قوله تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه } أي : مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { على أمر جامع } يجمعهم من حرب حضرت ، أو صلاة أو جمعة أو عيد أو جماعة أو تشاور في أمر نزل { لم يذهبوا } لم يتفرقوا عنه ، لم ينصرفوا عما اجتمعوا له من الأمر ، { حتى يستأذنوه } قال المفسرون : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يخرج من المسجد ، لحاجة أو عذر ، لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يراه ، فيعرف أنه إنما قام يستأذن ، فيأذن لمن شاء منهم . قال مجاهد : وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده . قال أهل العلم : وكذلك كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن ، وإذا استأذن فللإمام إن شاء أذن له وإن شاء لم يأذن ، وهذا إذا لم يكن له سبب يمنعه من المقام ، فإن حدث سبب يمنعه من المقام بأن يكون في المسجد فتحيض منهم امرأة ، أو يجنب رجل ، أو يعرض له مرض ، فلا يحتاج إلى الاستئذان{ إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم } أي : أمرهم ، { فأذن لمن شئت منهم } في الانصراف ، معناه : إن شئت فأذن وإن شئت فلا تأذن . { واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم* }
{ 62 - 64 ْ } { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ْ }
هذا إرشاد من الله لعباده المؤمنين ، أنهم إذا كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم على أمر جامع ، أي : من ضرورته أو من مصلحته ، أن يكونوا فيه جميعا ، كالجهاد ، والمشاورة ، ونحو ذلك من الأمور التي يشترك فيها المؤمنون ، فإن المصلحة تقتضي اجتماعهم عليه وعدم تفرقهم ، فالمؤمن بالله ورسوله حقا ، لا يذهب لأمر من الأمور ، لا يرجع لأهله ، ولا يذهب لبعض الحوائج التي يشذ بها عنهم ، إلا بإذن من الرسول أو نائبه من بعده ، فجعل موجب الإيمان ، عدم الذهاب إلا بإذن ، ومدحهم على فعلهم هذا وأدبهم مع رسوله وولي الأمر منهم ، فقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ْ } ولكن هل يأذن لهم أم لا ؟ ذكر لإذنه لهم شرطين :
أحدهما : أن يكون لشأن من شئونهم ، وشغل من أشغالهم ، فأما من يستأذن من غير عذر ، فلا يؤذن له .
والثاني : أن يشاء الإذن فتقتضيه المصلحة ، من دون مضرة بالآذن ، قال : { فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ْ } فإذا كان له عذر واستأذن ، فإن كان في قعوده وعدم ذهابه مصلحة برأيه ، أو شجاعته ، ونحو ذلك ، لم يأذن له ، ومع هذا إذا استأذن ، وأذن له بشرطيه ، أمر الله رسوله أن يستغفر له ، لما عسى أن يكون مقصرا في الاستئذان ، ولهذا قال : { وَاسْتَغْفِرْ لَهُم اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ْ } يغفر لهم الذنوب ويرحمهم ، بأن جوز لهم الاستئذان مع العذر .
( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ) . . لا الذين يقولون بأفواههم ثم لا يحققون مدلول قولهم ؛ ولا يطيعون الله ورسوله .
( وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ) . . والأمر الجامع الأمر الهام الذي يقتضي اشتراك الجماعة فيه ، لرأى أو حرب أو عمل من الأعمال العامة . فلا يذهب المؤمنون حتى يستأذنوا إمامهم . كي لا يصبح الأمر فوضى بلا وقار ولا نظام .
وهؤلاء الذين يؤمنون هذا الإيمان ، ويلتزمون هذا الأدب ، لا يستأذنون إلا وهم مضطرون ؛ فلهم من إيمانهم ومن أدبهم عاصم ألا يتخلوا عن الأمر الجامع الذي يشغل بال الجماعة ، ويستدعي تجمعها له . . ومع هذا فالقرآن يدع الرأي في الإذن أو عدمه للرسول[ صلى الله عليه وسلم ] رئيس الجماعة . بعد أن يبيح له حرية الإذن : ( فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم ) . . [ وكان قد عاتبه على الإذن للمنافقين من قبل فقال : ( عفا الله عنك ! لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ) ] . . يدع له الرأى فإن شاء أذن ، وإن شاء لم يأذن ، فيرفع الحرج عن عدم الإذن ، وقد تكون هناك ضرورة ملحة . ويستبقي حرية التقدير لقائد الجماعة ليوازن بين المصلحة في البقاء والمصلحة في الانصراف . ويترك له الكلمة الأخيرة في هذه المسألة التنظيمية يدبرها بما يراه .
ومع هذا يشير إلى أن مغالبة الضرورة ، وعدم الانصراف هو الأولى ؛ وأن الاستئذان والذهاب فيهما تقصير أو قصور يقتضي استغفار النبي [ صلى الله عليه وسلم ] للمعتذرين : ( واستغفر لهم الله . إن الله غفور رحيم ) . . وبذلك يقيد ضمير المؤمن . فلا يستأذن وله مندوحة لقهر العذر الذي يدفع به إلى الاستئذان .
لما جرى الكلام السابق في شأن الاستئذان للدخول عُقب ذلك بحكم الاستئذان للخروج ومفارقة المجامع فاعتُني من ذلك بالواجب منه وهو استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم في مفارقة مجلسه أو مفارقة جمععٍ جُمِع عن إذنه لأمر مهم كالشورى والقتال والاجتماع للوعظ ونحو ذلك .
وكان من أعمال المنافقين أن يحضروا هذه المجامع ثم يتسللوا منها تفادياً من عمل يشق أو سآمةً من سماع كلام لا يهتبلون به ، فنعى الله عليهم فعلهم هذا وأعلم بمنافاته للإيمان وأنه شعار النفاق ، بأن أعرض عن وصف نفاق المنافقين واعتنى باتصاف المؤمنين الأحقاء بضد صفة المنافقين قال تعالى : { وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون } [ التوبة : 127 ] ولذلك جاء في أواخر هذه الآيات قوله : { قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لِوَاذاً } [ النور : 63 ] .
فالقصر المستفاد من ( إنما ) قصر موصوف على صفة . والتعريف في { المؤمنون } تعريف الجنس أو العهد ، أي أن جنس المؤمنين أو أن الذين عُرفوا بوصف الإيمان هم الذين آمنوا بالله ورسوله ولم ينصرفوا حتى يستأذنوه . فالخبر هو مجموع الأمور الثلاثة وهو قصر إضافي قصر إفراد ، أي لا غيرُ أصحاب هذه الصفة من الذين أظهروا الإيمان ولا يستأذنون الرسول عند إرادة الانصراف ، فجعل هذا الوصف علامة مميزة للمؤمنين الأحقاء عن المنافقين يومئذٍ إذ لم يكن في المؤمنين الأحقاء يومئذٍ من ينصرف عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم بدون إذنه ، فالمقصود : إظهار علامة المؤمنين وتمييزهم عن علامة المنافقين . فليس سياق الآية لبيان حقيقة الإيمان لأن للإيمان حقيقة معلومة ليس استئذان النبي صلى الله عليه وسلم عند إرادة الذهاب من أركانها ، فعلمت أن ليس المقصود من هذا الحصر سلب الإيمان عن الذي ينصرف دون إذن من المؤمنين الأحقاء لو وقع منه ذلك عن غير قصد الخذل للنبيء صلى الله عليه وسلم أو أذاه ، إذ لا يعدو ذلك لو فعله أحد المؤمنين عن أن يكون تقصيراً في الأدب يستحق التأديب والتنبيه على تجنب ذلك لأنه خصلة من النفاق كما ورد التحذير من خصال النفاق في أحاديث كثيرة .
وعلمتَ أيضاً أن ليس المقصود من التعريف في { المؤمنون } معنى الكمال لأنه لو كان كذلك لم يحصل قصد التشهير بنفاق المنافقين .
والأمر : الشأن والحال المهم . وتقدم في قوله : { وأولي الأمر منكم } في سورة النساء ( 59 ) .
والجامع : الذي من شأنه أن يجتمع الناس لأجله للتشاور أو التعلم . والمراد : ما يجتمع المسلمون لأجله حول الرسول عليه الصلاة والسلام في مجلسه أو في صلاة الجماعة . وهذا ما يقتضيه ( مع ) و ( على ) من قوله : { معه على أمر جامع } لإفادة ( مع ) معنى المشاركة وإفادة ( على ) معنى التمكن منه .
ووصف الأمر ب { جامع } على سبيل المجاز العقلي لأنه سبب الجمع . وتقدم في قوله تعالى : { فأجمعوا أمركم } في سورة يونس ( 71 ) .
وعن مالك : أن هذه الآية نزلت في المنافقين يوم الخندق ( وذلك سنة خمس ) كان المنافقون يتسللون من جيش الخندق ويعتذرون بأعذار كاذبة .
وجملة : { إن الذين يستأذنونك } إلى آخرها تأكيد لجملة : { إنما المؤمنون } لأن مضمون معنى هذه الجملة هو مضمون معنى جملة : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله } الآية . وقد تفنن في نظم الجملة الثانية بتغيير أسلوب الجملة الأولى فجعل مضمون المسند في الأولى مسنداً إليه في الثانية والمسند إليه في الأولى مسنداً في الثانية ومآل الأسلوبين واحد لأن المآل الإخبار بأن هذا هو ذاك على حدِّ : وشعري شعري ، تنويهاً بشأن الاستئذان ، وليبنى عليها تفريع { فإذا استئذنوك لبعض شأنهم } ليُعلِّم المؤمنين الأعذار الموجبة للاستئذان ، أي ليس لهم أن يستأذنوا في الذهاب إلا لشأن مهم من شؤونهم .
ووقع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله : { يستأذنوك } تشريفاً للرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب .
وقد خير الله رسوله في الإذن لمن استأذنه من المؤمنين لأنه أعلم بالشأن الذي قضاؤه أرجح من حضور الأمر الجامع لأن مشيئة النبي لا تكون عن هوى ولكن لعذر ومصلحة .
وقوله : { واستغفر لهم الله } مؤذن بأن ذلك الانصراف خلاف ما ينبغي لأنه لترجيح حاجته على الإعانة على حاجة الأمة .
وهذه الآية أصل من نظام الجماعات في مصالح الأمة لأن من السنة أن يكون لكل اجتماع إمام ورئيس يدير أمر ذلك الاجتماع . وقد أشارت مشروعية الإمامة إلى ذلك النظام . ومن السنة أن لا يجتمع جماعة إلا أمّروا عليهم أميراً فالذي يترأس الجمع هو قائم مقام ولي أمر المسلمين فهو في مقام النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينصرف أحد عن اجتماعه إلا بعد أن يستأذنه ، لأنه لو جعل أمر الانسلال لشهوة الحاضر لكان ذريعة لانفضاض الاجتماعات دون حصول الفائدة التي جُمعت لأجلها ، وكذلك الأدب أيضاً في التخلف عن الاجتماع عند الدعوة إليه كاجتماع المجالس النيابية والقضائية والدينية أو التخلف عن ميقات الاجتماع المتفق عليه إلا لعذر واستئذان .