الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ لَا يَفۡتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ كَمَآ أَخۡرَجَ أَبَوَيۡكُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ يَنزِعُ عَنۡهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوۡءَٰتِهِمَآۚ إِنَّهُۥ يَرَىٰكُمۡ هُوَ وَقَبِيلُهُۥ مِنۡ حَيۡثُ لَا تَرَوۡنَهُمۡۗ إِنَّا جَعَلۡنَا ٱلشَّيَٰطِينَ أَوۡلِيَآءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ} (27)

قوله تعالى : { لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ } : هو نهيٌ للشيطان في الصورة ، والمراد نَهْيُ المخاطبين عن متابعته والإِصغاءِ إليه ، وقد تقدم معنى ذلك في قوله

{ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } [ الأعراف : 2 ] . وقرأ ابن وثاب وإبراهيم : " لا يُفْتِنَنَّكم " بضمِّ حرفِ المضارعة مِنْ أفتنه بمعنى حَمَلَه على الفتنة . وقرأ زيد بن علي " لا يَفْتِنْكم " بغير نون توكيد .

قوله : { كَمَآ أَخْرَجَ } نعتٌ لمصدرٍ محذوف أي : لا يَفْتنكم فتنةً مثلَ فتنة إخراج أبوَيْكم . ويجوز أن يكون التقدير : لا يُخْرِجَنَّكم بفتنته إخراجاً مثل إخراجه أبويكم . وقوله : " يَنْزِع " جملة في محل نصب على الحال . وفي صاحبها احتمالان ، أحدهما : أنه الضمير في " أخرج " العائدُ على الشيطان ، والثاني : أنه الأبوين ، وجاز الوجهان لأنَّ المعنى يَصِحُّ على كلٍ من التقديرين ، والصناعةُ مساعدةٌ لذلك ؛ فإن الجملة مشتملة على ضمير الأبوين وعلى ضمير الشيطان . قال الشيخ : " فلو كان بدل " ينزع " نازعاً تعيَّن الأولُ ، لأنه إذ ذاك لو جُوِّز الثاني لكان وصفاً جرى على غير مَنْ هو له فكان يجب إبراز الضمير ، وذلك على مذهب البصريين " . قلت : يعني أنه يفرَّق/ بين الاسم والفعل إذا جريا على غير ما هما له في المعنى : فإن كان اسماً كان مذهبُ البصريين ما ذكر ، وإن كان فعلاً لم يَحْتَجْ إلى ذلك . وقد تقدَّم لك الكلامُ على هذه المسألة ، وأن الشيخ جمال الدين بن مالك سَوَّى بينهما ، وأن مكيَّاً له فيها كلام مُشْكل .

و { يَنْزِعُ } جيء بلفظ المضارع على أنه حكاية حال كأنها قد وقَعَتْ وانقضَتْ . والنَّزْعُ : الجَذْبُ بقوة للشيء عن مقرِّه ، ومنه { تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] ومنه نَزْع القوس ، وتستعمل في الأَعْراض ، ومنه نَزْعُ العداوة والمحبة من القلب ، ونُزِع فلانٌ كذا سُلِبَه ، ومنه { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً } [ النازعات : 1 ] لأنها تَقْلع أرواح الكفرة بشدة ، ومنه المنازعةُ وهي المخاصمة ، والنَّزْع عن الشيء كفٌّ عنه ، والنزوع : الاشتياق الشديد ، ومنه نَزَع إلى وطنه ونَزَع إلى مذهب كذا نَزْعَةً ، وأنزع القومُ : نَزَعَتْ إبلهم إلى مواطنها ، ورجل أَنْزَعُ أي زال شعرُه ، والنَّزْعتان بياض يكتنف الناصية ، والنَّزْعة أيضاً الموضع مِنْ رأس الأنزع ، ولا يقال امرأة نَزْعاء إذا كان بها ذلك ، بل يقال لها : زَعْراء ، وبئر نَزُوع أي قريبة القَعْر لأنها يُنزع منها باليد .

قوله : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ } : " هو " تأكيد للضمير المتصل ليسوغَ العطفُ عليه ، كذا عبارة بعضهم . قال الواحدي : " أعاد الكناية ليحسن العطف كقوله : { اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ } [ البقرة : 35 ] قلت : ولا حاجةَ إلى التأكيد في مثل هذه الصورةِ لصحة العطف ، إذ الفاصلُ هنا موجودٌ وهو كافٍ في صحة العطف ، فليس نظيرَ { اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ } .

وقد تقدَّم لك بحثٌ في { اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ } وهو أنه ليسَ من باب العطف على الضمير لمانعٍ ذُكر ثَمَّةَ .

و { وَقَبِيلُهُ } المشهورُ قراءته بالرفع نسقاً على الضمير المستتر ، ويجوز أن يكونَ نسقاً على اسم " إنَّ " على الموضع عند مَنْ يجيز ذلك ، ولا سيما عند مَنْ يقول : يجوز ذلك بعد الخبر بإجماع . ويجوز أن يكون مبتدأً محذوفَ الخبر فتحصَّل في رفعه ثلاثة أوجه . وقرأ اليزيدي " وقبيلَه " نصباً وفيها تخريجان ، أحدهما : أنه منصوب نسقاً على اسم إنَّ لفظاً إنْ قلنا إنَّ الضميرَ عائد على الشيطان ، وهو الظاهر . والثاني : أنه مفعولٌ معه أي : يراكم مصاحباً لقبيله . والضمير في " إنه " فيه وجهان الظاهرُ منهما كما تقدَّم أنه للشيطان . والثاني : أن يكون ضمير الشأن ، وبه قال الزمخشري ، ولا حاجةَ تدعو إلى ذلك .

والقبيل : الجماعة يكونون من ثلاثة فصاعداً من جماعة شتى ، هذا قول أبي عبيد . والقبيلةُ : الجماعةُ من أب واحد ، فليست القبيلةُ تأنيثَ القبيل لهذه المغايرة .

قوله : { مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } " مِنْ " لابتداء غاية الرؤية ، و " حيث " ظرفُ لمكان انتفاء الرؤية ، و " لا تَرَوْنهم " في محل خفض بإضافة الظرف إليه ، هذا هو الظاهر في إعراب هذه الآية .

وثَمَّ كلامٌ مُشْكل منقول عن أبي إسحاق ، رأيت ذِكْرَه لئلا يَتَوَهَّم صحتَه مَنْ رآه . قال أبو إسحاق : " ما بعد " حيث " صلةٌ لها وليست بمضافةٍ إليه " . قال الفارسي : " هذا غيرُ مستقيم ، ولا يَصِحُّ أن يكون ما بعد " حيث " صلةً لها ؛ لأنه إذا كان صلة لها وَجَبَ أن يكونَ للموصول فيه ذكرٌ ، كما أن في سائر صلات الموصول ذِكْراً للموصول ، فخلُّو الجملة التي بعد " حيث " من ضميرٍ يعود على " حيث " دليلٌ على أنها ليست صلة لحيث ، وإذا لم تكن صلةً كانت مضافة . فإن قيل : نقدِّر العائد في هذا كما نقدِّر العائدَ في الموصولات ، فإذا قلت : " رأيتك حيث زيد قائم " كان التقدير : حيث قائمه ، ولو قلت : رأيتك حيث قام زيد " كان التقدير : حيث قام زيد فيه ، ثم اتُّسِع في الحرف فَحُذِف فاتصل الضمير فحذف ، كما يُحْذف في قولك : " زيد الذي ضربت " أي : الذي ضربته . قيل : لو أريد ذلك لجاز استعمالُ هذا الأصل ، فَتَرْكُهم لهذا الاستعمالِ دليلٌ على أنه ليس أصلاً له " .

قلت : أبو إسحاق لم يَعْتقد كونَها موصولةً بمعنى الذي ، لا يقول بذلك أحد ، وإنما يزعم أنها ليست مضافةً للجملة بعدها فصارت كالصلة لها أي كالزيادة ، وهو كلامٌ متهافت ، فالردُّ عليه من هذه الحيثيَّةِ لا من حيثية اعتقادِه لكونها موصولةً . ويُحتمل أن يكون مرادُه أن الجملة لَمَّا كانت من تمام معناها بمعنى أنها مفتقرةٌ إليها كافتقار الموصول لصلته أُطْلق عليها هذه العبارة ، ويَدُلُّ على ما قلته أنَّ مكياً ذكر في علة بنائها فقال : " ولأنَّ ما بعدها مِنْ تمامها كالصلة والموصول " إلا أنه يَرضى أنها مضافةٌ لما بعدها .

وقرئ { مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُ } بالإِفراد ، وذلك يحتمل وجهين أحدهما : يكون الضميرُ عائداً على الشيطان وحده دون قبيله ، لأنه هو رأسُهم وهم تَبَعٌ له ولأنه المَنْهيُّ [ عنه ] أول الكلام ، وأن يكون عائداً عليه وعلى قبيله ، ووحَّد الضميرَ إجراءً له مُجرى اسم الإِشارة في قوله تعالى { عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ } [ البقرة : 68 ] . ونظير هذه القراءة/ قول رؤبة :

فيها خطوطٌ من سَوادٍ وبَلَقْ *** كأنه في الجلد توليعُ البَهَقْ

وقد تقدم هذا البيتُ بحكايته معه في البقرة .

قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا } يحتمل أن يكون بمعنى صَيَّر أي : صَيَّرْنا الشياطينَ أولياءَ . وقال الزهراوي : " جعل هنا بمعنى وصف " وهذا لا يُعْرَفُ في " جعل " ، وكأنه فرارٌ من إسناد جَعْل الشياطين أولياء لغير المؤمنين إلى الله تعالى وكأنها نزعةٌ اعتزالية . و " للذين " متعلق بأولياء لأنه في معنى الفعل ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف لأنه صفةٌ لأولياء .