك أنّ الله جبل أنواع المخلوقات وأجناسَها على طبائِع لا تنتقل عنها ، ولا تقدر على التّصرّف بتغييرها : كالافتراس في الأسد ، واللّسع في العقرب ، وخلق للإنسان العقلَ والفكر فجعله قادراً على اكتساب ما يختار ، ولما كان من جبلة الشّياطين حبّ ما هو فساد ، وكان من قدرة الإنسان وكسبه أنّه قد يتطلّب الأمر العائد بالفساد ، إذا كان له فيه عاجلُ شهوة أو كان يشبه الأشياء الصّالحة في بادىء النّظرة الحمقاء ، كان الإنسان في هذه الحالة موافقاً لطبع الشّياطين ، ومؤتمراً بما تسوله إليه ، ثمّ يغلِب كسب الفساد والشرّ على الذين توغّلوا فيه وتدرّجوا إليه ، حتّى صار المالكَ لإراداتهم ، وتلك مَرتبَة المشركين ، وتتفاوت مراتب هذه الولاية ، فلا جرم نشأت بينهم وبين الشّياطين ولاية ووفاق لتقارب الدّواعي ، فبذلك انقلبت العداوة التي في الجبلة التي أثبتها قوله : { إنّ الشيطان لكما عدو مبين } [ الأعراف : 22 ] وقوله { بعضكم لبعض عدو } [ الأعراف : 24 ] فصارت ولاية ومحبّة عند بلوغ ابن آدم آخرَ دركات الفساد ، وهو الشّرك وما فيه ، فصار هذا جعلا جديداً ناسخاً للجعل الذي في قوله : { بعضكم لبعض عدو } كما تقدّمت الإشارة إليه هنالك ، فما في هذه الآية مقيّد للإطلاق الذي في الآية الأخرى تنبيها على أن من حقّ المؤمن أن لا يوالي الشّيطان .
والمراد بالذين لا يؤمنون المشركون ، لأنّهم المضادون للمؤمنين في مكّة ، وستجيء زيادة بيان لهذه الآية عند قوله تعالى : { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم } في هذه السورة ( 35 ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يا بني آدم لا يخدعنكم الشيطان فيبدي سوآتكم للناس بطاعتكم إياه عند اختباره لكم، كما فعل بأبويكم آدم وحوّاء عند اختباره إياهما فأطاعاه وعصيا ربهما فأخرجهما بما سبب لهما من مكره وخدْعه من الجنة، ونزع عنهما ما كان ألبسهما من اللباس ليريهما سوآتهما بكشف عورتهما وإظهارها لأعينهما بعد أن كانت مستترة. وقد بيّنا فيما مضى أن معنى الفتنة الاختبار والابتلاء بما أغنى عن إعادته. وقد اختلف أهل التأويل في صفة اللباس الذي أخبر الله جلّ ثناؤه أنه نزعه عن أبوينا وما كان، فقال بعضهم: كان ذلك أظفارا. وقال آخرون: كان لباسهما نورا. وقال آخرون: إنما عنى الله بقوله: يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِباسَهُما يسلبهما تقوى الله.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى حذّر عباده أن يفتنهم الشيطان كما فتن أبويهم آدم وحوّاء، وأن يجرّدهم من لباس الله الذي أنزله إليهم، كما نزع عن أبويهم لباسهما. واللباس المطلق من الكلام بغير إضافة إلى شيء في متعارف الناس، هو ما اختار فيه اللابس من أنواع الكساء، أو غطى بدنه أو بعضه. وإذ كان ذلك كذلك، فالحقّ أن يقال: إن الذي أخبر الله عن آدم وحوّاء من لباسهما الذي نزعه عنهما الشيطان هو بعض ما كانا يواريان به أبدانهما وعورتهما وقد يجوز أن يكون ذلك كان ظُفُرا، ويجوز أن يكون نورا، ويجوز أن يكون غير ذلك، ولا خبر عندنا بأيّ ذلك تثبت به الحجة، فلا قول في ذلك أصوب من أن يقال كما قال جلّ ثناؤه:"يَنْزعُ عَنهُما لِباسَهُما". وأضاف جلّ ثناؤه إلى إبليس إخراج آدم وحوّاء من الجنة، ونزع ما كان عليهما من اللباس عنهما وإن كان الله جلّ ثناؤه هو الفاعل ذلك بهما عقوبة على معصيتهما إياه، إذ كان الذي كان منهما في ذلك عن تشبيه ذلك لهما بمكره وخداعه، فأضيف إليه أحيانا بذلك المعنى، وإلى الله أحيانا بفعله ذلك بهما. "إنّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إنّا جَعَلْنا الشيّاطِينَ أولِياءَ للّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ". يعني جلّ ثناؤه بذلك: إن الشيطان يراكم هو، والهاء في «إنه» عائدة على الشيطان. وقبيله: يعني وصنفه وجنسه الذي هو منه... قبيله: نسله...
وقوله: "مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ "يقول: من حيث لا ترون أنتم أيها الناس الشيطان وقبيلَه. "إنّا جَعَلْنا الشّياطِينَ أوْلِياءَ للّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ "يقول: جعلنا الشياطين نصراء الكفار الذين لا يوحدون الله ولا يصدّقون رسله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
...قال بعضهم: خاطب به أهل مكة في تكذيبهم رسول الله ومخالفتهم أمره في ألاّ يخرجكم من الأمن والسعة {كما أخرج أبويكم من} دار الأمن والسعة. وقال بعضهم: قوله تعالى {لا يفتننّكم الشيطان} أي احذروا دعاءه إلى ما يدعوكم إليه فإنه يمنع عنكم في الآخرة الكرامة والثواب {كما أخرج أبويكم من} دار الكرامة والمنزلة. وقال أهل التأويل: {لا يفتننّكم الشيطان} أي لا يضلّنّكم الشيطان ولا يغوينّكم كما فعل بأبويكم: أخرجهما من الجنة، وقال آخرون: قوله تعالى: {لا يفتننّكم الشيطان} بما تهوى به أنفسكم، وتميل إلى شهواتها وأمانيها {كما أخرج أبويكم من الجنة} بما هوته نفساهما وشهواتهما؛ يحذّرهما اتباع هوى النفس وشهواتها وأمانيها؛ فإن السبب الذي به كان إخراجهما هو هوى النفس وأمانيها.
..قيل في الفتنة إنها: المحنة بالدعاء إلى المعصية من جهة الشهوة أو الشبهة، والخطاب توجه إلى الإنسان بالنهي عن فتنة الشيطان وإنما معناه التحذير من فتنة الشيطان وإلزام التحرّز منه...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ}: من حيث لا تعلمون مكرهم وفتنتهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والنزع: قلع الشيء من موضعه الذي هو ملابس له.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هَوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}. لا يحصل للعبد احتراس من رؤية الشيطان إياه وهو عنه غائب إلا برؤية العبد للحق -سبحانه- بقلبه، فيستغيث إليه من كيده، فيُدْخِلْه -سبحانه- في كنف عنايته فيجد الخلاص من مكر الشيطان.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان} لا يمتحننكم بأن لا تدخلوا الجنة، كما محن أبويكم بأن أخرجهما منها {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} حال، أي أخرجهما نازعاً لباسهما، بأن كان سبباً في أن نزع عنهما. {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ} تعليل للنهي وتحذير من فتنته، بأنه بمنزلة العدوّ المداجي يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون...
{إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي خلينا بينهم وبينهم لم نكفهم عنهم حتى تولوهم وأطاعوهم فيما سولوا لهم من الكفر والمعاصي، وهذا تحذير آخر أبلغ من الأول.
اعلم أن المقصود من ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام حصول العبرة لمن يسمعها، فكأنه تعالى لما ذكر قصة آدم وبين فيها شدة عداوة الشيطان لآدم وأولاده أتبعها بأن حذر أولاد آدم من قبول وسوسة الشيطان فقال: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} وذلك لأن الشيطان لما بلغ أثر كيده ولطف وسوسته وشدة اهتمامه إلى أن قدر على إلقاء آدم في الزلة الموجبة لإخراجه من الجنة فبأن يقدر على أمثال هذه المضار في حق بني آدم أولى. فبهذا الطريق حذر تعالى بني آدم بالاحتراز عن وسوسة الشيطان فقال: {لا يفتننكم الشيطان} فيترتب عليه أن لا تدخلوا الجنة كما فتن أبويكم، فترتب عليه خروجهما منها وأصل الفتون عرض الذهب على النار وتخليصه من الغش. ثم أتى في القرآن بمعنى المحنة.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
{مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} قال ذو النون: إن كان هو يراك من حيث لا تراه فاستعن بمن يراه من حيث لا يراه وهو الله الكريم الستار الرحيم الغفار.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان المقصود من ذكر القصص لاسيما قصص الأنبياء الاعتبار بها، فكان بيان ما وقع بين آدم عليه السلام وبين الشيطان من شديد العداوة مقتضياً للتحذير من الشيطان، وكان المقام خطراً والتخلص عسراً، أشار إلى ذلك بالتأكيد وبيان ما سلط الشيطان به من المكايد الخفية والأسباب الدقيقة ليعلم الناجي أنه إنما نجا بمحض التوفيق ومجرد اللطف فيقبل على الشكر متبرئاً من الحول والقوة، فقال منادياً لهم بما يفهم الاستعطاف والتراؤف والتحنن والترفق والاستضعاف: {يا بني آدم} أي الذي خلقته بيدي وأسكنته جنتي ثم أنزلته إلى دار محبتي إرادة الإعلاء لكم إلى الذروة من عبادتي والإسفال إلى الحضيض من معصيتي {لا يفتننكم} أي لا يخالطنكم بما يميلكم عن الاعتدال... ولما كان الشيطان قد بذل الجهد في إخراجهما، فسر الإخراج -مشيراً إلى ذلك- بإطالة الوسواس وإدامة المكر والخديعة بالتعبير بالفعل المضارع فقال في موضع الحال من ضمير "الشيطان ": {ينزع عنهما} أي بالتسبيب بإدامة التزيين والأخذ من المأمن {لباسهما} أي الذي كان الله سبحانه قد سترهما به ما داما حافظين لأنفسهما من مواقعة ما نهيا عنه، ودل على منافاة الكشف للجنة بالتعليل بقوله: {ليريهما سوءاتهما} فإن ذلك مبدأ ترك الحياء و "الحياء والإيمان في قرن "- كما أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنهما، و" الحياء لا يأتي إلا بخير "- كما رواه الشيخان عن عمران بن حصين رضي الله عنهما...
ولما كان نهي الشيطان عن فتنتنا إنما هو في الحقيقة نهي لنا عن الافتتان به، فهو في قوة ليشتد حذركم من فتنته فإنه دقيق الكيد بعيد الغور بديع المخاتلة؛ علل ذلك بقوله: {إنه يراكم} أي الشيطان {هو وقبيله} أي جنوده {من حيث لا ترونهم}... ولما كان كأنه قيل: لم سلطوا علينا هذا التسليط العظيم الذي لا يكاد يسلم معه أحد، قال مخففاً لأمرهم موهياً في الحقيقة لكيدهم: {إنا} أي فعلنا ذلك لأنا بما لنا من العظمة {جعلنا الشياطين} أي المحترقين بالغضب البعيدين من الرحمة {أولياء} أي قرباء وقرناء {للذين لا يؤمنون*} أي يجددون الإيمان، لأن بينهم تناسباً في الطباع يوجب الاتباع، وأما أولياؤنا الذين منعناهم بقوتنا منهم أو فتناهم يسيراً بهم، ثم خلصناهم بلطفنا منهم فليسوا لهم بأولياء، بل هم لهم أعداء وآيتهم أنهم يؤمنون، والمعنى أنا مكناهم من مخاتلتكم بسترهم عنكم وإظهاركم لهم، فسلطناهم بذلك على من حكمنا بأنه لا يؤمن بتزيينهم لهم وتسويلهم واستخفافهم بأن ينصروهم في بعض المواطن ويوصلوهم إلى شيء من المطالب، فعلنا ذلك ليتبين الرجل الكامل -الذي يستحق الدرجات العلى ويتردد إليه الملائكة بالسلام والجنى من غيره فخذوا حذركم فإن الأمر خطر والخلاص عسر،... وبعبارة أخرى: إنا سلكناكم طريقاً وجعلنا بجنبتيها أعداء يرونكم ولا ترونهم، وأقدرناهم على بعضكم، فمن سلك سواء السبيل نجا ومن شذ أسره العدو، ومن دنا من الحافات بمرافقة الشبهات قارب العدو ومن قاربه استغواه، فكلما دنا منه تمكن من أسره، وكل من تمكن من أسره بعد الخلاص فاحذروا،...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وجملة القول أن الله تعالى فضل الإنس على الجن وجعلهم أرقى منهم، ولو كانوا يرون المكلفين منهم كالشياطين لتصرفوا فيهم كما يتصرفون بجنة الهوام وميكروبات الأمراض وفاقا لقول الحبر ابن عباس رضي الله عنه أن خوفهم منا أشد من خوفنا منهم، والوسوسة منهم تكون على قدر استعدادنا لقبولها فذنبها علينا. وما يذكره الناس من ضررهم وصرعهم فأكثره كذب ودجل والنادر لا حكم له.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أعيد خطاب بني آدم، فهذا النّداء تكملة للآي قبله، بُني على التّحذير من متابعة الشّيطان إلى إظهار كيده للنّاس من ابتداء خلقهم، إذ كاد لأصلهم.
والنّداء بعنوان بني آدم: للوجه الذي ذكرتُه في الآية قبلها، مع زيادة التّنويه بمنّة اللّباس توكيداً للتّعريض بحماقة الذين يحجّون عُراة. وقد نهوا عن أن يفتنهم الشّيطان، وفتون الشّيطان حصول آثار وسوسته، أي لا تمكّنوا الشّيطان من أن يفتنكم، والمعنى النّهي عن طاعته، وهذا من مبالغة النّهي، ومنه قول العرب لاَ أعْرِفَنَّك تفعل كذا: أي لا تَفْعَلَن فأعْرِفَ فعلك، لا أرَيَنَّكَ هنا: أي لا تحضرن هنا فأراك، فالمعنى لا تطيعوا الشّيطان في فتْنِهِ فيفتنَكم ومثل هذا كناية عن النّهي عن فعل والنّهي عن التّعرّض لأسبابه.
وشُبّه الفتون الصّادر من الشّيطان للنّاس بِفَتنِهِ آدمَ وزوجَه إذْ أقدمهما على الأكل من الشجّرة المنهي عنه، فأخرجهما من نعيم كانا فيه، تذكيراً للبشر بأعظم فتنة فتن الشّيطان بها نوعهم، وشملتْ كلّ أحد من النّوع، إذ حُرم من النّعيم الذي كان يتحقق له لو بقي أبواه في الجنّة وتناسلا فيها، وفي ذلك أيضاً تذكير بأنّ عداوة البشر للشّيطان موروثة، فيكون أبعث لهم على الحذر من كيده.
و (ما) في قوله: {كما أخرج} مصدريّة، والجار والمجرور في موضع الصّفة لمصدر محذوف هو مفعول مطلق ليفتننّكم، والتّقدير: فُتوناً كإخراجه أبويكم من الجنّة، فإنّ إخراجه إياهما من الجنّة فتون عظيم يشبه به فتون الشّيطان حين يراد تقريب معناه للبشر وتخويفهم منه.
والأبوان تثنية الأب، والمراد بهما الأبُ والأمّ على التّغليب، وهو تغليب شائع في الكلام وتقدّم عند قوله تعالى: {ولأبويه} في سورة النّساء (11). وأطلق الأب هنا عن الجدّ لأنّه أب أعلى، كما في قول النبي: أنا ابن عبدِ المطّلب.
وجملة: {ينزع عنهما لباسهما} في موضع الحال المقارنة من الضّمير المستتر في: {أخرج} أو من: {أبويكم} والمقصود من هذه الحال تفظيع هيئة الإخراج بكونها حاصلة في حال انكشاف سَوْآتهما لأنّ انكشاف السوءة من أعظم الفظائع في متعارف النّاس.
والتّعبير عمّا مضى بالفعل المضارع لاستحضار الصّورة العجيبة من تمكّنه من أن يتركهما عريانين.
واللّباسُ تقدّم قريباً، ويجوز هنا أن يكون حقيقة وهو لباسٌ جلَّلهما الله به في تلك الجنّة يحجب سوآتهما، كما روي أنّه حِجاب من نور، وروي أنّه كقشر الأظفار وهي روايات غير صحيحة. والأظهر أنّ نزع اللّباس تمثيل لحال التّسبّب في ظهور السوءة.
وكرّر التّنويه باللّباس تمكيناً للتّمهيد لقوله تعالى بعده: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31].
وإسناد الإخراج والنّزع والإراءة إلى الشّيطان مجاز عقلي، مبني على التّسامح في الإسناد بتنزيل السّبب منزلة الفاعل، سواء اعتبر النّزع حقيقة أم تمثيلاً، فإنّ أطراف الإسناد المجازي العقلي تكون حقائق، وتكون مجازات، وتكون مختلفة، كما تقرّر في علم المعاني.
واللاّم في قوله: {ليريهما سوآتهما} لام التّعليل الادّعائي، تبعاً للمجاز العقلي، لأنّه لمّا أسند الإخراج والنّزع والإراءة إليه على وجه المجاز العقلي، فجعل كأنّه فاعل الإخراجِ ونزعِ لباسهِما وإراءتِهما سوآتِهما، ناسب أن يجعل له غرض من تلك الأفعال وهو أن يُريهما سَوآتهما ليَتِم ادّعاء كونه فاعلَ تلك الأفعال المضرّة، وكونِه قاصداً من ذلك الشّناعة والفظاعة، كشأن الفاعلين أن تكون لهم علل غائية من أفعالهم إتماماً للكيد، وإنّما الشّيطان في الواقع سبب لرؤيتهما سوآتهما، فانتظم الإسناد الادّعائي مع التّعليل الادّعائي، فكانت لام العلّة تقوية للإسناد المجازي، وترشيحاً له، ولأجل هذه النّكتة لم نجعل اللاّم هنا للعاقبة كما جعلناها في قوله: {فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووُري عنهما من سوآتهما} [الأعراف: 20] إذ لم تقارن اللاّم هنالك إسناداً مجازياً.
وفي الآية إشارة إلى أنّ الشّيطان يهتم بكشف سوأة ابن آدم لأنّه يسرّه أن يراه في حالة سوء وفظاعة.
وجملة: {إنه يراكم هو وقبيله} واقعة موقع التّعليل للنّهي عن الافتتان بفتنة الشّيطان، والتّحذير من كيده، لأنّ شأن الحَذِرِ أن يَرصد الشّيء المخوف بنظره ليحترس منه إذا رأى بَوادره، فأخبر الله النّاس بأنّ الشّياطين تَرى البشر، وأنّ البشر لا يرونها، إظهاراً للتّفاوت بين جانب كيدهم وجانب حذر النّاس منهم، فإنّ جانب كيدهم قويّ متمكّن وجانب حذر النّاس منهم ضعيف، لأنّهم يأتون المكيد من حيث لا يدري.
فليس المقصود من قوله: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} تعليم حقيقة من حقائق الأجسام الخفيّة عن الحواس وهي المسمّاة بالمجرّدات في اصطلاح الحكماء ويسمّيها علماؤنا الأرواح السفليّة إذ ليس من أغراض القرآن التّصدّي لتعليم مثل هذا إلاّ ما له أثر في التّزكية النّفسية والموعظة.
والضّمير الذي اتّصلت به (إنّ) عائد إلى الشّيطان وعُطف: {وقبيله} على الضّمير المستتر في قوله: {يراكم} ولذلك فصل بالضّمير المنفصل. وذُكر القبيل، وهو بمعنى القبيلة، للدّلالة على أنّ له أنصاراً ينصرونه على حين غفلة من النّاس، وفي هذا المعنى تقريب حال عداوةِ الشّياطين بما يعهده العرب من شدّة أخذِ العدوّ عدوّه على غرّة من المأخوذ، تقول العرب: أتَاهم العَدوّ وهم غَارّون.
وتأكيد الخبر بحرف التّوكيد لتنزيل المخاطبين في إعراضهم عن الحذر من الشّيطان وفتنته منزلة من يتردّدون في أنّ الشيطان يراهم وفي أنّهم لا يرونه.
و {من حيث لا ترونهم} ابتداء مكان مبهم تنتفي فيه رؤية البشر، أي من كلّ مكان لا ترونهم فيه، فيفيد: إنّه يراكم وقبيلهُ وأنتم لا ترونه قريباً كانوا أو بعيداً، فكانت الشّياطين محجوبين عن أبصار البشر، فكان ذلك هو المعتاد من الجنسين، فرؤية ذوات الشّياطين منتفية لا محالة، وقد يخول الله رؤية الشّياطين أو الجنّ متشكّلة في أشكال الجسمانيات، معجزةً للأنبياء كما ورد في الصّحيح:"إنّ عفريتاً من الجنّ تَفَلَّت عليّ اللّيلةَ في صلاتي فَهَمَمْت أن أوثقه في سارِية من المسجد" الحديث، أو كرامةً للصّالحين من الأمم كما في حديث الذي جاء يسرق من زكاة الفطر عند أبي هريرة، وقول النّبيء صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: "ذلك شيطان "كما في « الصّحيحين»، ولا يكون ذلك إلاّ على تشكل الشّيطانِ أو الجنّ في صورة غير صورته الحقيقيّة، بتسخير الله لتتمكّن منه الرّؤية البشريّة، فالمرئيّ في الحقيقة الشّكل الذي ماهيةُ الشّيطان من ورائه، وذلك بمنزلة رؤية مكان يُعلم أنّ فيه شيطاناً، وطريق العلم بذلك هو الخبر الصّادق، فلولا الخبر لما عُلم ذلك.
وجملة: {إنا جعلنا الشيطان أولياء للذين لا يؤمنون} مستأنفة استئنافاً ابتدائياً قصد منه الانتقال إلى أحوال المشركين في ائتمارهم بأمر الشّيطان، تحذيراً للمؤمنين من الانتظام في سلكهم، وتنفيراً من أحوالهم، والمناسبة هي التّحذير وليس لهذه الجملة تعلّق بجملةِ: {إنه يريكم هو وقبيله}.
وتأكيد الخبر بحرف التّأكيد للاهتمام بالخبر بالنّسبة لمن يسمعه من المؤمنين. والجعل هنا جعل التّكوين، كما يعلم من قوله تعالى: {بعضكم لبعض عدو} [الأعراف: 24] بمعنى خلقنا الشّياطين.
و {أولياءَ} حال من {الشياطين} وهي حال مقدرة أي خلقناهم مُقدرة وَلايتُهم للّذين لا يؤمنون، وذلك أنّ الله جبل أنواع المخلوقات وأجناسَها على طبائِع لا تنتقل عنها، ولا تقدر على التّصرّف بتغييرها: كالافتراس في الأسد، واللّسع في العقرب، وخلق للإنسان العقلَ والفكر فجعله قادراً على اكتساب ما يختار، ولما كان من جبلة الشّياطين حبّ ما هو فساد، وكان من قدرة الإنسان وكسبه أنّه قد يتطلّب الأمر العائد بالفساد، إذا كان له فيه عاجلُ شهوة أو كان يشبه الأشياء الصّالحة في بادئ النّظرة الحمقاء، كان الإنسان في هذه الحالة موافقاً لطبع الشّياطين، ومؤتمراً بما تسوله إليه، ثمّ يغلِب كسب الفساد والشرّ على الذين توغّلوا فيه وتدرّجوا إليه، حتّى صار المالكَ لإراداتهم، وتلك مَرتبَة المشركين، وتتفاوت مراتب هذه الولاية، فلا جرم نشأت بينهم وبين الشّياطين ولاية ووفاق لتقارب الدّواعي، فبذلك انقلبت العداوة التي في الجبلة التي أثبتها قوله: {إنّ الشيطان لكما عدو مبين} [الأعراف: 22] وقوله {بعضكم لبعض عدو} [الأعراف: 24] فصارت ولاية ومحبّة عند بلوغ ابن آدم آخرَ دركات الفساد، وهو الشّرك وما فيه، فصار هذا جعلا جديداً ناسخاً للجعل الذي في قوله: {بعضكم لبعض عدو} كما تقدّمت الإشارة إليه هنالك، فما في هذه الآية مقيّد للإطلاق الذي في الآية الأخرى تنبيها على أن من حقّ المؤمن أن لا يوالي الشّيطان.
والمراد بالذين لا يؤمنون المشركون، لأنّهم المضادون للمؤمنين في مكّة، وستجيئ زيادة بيان لهذه الآية عند قوله تعالى: {يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم} في هذه السورة (35).
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
والفتنة معناها في أصل اللغة: فتن الفلزات من الذهب والفضة والحديد، والنحاس، لإخراج ما يكون فيها من مادة ليست من جوهرها. ثم أطلقت على كل شدة يتميز بها الخبيث من الطيب، وتختبر فيها الإرادات ويتميز فيها ذوو العزائم، ثم كانت للنتيجة وهي محاولة خداع النفوس بالإتيان بما يهد العزيمة ويضع الإرادة، بخداع النفس، وإرهاق الإرادة والطغيان على حكم العقل وإضعاف سلطانه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} الذي يستر عورتيهما في ما ألقى الله عليهما من ألوان الستر، {لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ} وليعيشا الإحساس بالخزي والعار. ولا بد لكم من اليقظة الروحية الدائمة، والوعي المنفتح المستمر، والرصد المتتابع المتحرّك لكل كلمةٍ، أو همسةٍ، أو فكرةٍ، أو عاطفةٍ، أو علاقةٍ، أو عملٍ، أو شهوة، أو طموح... لأنه يحاول الاختباء في كل واحدةٍ من هذه ليشوّه فيها جمال الطهر، ونقاء الروح، واستقامة الطريق... لا بد من التحرك على كل الصعد، وبكل الوسائل التي وهبها الله للإنسان من عقلٍ وإرادة وإيمان.. لأنكم تخوضون المعركة في داخل نفوسكم وخارجها ضد عدوٍ لا تعرفونه بالحسّ، ولا تعرفون أعوانه وجنوده، إلا بما يعرّفكم الله من وسائله ومخططاته، بينما يراكم هو وقبيله، بكل ما تعيشونه من أفكار ومشاعر، وبكل ما يحيط بكم من قضايا وأوضاع...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
...فقد يتساءل أحد: كيف سلّط الله العادل الرحيم عدوّاً بهذه القوة على الإنسان... عدوّاً لا يمكن مقايسة قواه بقوى الإنسان... عدواً يذهب حيث يشاء دون أن يحس أحد بتحركاته، بل إنّه حسبما جاء في بعض الأحاديث يجري من الإنسان مجرى الدم في عروقه، فهل تنسجم هذه الحقيقة مع عدالة الله سبحانه؟! الآية الشريفة في خاتمتها ترد على هذا السؤال الاحتمالي إذ تقول: (إنّا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون). أي إنّ الشياطين لا يسمح لهم قط بأن يتسلّلوا وينفذوا إلى قلوب وأرواح المؤمنين الذين لم يكونوا على استعداد لقبول الشيطان والتعامل معه. وبعبارة أُخرى: إنّ الخطوات الأُولى نحو الشيطان إنّما يخطوها الإنسان نفسه، وهو الذي يسمح للشيطان بأن يتسلل إلى مملكة جسمه. فالشيطان لا يستطيع اجتياز حدود الروح ويعبرها إلاّ بعد موافقة من الإنسان نفسه، فإذا أغلق الإنسان نوافذ قلبه في وجه الشياطين والأبالسة، فسوف لا تتمكن من النفوذ إلى باطنه. إن الآيات القرآنية الأُخرى شاهدة أيضاً على هذه الحقيقة، ففي سورة النحل في الآية (100) نقرأ (إنّما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون)، فالذين يتعشقون الشيطان ويسلمون إليه زمام أمرهم ويعبدونه هم الذين يتعرضون لسيطرته ووساوسه.
وبعبارة أُخرى: صحيح أنّنا لا نرى الشيطان وجنوده وأعوانه، إلاّ أننا نستطيع أن نرى آثار أقدامهم، ففي كل مجلس معصية، وفي كل مكان تهيّأت فيه وسائل الذنب، وفي كل مكان توفرت فيه زبارج الدنيا وبهارجها، وعند طغيان الغرائز، وعند اشتعال لهيب الغضب، يكون حضور الشيطان حتمياً ومسلَّماً، وكأنَّ الإنسان يسمع في هذه المواقع صوت وساوس الشيطان بآذان قلبه، ويرى آثار قدمه بأُمّ عينيه.